طوال 25 عامًا من الإدارات الأمريكية المتعاقبة بين الديمقراطيين والجمهوريين، كانت الولايات المتحدة وسيطًا يفتقر للحيادية والنزاهة، ورغم ادعائها أنها تعمل من أجل السلام والعدالة، كما حدث في بعض مراحل “عملية السلام” الفارغة التي أرسى معالمها عهد كلينتون واستمرت عبر الإدارات التي تلته، فإن دورها الفعلي كان دائمًا في خدمة المصلحة الإسرائيلية فقط.
اعتمدت الوساطة الأمريكية في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على افتراضين شكّلا معًا المحدد الرئيس للقضية الفلسطينية ومنعطفاتها التاريخية، أولهما: أن عملية السلام يمكن أن تمضي إلى الأمام رغم التباين الكبير في موازين القوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأنه يمكن تحقيق بعض الحقوق للطرف الأضعف في هذا السياق.
ثانيهما: أن الساحة الداخلية الفلسطينية يمكن إخضاعها لتتواءم مع متطلبات هذه العملية، بمعنى أن الشعب قد يتبع سلطته في جولاتها التفاوضية والمتطلبات التي تقتضيها المرحلة. ولتحقيق هذين الافتراضين استخدمت الإدارات الأمريكية المتتالية منذ أيام كلينتون ورقة الضغط التقليدية: المال.
كيف أثرت المساعدات الأمريكية على تشكيل تاريخ القضية الفلسطينية المعاصر؟ وما الفرق بين التمويل الذي تقدمه الإدارات الجمهورية، المتكئ على الفكر الأمني، والآخر الديمقراطي الذي يتخفى تحت خطاب الحاجات الإنسانية والحوكمة والدعم الاقتصادي؟ وما أبرز الشروط والأوراق التي لعبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتحقيق مآربها من خلال برامج التمويل؟
يلقي هذا المقال الضوء على هذه التساؤلات وغيرها، ضمن ملف “دبلوماسية الحبلين”، محاولًا استكشاف الروابط المعقدة بين الدعم المالي الأمريكي والانعكاسات السياسية والاقتصادية على مسار القضية الفلسطينية.
أوسلو وخطيئة المؤسسات المجوّفة
أسس بيل كلينتون في تسعينيات القرن الماضي عبر عملية السلام الشكلية التي جمع في ظلها ياسر عرفات ممثلًا عن منظمة التحرير مع إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومن ثم خليفته شمعون بيريس، لما يمكن أن يُعد أرخص أنواع الاحتلال في التاريخ.
من خلال الاتفاقات التي اعتُبرت “اتفاقات انتقالية مؤقتة”، كان من المفترض أن تُمهد الطريق لحل قضايا دائمة مثل الاستيطان والحدود والموارد واللاجئين، لكن هذا المسار كان بداية انحدار القضية الفلسطينية، فقد اختزل كلينتون قيمة منظمة التحرير كرمز للنضال ضد المحتل، ليحوّلها إلى قوة أمنية تتحمل عبء إدارة شؤون الأراضي المحتلة، مع مسؤولية الحفاظ على الأمن بما في ذلك أمن المحتل ذاته، دون حقوق تُذكر حول سيادة فعلية على الأرض أو الموارد.
عقب تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وضع بيل كلينتون خطة محكمة لإخضاعها لشروط عملية السلام، خاصة فيما يتعلق بأمن “إسرائيل” واستقرار المنطقة سياسيًا، وكان أبرز هذه المتطلبات ربط السلطة الفلسطينية ببرنامج مساعدات تمويلية، جعلت المنح الأمريكية والدولية التابعة لها هي المتنفس الوحيد للسلطة المستحدثة.
مع بداية تسعينيات القرن الماضي، تدفقت حزم المساعدات الأمريكية إلى مؤسسات السلطة الفلسطينية بُعيد توقيع اتفاقيات أوسلو، وكان الهدف المعلن لهذه المساعدات هو تعزيز الاقتصاد الفلسطيني، وبناء مؤسسات الدولة، وتحسين الخدمات والبنية التحتية، وذلك لضمان رضا الشارع عن السلطة الجديدة، إلى جانب تمكين الأمن والاستقرار الذي من شأنه أن ينعكس إيجابيًا على ازدهار “إسرائيل”.
