لا عجب في أن الفساد لا يزال متفشيًا ومترسخًا في منطقة ثبت فيها أن أي محاولة لإرساء الديمقراطية باتت كالمهمة المستحيلة، ولا تزال فيها الحريات المدنية تقبع تحت الرقابة الحكومية القمعية كما فُسخ فيها العقد الاجتماعي بين الدول ومواطنيها منذ عقود مضت.
ويكشف مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية لعام 2018 أن استمرار فشل معظم البلدان في السيطرة بشكل كبير على الفساد يساهم في أزمة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، حيث يقوض الفساد المؤسسات الديمقراطية، وبدورها، المؤسسات الضعيفة أقل قدرة على السيطرة على الفساد.
ويبقى الفساد السياسي تحديًا مفصليًا، وذلك على الرغم من سعي عدة حكومات في المنطقة إلى وضع مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في صدارة أولوياتها الوطنية، ويعود ذلك في جزء منه إلى وجود أطراف متورطة في الفساد تبذل قصارى جهدها لإحباط هذه التدابير، وهي تتمتع للأسف بتأثير كبير على القادة السياسيين.
ترتيب الدول العربية على مؤشر الفساد لعام 2018 – المصدر: منظمة الشفافية الدولية
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. هل أتاك حديث غورباتشوف؟
كشف مؤشر مدركات الفساد عن صورة قاتمة لواقع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث أخفقت معظم بلدان المنطقة في مكافحة الفساد على الرغم من أن قلة قليلة من البلدان أحرزت تقدمًا تدريجيًا، وبمعدل 39 درجة تأتي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد الأمريكتين ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ (معدل 44 درجة للمنطقتين)، وهي أفضل حالاً بنسبة طفيفة فقط من أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى (معدل 35 درجة) وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء (معدل 32 درجة).
رغم متانة المقومات، ما زالت الإمارات تفتقر للمؤسسات الديمقراطية واحترام الحقوق السياسية، ويجعل ذلك من جهود مكافحة الفساد رهينة الإرادة السياسية للطبقة الحاكمة الحاليّة
وحصلت الإمارات العربية المتحدة على 70 درجة، وهو ما يجعلها في صدارة بلدان المنطقة في مؤشر مدركات الفساد، ، لكن رغم متانة المقومات، ما زالت الإمارات تفتقر للمؤسسات الديمقراطية واحترام الحقوق السياسية، ويجعل ذلك من جهود مكافحة الفساد رهينة الإرادة السياسية للطبقة الحاكمة الحاليّة، التي يمكن أن تتغير في أي لحظة وتتجاهل أي تحسينات في جهود مكافحة الفساد.
وفي حين لا يُعد “غسيل الأموال” واحدًا من الفئات التي يفحصها مؤشر مدركات الفساد، صدرت في العام الماضي تحقيقات أجراها مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) ومركز دراسات الدفاع المتقدِّمة (C4ADS) كشفت عن تحول دبي إلى مركز عالمي رئيسي لتبييض الأموال، ووفقا لهذا التقرير، يُمكن شراء عقارات في دبي تُقدر بملايين الجنيهات نقدًا ولن تُطرح على المشتري سوى بعض الأسئلة القليلة، وهذا ما أدى إلى تحول دبي لجنة لتبييض الأموال، يتوجه إليها المتورطون في الفساد وغيرهم من المجرمين لشراء عقارات فخمة دون أي قيود تُذكر.
بعد الإمارات، جاءت دولة قطر في المرتبة الثانية عربيًا والـ33 عالميًا بـ62 درجة من أصل 100 على المؤشر، فقد تمكنت قطر من التخلي – على عدة مستويات – عن البيروقراطية لتعزيز جهود مكافحة الفساد في البلاد، ولكن يبقى الغموض مُخيمًا على مستوى المناصب الرفيعة في الحكومة، وكانت قطر قد أعلنت عن جائزة دولية لمحاربة الفساد تحمل اسم أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتُقدَّم هذه الجائزة سنويًا في اليوم العالمي لمكافحة الفساد (يوافق الـ9 من ديسمبر) للأفراد والمؤسسات الذين تفانوا في مكافحة الفساد من منطلق بعض المعايير والصفات.