بعد أن تبادلت منظمة التحرير الفلسطينية (ثم السلطة الفلسطينية لاحقًا) والحكومة الإسرائيلية رسائل الاعتراف المتبادل، ووقعتا اتفاق المبادئ في 9 سبتمبر/أيلول 1993، سارعت الدول الغربية إلى تقديم التمويل للمؤسسة الفلسطينية الوليدة التي كانت تسعى إلى “إحلال السلام” خلال خمس سنوات من الاتفاق.
46 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة، تبرعت بمبلغ 2.4 مليار دولار لدعم السلطة الفلسطينية في بداية نشأتها عبر ما عُرف بـ”صندوق هولست الاستثماري” (Holst Fund)، تبرعت من خلاله الولايات المتحدة بمبلغ 375 مليون دولار ووضعت مبلغ 125 مليون أخرى كحد أقصى للقروض والمنح المستردة.
مع ذلك، لم تصل هذه الأموال مباشرة إلى السلطة الفلسطينية، بل احتفظت إدارة كلينتون بالتحكم في توزيع المساعدات عبر وسيط أمريكي وهو برنامج (USAID)، وظل هذا الوسيط حتى اليوم يتولى مسؤولية صرف التبرعات والمساعدات الأمريكية وفقًا لشروط الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وعلى البرامج التي تتماشى مع أهدافها السياسية.
بين عامي 1994 و2010، أي خلال إدارتي بيل كلينتون وجورج بوش الابن، بلغت المساعدات الأمريكية للسلطة الوطنية الفلسطينية حوالي 3.4 مليار دولار، تم تصريفها عبر برنامج (USAID) الذي أشرف بشكل مباشر على توزيع هذه المبالغ بين متعاقدين عامين بنسبة 80% ومؤسسات خاصة بنسبة 20%.
ركّزت أهداف البرنامج بشكل رئيسي على تعزيز القطاع الخاص، ودعم وزارات السلطة الفلسطينية، وتلبية الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، بمعدل سنوي بلغ 85 مليون دولار على شكل مساعدات اقتصادية. وفي الوقت ذاته، نفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تقديم أي نوع من المساعدات العسكرية للفلسطينيين، بغض النظر عن شكلها.
ومن خلال الاطلاع على التوزيع الأولي للمساعدات التي تدفقت من الخزانة الأمريكية نحو ميزانية السلطة الفلسطينية، يظهر وجود تباين واضح في البرامج والأهداف التي يخدمها هكذا تمويل، فقد تصدرت مشكلة المياه والبنية التحتية كأولوية أساسية، حيث تم تخصيص أكثر من مليار ومئتي ألف دولار أمريكي لهذا القطاع خلال فترة 16 عامًا.
تلتها مباشرة ميزانية السلطة الفلسطينية بمبلغ 890 مليون دولار، ثم جاء دعم القطاع الخاص وبرامج الديمقراطية والحكم الرشيد، حيث تم تخصيص حوالي 347 و374 مليون دولار على التوالي، بينما جاء برنامج التعليم والشباب في ذيل قائمة المساعدات، إذ لم يتجاوز المبلغ المخصص له 115 مليون دولار طوال فترة حكم الإدارتين.
مكافحة “الإرهاب الفلسطيني” بأيدٍ فلسطينية
حالت برامج المنح والمساعدات الأمريكية من ناحية والتضييق الإسرائيلي الخانق من ناحية أخرى، دون انبثاق اقتصاد فلسطيني مستقل قادر على إسناد أي قرار سياسي ينبع من المصلحة الوطنية الفلسطينية، غير أن المنعطف الأكثر دراماتيكية في هذه المعادلة بدأت آثاره تظهر في عامي 2006-2007، بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية وانفراد الحركة بإدارة قطاع غزة.
منذ ذلك الحين، تحولت برامج المساعدات الأمريكية إلى أداة لتفتيت الجسد الفلسطيني، ما أصاب المشروع الثوري التحرري في الصميم، حيث تخلت عنه المؤسسة الرسمية بينما ظلت بؤره الشعبية متقدة، الأمر الذي أدى إلى إضعاف أداء المقاومة وعزلها وتقويض قدراتها، خاصة في الضفة الغربية.
لكن تاريخ تمويل ما يُعرف بـ”مكافحة الإرهاب الفلسطيني” يعود إلى سنوات سابقة، حيث كان البرنامج التمويلي الأمريكي عبر جميع الإدارات يرفض تمويل أي صيغة ثورية للمؤسسات الفلسطينية، وعلى رأسها منظمة التحرير التي كانت تمثل رمزًا ثوريًا للفلسطينيين في الماضي.