النصب التذكاري “يد نظيفة” لجائزة أمير قطر لمكافحة الفساد
أما السعودية، تقدمت على مؤشر عام 2018، حيث احتلت إلى جانب الأردن المركز الرابع عربيًا والـ58 عالميًا بـ49 درجة، وقد تزامن ذلك مع طلب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من الملك سلمان الموافقة على إنهاء أعمال اللجنة العليا لقضايا الفساد العام، وفي بيان صدر عن الديوان الملكي السعودي الأربعاء، أفاد بأن اللجنة تمكنت من استعادة 400 مليار ريال (107 مليارات دولار) في صورة عقارات وشركات وأوراق مالية ونقد إلى الخزينة العامة للدولة.
لكن هل حققت اللجنة أهدافها؟ يبدو محمد بن سلمان مندفعًا في مشروعه الحداثي اندفاع آخر حكام الاتحاد السوفيتي العظيم ميخائيل غورباتشوف في مهمته العسيرة لإصلاح الإمبراطورية السوفيتية، فلا يكفي أن تستبدل الوهابية لتكون مصلحًا حتى تكون لديك نسختك المعدَّلة منها أو المفارقة لها بالكلية، خرج على قومه بمبدأين لإصلاح الدولة التي أصابها الوهن حتى كادت على الانهيار، المبدآن هما “البرسترويكا” وتعني إعادة البناء و”الغلاسموست” وتعني الانفتاح، ولم يذهب بعيدًا في إعادة البناء والانفتاح حتى أخذ موقعه في كتاب التاريخ غير الرحيم.
في مصر، على الرغم من تقدمها ثلاث نقاط على المؤشر، تبقى مظاهر التحسن على أرض الواقع ضئيلة، حيث تعاني البلاد حاليًا من مشاكل جسيمة على مستوى انتشار الفساد
وتحسنت درجات المغرب ومصر بثلاث نقاط لكل منهما، حيث سجلتا تباعًا 43 و35 درجة، ورغم ذلك، يبقى تأثير هذا التحسّن على حياة مواطني البلدين محدودًا، فبمعدل 43 درجة في مؤشر مدركات الفساد العالمي، لا تزال الطريق طويلة أمام البلدين.
ففي مصر، على الرغم من تقدمها بثلاث نقاط على المؤشر، تبقى مظاهر التحسن على أرض الواقع ضئيلة، حيث تعاني البلاد حاليًا من مشاكل جسيمة على مستوى انتشار الفساد، ويستمر أيضًا استهداف منظمات المجتمع المدني بحظر السفر واعتقال الناشطين بشكل ممنهج، وتشكل هيئة الرقابة الإدارية الجهة الأساسية المُكلفة بالتحقيق في قضايا الفساد، وتعمل على إرجاع بعض أملاك الدولة المسروقة واعتماد إستراتيجية مكافحة الفساد لأربع سنوات.
في المقابل، شهدت بعض الدول العربية تراجعًا في ترتيبها، حيث تواجه عدة بلدان مثل سوريا وليبيا واليمن والعراق تحديات بسبب عدم الاستقرار وانتشار الإرهاب والحروب والنزاعات، وذلك ما يبقيها في أدنى مراتب المؤشر، حيث سجلا=ت كل من اليمن وسوريا أشد انخفاضًا في المؤشر خلال السنوات القليلة الماضية، وتراجعتا بخمس درجات على امتداد السنوات الأربعة الماضية.