في الوقت نفسه، كانت “إسرائيل” تحصل على تمويل عسكري مقابل أي مساعدات “اقتصادية للسلطة”، تحت شعار “مكافحة الإرهاب”، ومنذ أيام بيل كلينتون، في إطار اتفاقية “واي ريفر” التي جرت بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية في عام 1998، حصلت السلطة الفلسطينية على 400 مليون دولار أمريكي لأغراض ترشيد الحكم والإصلاح الاقتصادي، في حين حصلت حكومة الأردن على 300 مليون دولار لضمان تنفيذ الاتفاق، وحصلت حكومة الاحتلال على 1.2 مليار دولار تحت مسمى “مكافحة الإرهاب”.
ما إن استقرت عملية السلام بتوقيع اتفاق أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية الجديدة، وضخ المال في عروق مؤسساتها، حتى بدأت إدارة بيل كلينتون في إعداد قائمة الإرهاب الرسمية للولايات المتحدة، حيث تم تصنيف حركات التحرر الثورية الفلسطينية التي كانت ناشطة في تلك الفترة كحركات إرهابية، بما يشمل حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ثم أضافت إدارة جورج بوش الابن، في عام 2002، كتائب شهداء الأقصى إلى القائمة في ذروة الانتفاضة الثانية، متزامنةً مع التحضيرات لغزو العراق وأفغانستان.
ظل شبح “الإرهاب الفلسطيني” يلاحق أي منحة أو مساعدة أمريكية موجهة إلى الفلسطينيين، ورغم أن إدارة جورج بوش الابن استعادت بعض الثقة بالسلطة الفلسطينية بعد رحيل ياسر عرفات وتولي محمود عباس رئاسة السلطة، حيث بدأت بعض المنح تتدفق مباشرة لدعم السلطة بدلًا من المشروعات المحددة، فقد تعهدت الإدارة الأمريكية بمنح 350 مليون دولار (200 مليون دولار لعام 2005 و150 مليون دولار لعام 2006)، وهو مبلغ قريب مما تعهد به الاتحاد الأوروبي (330 مليون دولار لعام 2005).
مع ذلك، أبقت الإدارات الأمريكية، مدعومة بالكونغرس، على خيار تحويل المساعدات مباشرة إلى “إسرائيل” لسداد ديون السلطة المستحقة لها، وقد تم ذلك في عام 2005، حين حولت إدارة بوش 20 مليون دولار أمريكي مباشرة إلى الحكومة الإسرائيلية لتغطية ديون السلطة الفلسطينية المستحقة مقابل الخدمات الأساسية في الضفة وغزة، وذلك خشية من تسرب جزء من هذه الأموال إلى “جماعات وأعمال إرهابية”.
كان التمويل الورقة الأبرز التي استخدمتها إدارة جورج بوش في فترة ما قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث ربطت المنح الأمريكية المقدمة للسلطة الفلسطينية بشروط تتعلق بتشديد السيطرة الأمنية، فقد زادت من تدفق الأموال المرتبطة بمبادرات الإصلاح الأمني، التي كانت تعني، في الواقع، تضييق الخناق على أي فعل مقاوم أو نضالي شعبي ضد الاحتلال.
شهدت إدارة جورج بوش تعاضدًا وتزامنًا نادرًا بين “الحرب الأمريكية المفتوحة على الإرهاب” التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وما جرّته من مفاهيم وقواعد جديدة، وصعود حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ثم انفرادها بحكم قطاع غزة في عام 2007، فقد شهدت الفترات التالية تخصيص أموال أمريكية لتعزيز أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وتمويل برامج “مكافحة الإرهاب”، حيث تضمنت تدريبات مكثفة لقوات الأمن الفلسطينية، العديد منها كانت قوى جديدة أو منتدبة خصيصًا لهذه الغايات. وبحسب تقارير الكونغرس، جرت بعض هذه التدريبات، خاصة تلك التي شملت استخدام الأسلحة والمتفجرات، على أراضٍ أردنية.
رغم أن فترة إدارة أوباما، وخاصة مع حلول عام 2012، شهدت تراجعًا في هذه التدريبات، فاكتفت الإدارة بالنصح والمشورة لقوات أمن السلطة الفلسطينية، فإن إدارة دونالد ترامب أعادت لهذه البرامج زخمها، ففي عام 2018، تم تشكيل مكتب التعاون الأمني الأمريكي (USSC) الذي يشرف على تدريب قوات الأمن الفلسطينية لغايات “مكافحة الإرهاب الفلسطيني الداخلي”، وقد ضم هذا المكتب قوة دولية متكاملة، تضم إلى جانب الجنرال الأمريكي، قوات مسلحة من كندا وبريطانيا وتركيا وإيطاليا وهولندا.