وقد حصل السودان على 16 درجة في مؤشر مدركات الفساد للسنة الثانية على التوالي، وبسبب ما يواجهه من تحديات جراء الإرهاب والحروب والنزاعات، يبقى في أدنى مراتب المؤشر، ومنذ ديسمبر/كانون الأول 2018 قُتل العديد من المحتجين في السودان لتعبيرهم عن مواقفهم ومطالبهم لمحسابة الفاسدين، فالفساد الحكومي أحد أهم أسباب الاحتجاجات.
ولطالما تمكن أفراد من ذوي النفوذ من ممارسة تأثيرهم على السياسات الحكومية في عدة حكومات عربية ومن اختلاس المال العام وممتلكات الدولة واستغلالها لمصلحتهم الخاصة ولتزداد ثروتهم على حساب المواطنين، وأدى ذلك إلى تقزيم جهود مكافحة الفساد لتبقى مجرد حبر على ورق، حيث يتم سن القوانين فعلاً ولكنها نادرًا ما تُنفذ أو تُترجم إلى ممارسات على أرض الواقع.
تتأثر مستويات الفساد العالية بالنزاع العنيف في الدول التي تشهد نزاعات مسلحة
دول الصراعات في ذيل القائمة
جمهورية الكونغو والعراق وأفغانستان وسوريا وجنوب السودان واليمن وليبيا والصومال، تذيلت هذه الدول قائمة مؤشر مدركات الفساد لعام 2018، وكما كان الحال في السنوات السابقة، تأثرت العديد من هذه البلدان بالنزاع العنيف في السنوات الأخيرة، كما تشير الدرجات المنخفضة إلى أن الرشوة وسرقة الأموال العامة والتربح من السلطات هي حقيقة يومية للحياة في هذه البلدان.
تضيف مناطق الصراع وما بعد الصراع في أسفل المؤشر مزيدًا من الأمثلة عن كيفية ازدهار الفساد عندما تكون هذه المؤسسات ضعيفة
وواجه الصومال الذي احتلّ المرتبة الأخيرة (180 عالميًا) في المؤشر بـ10 درجات فقط، تمردًا على يد مجموعة “الشباب” الإرهابية، أما سوريا وجنوب السودان، فحصلت كل منهما على 13 درجة، وجاءا في المرتبة الـ178 عالميًا، أما اليمن الذي دمرته حرب أهلية مستمرة جاء في المرتبة 176 عالميًا وحصل على 14 درجة، كما أن سوريا واليمن تندرجان أيضًا ضمن البلدان الخمس الأدنى مرتبة في المؤشر على الصعيد العالمي.
في البلدان التي تعيش في سلام، يمكن أن تؤدي مستويات الفساد العالية إلى عدم الاستقرار، ووفقًا للبنك الدولي، يزداد احتمال نشوب نزاع عنيف عندما لا تمنع الحكومات الفساد أو تضمن العدالة بقدر كاف، فالفساد والإفلات من العقاب على ارتكابه، يقوض شرعية مؤسسات الدولة، ويمكن أن يؤدي تأثير الفساد على فرص العمل والتماسك الاجتماعي إلى عدم الاستقرار، حيث يغذي الفساد المظالم التي يمكن أن تتحول إلى عنف.
أكثر 5 دول فسادًا في العالم – المصدر: منظمة الشفافية العالمية
في فنزويلا التي حصلت مع العراق على 18 درجة من أصل 100 درجة في مؤشر مدركات الفساد، يعد الفساد عاملاً رئيسًا في غضب الجماهير من الحكومة التي ساهمت في تصاعد الأزمة التي تهدد بالانحدار إلى صراع عنيف، ومن بين أهم ركائز الممارسات الديمقراطية التي يُمكن الاستناد إليها لضمان نزاهة الحكومات هي وجود منظومة الضوابط والتوازنات، إلا أن هذه المنظومة في معظم بلدان المنطقة تتسم إما بالهشاشة أو غير موجودة أصلاً.
وفي موازاة ذلك، يمكن للنزاع أن يخلق أرضية خصبة لأشكال جديدة من الفساد، ويمكن استغلال الضغط المتزايد على توفير الموارد وعدم الاستقرار الهائل من أجل تحقيق مكاسب شخصية، ويمكن أيضًا أن تظل أنماط الفساد قائمة بعد انتهاء الحرب، مما يعوق بناء السلام وإعادة الإعمار والتنمية.
وغالبًا ما تزداد فرص الفساد بشكل عام بمجرد توقف القتال، مع تضافر تدفق المساعدات الأجنبية، أو توافر فرص جديدة لاستغلال الموارد الطبيعية، وكلاهما يزدهران في ظل ضعف سيادة القانون، ويتفاقم هذا الأمر بسبب غياب الجهات الفاعلة التي تعزز الشفافية والمساءلة، مثل وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني.
على الرغم من تعهد الزعماء الأفارقة بإعلان عام 2018 عام إفريقيا لمكافحة الفساد، فإن هذا لم يُترجم بعد إلى تقدم ملموس
من الضروري أن تكون مكافحة الفساد دعامة لجهود إعادة الإعمار في البلدان التي مزقتها الحروب، ودون ذلك، يمكن لدورة الفساد وعدم الاستقرار والنزاع أن يُفسد رحلة البلد نحو السلام والازدهار وسيادة القانون لسنوات، وفي كثير من الأحيان يجب أن تبدأ هذه العملية في الأسفل، ففي أفغانستان، على سبيل المثال، لكي يتم إضفاء الطابع المهني على المشتريات الحكومية، يجب أولاً إنشاء نظام جديد لتعيين الموظفين المؤهلين.
وكما يوضح تحليل مؤشر مدركات الفساد لعام 2018، فإن المؤسسات القوية والديمقراطية هي المفتاح للحد من الفساد، وتضيف مناطق الصراع وما بعد الصراع في أسفل المؤشر مزيدًا من الأمثلة عن كيفية ازدهار الفساد عندما تكون هذه المؤسسات ضعيفة.
من ناحية أخرى، فإن التركيز المرتفع للدول التي مزقتها الحروب في أسفل مؤشر مدركات الفساد يسلط الضوء على حجم تحدي الفساد الذي تواجهه الدول التي تتذيل القائمة، مثل كوريا الشمالية، التي تسجل 14 درجة فقط، وغينيا الاستوائية التي حصلت على 16 درجة بالتساوي مع غينيا بيساو.
ففي غينيا الاستوائية، على سبيل المثال، لا يشكل الإفلات من العقاب للإغارة على خزائن الدولة نتيجة ثانوية للحرب أو عدم الاستقرار، بل يبدو أنها سياسة متعمدة تفيد النخبة الحاكمة، ففي محاكمة تاريخية في فرنسا في عام 2017، أُدين ابن الرئيس ونائب الرئيس، بتهمة الفساد بعد تورطه في نهب الأموال العامة للإنفاق على حياته الخاصة في باريس، وفي الوقت نفسه، يعيش معظم السكان على أقل من دولارين في اليوم، ويفتقرون إلى مياه الشرب الآمنة والكهرباء، مثل الذين عاشوا الحروب والعنف في أماكن أخرى.
إفريقيا جنوب الصحراء.. الفساد وأزمة الديموقراطية
يقدم مؤشر مدركات الفساد هذا العام صورة قاتمة إلى حد كبير بالنسبة لإفريقيا، حيث حققت 8 دول فقط من 49 دولة أكثر من 43 درجة من أصل 100 درجة في المؤشر، وعلى الرغم من تعهد الزعماء الأفارقة بإعلان عام 2018 عام إفريقيا لمكافحة الفساد، فإن هذا لم يُترجم بعد إلى تقدم ملموس.
بمتوسط درجات 32 فقط، تعد إفريقيا جنوب الصحراء أقل منطقة في المؤشر، تليها عن كثب أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى بمتوسط 35 درجة
سجلت سيشيل 66 من أصل 100، لتضعها في قمة المنطقة، تلتها بوتسوانا وجمهورية الرأس الأخضر، بدرجات 61 و57 على التوالي، وفي ذيل المؤشر للسنة السابعة على التوالي، يحرز الصومال 10 درجات، يله جنوب السودان (13 درجة) لتحقق أدنى الدرجات في المنطقة، بمتوسط درجات 32 فقط، تعد أفريقيا جنوب الصحراء أقل منطقة في المؤشر، تليها عن كثب أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى بمتوسط 35 درجة.
ولا تزال منطقة إفريقيا جنوب الصحراء واحدة من المناطق ذات التباينات السياسية والاجتماعية الاقتصادية الصارخة والعديد من التحديات القديمة، وبينما اعتمد عدد كبير من البلدان مبادئ ديمقراطية للحكم، لا يزال العديد منها يحكمه قادة استبداديون وشبه مستبدين، ومن شأن الأنظمة الاستبدادية والحروب الأهلية والمؤسسات الضعيفة والأنظمة السياسية غير المستجيبة أن تقوض جهود مكافحة الفساد.
بلدان مثل سيشيل وبوتسوانا – التي تسجل أعلى الدرجات على مؤشر مدركات الفساد مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة – لديها بعض السمات المشتركة، فكلاهما يتمتعان بنظم حكم ديمقراطي ونظام حكم حسن الأداء نسبيًا، مما يساعد على الإسهام في نتائجها، ومع ذلك، فإن هذه البلدان هي الاستثناء وليس القاعدة في منطقة تتعرض فيها معظم المبادئ الديمقراطية للخطر والفساد المرتفع.
وعلى الرغم من الأداء الضعيف العام لإفريقيا جنوب الصحراء، هناك عدد قليل من البلدان التي تعارض الفساد مع تقدم ملحوظ، فهناك بَلَدان – كوت ديفوار والسنغال – من بين البلدان المهمة في مؤشر مدركات الفساد للسنة الثانية على التوالي، ففي السنوات الستة الأخيرة، انتقلت كوت ديفوار من 27 درجة في عام 2013 إلى 35 درجة في عام 2018، في حين انتقلت السنغال من 36 درجة في عام 2012 إلى 45 درجة في عام 2018، وقد تُعزى هذه المكاسب إلى النتائج الإيجابية للسياسة والقانون والإصلاحات المؤسساتية التي تمت في كلا البلدين وكذلك الإرادة السياسية في مكافحة الفساد التي أظهرها قادة كل منهم.
وحققت غامبيا، بحصولها على 37 درجة، 7 درجات منذ العام الماضي، بينما حققت سيشل 6 درجات، وسجلت 66 درجة، كما حصلت إريتريا على 4 درجات، وسجلت 24 درجة في عام 2018، وفي غامبيا وإريتريا، تم الالتزام السياسي بالقوانين والمؤسسات ومساعدة الهيئات التنفيذية للسيطرة على الفساد.
بالنظر إلى مؤشر الفساد هذا العام، فإن العديد من البلدان ذات الأداء المنخفض تجمعها عوامل مشتركة، مثل ضياع الحقوق السياسية ومحدودية حرية الصحافة وسوء استخدام القانون
في السنوات القليلة الماضية، شهدت العديد من البلدان انخفاضًا حادًا في درجات مؤشر الفساد، بما في ذلك بوروندي والكونغو وموزمبيق وليبيريا وغانا، وفي السنوات السبعة الأخيرة، انخفضت موزمبيق 8 درجات، وانتقلت من 31 في عام 2012 إلى 23 في عام 2018، وتؤدي زيادة عمليات الاختطاف والهجمات على المحللين السياسيين والصحفيين الاستقصائيين إلى خلق ثقافة الخوف التي تضر بمكافحة الفساد.
وكانت موزمبيق، وهي موطن إحدى كبرى فضائح الفساد في إفريقيا، قد واجهت مؤخرًا اتهامات لعدة مسؤولين حكوميين سابقين من قِبل مسؤولين أمريكيين، واُتهم وزير المالية السابق مانويل تشانغ، بإخفاء أكثر من ملياري دولار من القروض والرشاوى الخفية.
وبالنظر إلى مؤشر الفساد هذا العام، فإن العديد من البلدان ذات الأداء المنخفض تجمعها عوامل مشتركة، مثل ضياع الحقوق السياسية ومحدودية حرية الصحافة وسوء استخدام القانون، وفي هذه البلدان نادرًا ما تُطبَّق القوانين، وتعاني المؤسسات من ضعف الموارد مع القليل من القدرة على التعامل مع شكاوى الفساد، إضافة إلى ذلك، يساهم الصراع الداخلي وهياكل الحكم غير المستقرة في ارتفاع معدلات الفساد.
لماذا لا تخلو البلدان عالية التصنيف من الفساد؟
ولأول مرة منذ 2011، خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من قائمة الدول الـ20 الأولى والأكثر مكافحةً للفساد في العالم، بعد أن فقدت 4 نقاط كاملة مقارنةً بالعام السابق 2017، فحلّت في المركز 22 بـ71 نقطة فقط، أما البرازيل فقد تراجعت بمعدل نقطتين عن العام السابق لتحصل على 35 درجة، وهي أيضًا أدنى درجة تحصل عليها البرازيل في مؤشر مدركات الفساد منذ سبع سنوات، بسبب سياسات الرئيس الجديد جايير بولسونارو.
في حين لا يوجد بلد يحصل على علامات كاملة على مؤشر مدركات الفساد، فإن البلدان ذات الأداء الأعلى لها العديد من الخصائص الديمقراطية التي تساهم في تحقيق أعلى الدرجات
وللسنة الثالثة على التوالي، تتألف غالبية البلدان السبع الأولى في مؤشر مدركات الفساد لعام 2018 من دول الشَّمال كما تُعرف باسم البلدان النوردية -الدنمارك وفنلندا والسويد والنرويج- بالإضافة إلى نيوزيلندا وسنغافورة وسويسرا، وحققت كل منهم ما بين 84 و88 درجة من أصل 100 على المؤشر.
وفي حين لا يوجد بلد يحصل على علامات كاملة على مؤشر مدركات الفساد، فإن البلدان ذات الأداء الأعلى لها العديد من الخصائص الديمقراطية التي تساهم في تحقيق أعلى الدرجات، ويشمل ذلك المؤسسات القوية وسيادة القانون والمستويات العالية للتنمية الاقتصادية.
وكمقياس للفساد في القطاع العام، يكافئ مؤشر مدركات الفساد البلدان التي تعتبر فيها معدلات الرشوة وتحويل الأموال العامة وتضارب المصالح والأشكال الأخرى للفساد أدنى المستويات داخل الحكومة، لكن هذا لا يعني أن هذه الدول خالية من الفساد، فغسيل الأموال الذي ينمو في هذه الدول يعد واحدًا من الفئات التي لا يفحصها مؤشر مدركات الفساد.
مؤخرًا، تأثرت الدنمارك، التي تتصدر القائمة هذا العام، بفضيحة غسل الأموال المرتبطة ببنك دانسكي، أكبر بنوكها، من بين قضايا فساد أخرى، ويُعتقد أن نحو 230 مليار دولار من المعاملات المشبوهة قد مرت عبر فرع بنك دانسكي بإستونيا، التي ارتبطت بمخططات الغسيل الروسي ومخططات الغسيل الأذربيجانية التي كشفها مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP). وفي نوفمبر/تشرين الثاني، اُتهم بنك دانسكي بشكل أساسي بخرق قوانين مكافحة غسيل الأموال في الدانمارك.
أفضل 5 دولع لى مؤشر مدركات الفساد لعام 2018 – المصدر: منظمة الشفافية العالمية
تلعب البنوك السويسرية والوسطاء الماليون وغيرها من العوامل المساعدة دورًا مهمًا بشكل منتظم في مخططات واسعة النطاق لغسل الأموال والفساد حول العالم، مثل تلك المرتبطة بـ”1“MBD في ماليزيا، وأودبريشت بتروبراس في البرازيل، أو فضيحة سندات التونة في موزمبيق.
أعطت مجموعة العمل المالي (منظمة حكومية دولية مقرها في العاصمة الفرنسية باريس)، تهدف لمحاربة تزوير العملات وتمويل الإرهاب وتقيَّم مستوى فعالية الدول في مكافحة غسل الأموال من خلال 11 فئة، دولة واحدة فقط (هي السويد) من أصل سبعة درجة عالية من الفعالية، وذلك في واحدة من الفئات الـ11 فقط.
وكدول ثرية نسبيًا، غالبًا ما تكون المراكز السبع الأولى موطنًا للشركات الدولية التي تصدر كميات كبيرة من السلع والخدمات، وقد أظهر تقرير منظمة الشفافية عن الفساد الصادر عام 2018 أن معظم هذه الدول فشلت في التحقيق ومعاقبة الشركات المتورطة في دفع رشاوى في الخارج.
من بين البلدان السبع الأولى في مؤشر مدركات الفساد لهذا العام، تحتل النرويج وسويسرا المرتبة الأولى فقط في فئة الإنفاذ ضد الرشوة الخارجية، وتأتي فنلندا والدنمارك وسنغافورة في أدنى فئة، في حين تقوم السويد ونيوزيلندا بإجراءات معتدلة ومحدود للرشوة الأجنبية على التوالي.
من شأن الرشاوى الخارجية أن تعيق التنمية وتحَّرف مجال المنافسة في التجارة الدولية، كما يمكن أن تسهم في تعزيز ثقافة الرشوة لتصبح سلوكًا اجتماعيًا
الكثير من الأمثلة في فنلندا وسنغافورة والسويد وسويسرا توضح سبب هذه المشكلة، ففي عام 2017، وافقت شركة “تيليا” السويدية على دفع غرامة تبلغ مليار دولار بعد تورط الشركة بفضيحة فساد في أوزبكستان، حيث دفعت ابنة رئيس الشركة أكثر من 300 مليون دولار لممثلين عن حكومات مختلفة، ليسهلوا قيامها بنشطات ومشاريع اتصالات مربحة، وفي فنلندا، تورطت شركة الدفاع “باتريا” المملوكة جزئيًا للدولة، في فضائح فساد في سلوفينيا وكرواتيا.
ومن شأن هذه الرشاوى الخارجية أن تعيق التنمية وتحَّرف مجال المنافسة في التجارة الدولية، كما يمكن أن تسهم في تعزيز ثقافة الرشوة لتصبح سلوكًا اجتماعيًا، خاصة عندما تكون الشركات في البلدان عالية المصنفة كوسيلة للحصول على ميزة تجارية، ومن المفارقات أن مثل هذه الممارسات يمكن أن تعزز المفاهيم بأن الدول الأقل نموًا أكثر فسادًا.
وفي غياب إرادة سياسية صلبة لمكافحة الفساد في القطاع العام، ستواصل بلدان المنطقة في الضرب بالحقوق السياسية لشعوبها عرض الحائط، وما تشهده بلدان المنطقة من قمع حكومي للمواطنين الذين يعبرون عن مواقفهم أو يتظاهرون أو يمارسون حقهم في تكوين جمعيات أو مجموعات حقوقية يُشكل واقعًا خطيرًا، وفي ظل هشاشة منظومة الضوابط والتوازنات أو الحقوق السياسية الرامية إلى التصدي للتوجهات الاستبدادية، ستتعثر للأسف جهود مكافحة الفساد وستبقى الممارسات الاستبدادية والسلطوية تنخر في أنحاء المنطقة.