رغم تردد إدارة أوباما بشأن التدريبات المباشرة لقوات الأمن الفلسطينية، فإن ملف المساعدات الأمريكية شهد توترًا وتراجعًا ملحوظًا في فترة حكمه، ولاحقًا في عهد خلفه ترامب، فقد أظهرت الإحصاءات التي نشرها برنامج (USAID) والحكومة الأمريكية تراجعًا في حجم التمويل، بالإضافة إلى تغيّر دراماتيكي في قنوات صرف هذه المساعدات.
في العام الأول لإدارة أوباما، وبالتحديد في 2012، تم تخصيص التمويل بالكامل تقريبًا لبرامج إنفاذ القانون والنظام في السلطة الفلسطينية، أي أنه كان موجهًا بشكل أساسي نحو تعزيز المؤسسات، بمعدل 100 مليون دولار، بالإضافة إلى دعم اقتصادي يركز على الاحتياجات الأساسية وبناء القطاع الخاص والبنية التحتية، بمعدل 396 مليون دولار.
وفي العام التالي، أدخلت إدارة أوباما قناة جديدة للصرف، تتعلق بمكافحة الإرهاب تحت مسمى “المصروفات الحربية”، بمعدل 10 ملايين دولار، بينما قلصت المبالغ المخصصة لدعم الاقتصاد لتصبح 357 مليون دولار أمريكي.
استمر الوضع في التدهور، حيث تراجع الدعم الاقتصادي الموجه للسلطة الفلسطينية مقابل زيادة كبيرة في المساعدات العسكرية، التي كانت إحدى غاياتها “مكافحة الإرهاب”، حتى وصل هذا التوجه إلى ذروته مع بداية تولي ترامب الرئاسة الأمريكية، ففي عام 2016، تم تخصيص 206 ملايين دولار أمريكي للمصروفات العسكرية المرتبطة بمكافحة الإرهاب، مقابل 0 دولار للمساعدات الاقتصادية البحتة.
كما ضاعفت إدارة ترامب في نفس العام المبالغ المخصصة للقناة التي استحدثتها إدارة أوباما لتمويل عمليات مكافحة الإرهاب ومنع انتشار الألغام، حيث تم تخصيص مليوني دولار لهذا الغرض في 2016. ورغم أن هذه الأرقام شهدت انخفاضًا خلال الأعوام 2017-2019، فإن معدلات المساعدات المتعلقة بالإرهاب في الأراضي الفلسطينية بقيت مرتفعة مقارنة بالمساعدات الاقتصادية التي تراوحت بين 165 مليون دولار في 2017 و215 مليون دولار في 2018. أما في عام 2019، فقد شهدت العلاقات الأمريكية الفلسطينية قطعًا شبه كامل للتمويل، نتيجة العقوبات الجماعية التي فرضتها إدارة ترامب على الشعب الفلسطيني بسبب رفضه “صفقة القرن”.
في تبريرها للكونغرس بشأن طلب تحويل 35 مليون دولار أمريكي لمؤسسات السلطة الفلسطينية، لا سيما وزارة الداخلية، في عام 2018، أكدت إدارة ترامب أن هذا المبلغ مخصص لتدريب قوات الأمن الفلسطينية وتزويدها بالتكنولوجيا والمعدات اللازمة لضمان استقرار الأمن في الضفة الغربية، ما يساهم في ضمان أمن “إسرائيل”.
إلا أن تقريرًا لمكتبة الكونغرس حول الموضوع أشار إلى أن جزءًا من هذه الأموال استخدم أيضًا لتعزيز النظام الجنائي الداخلي في السلطة، بالإضافة إلى ملاحقة ناشطي حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية.
وبذلك، توالت المساعدات الأمنية لأجهزة السلطة الفلسطينية، حيث وصف دان شابيرو، المبعوث الأمريكي السابق لدى “إسرائيل”، في عام 2018 هذه المساعدات بأنها تعزز قدرة السلطة الفلسطينية على إحباط “العمليات الإرهابية الفلسطينية” بالوكالة عن “إسرائيل”، وأضاف أن “إسرائيل” لولا هذه الجهود كانت ستتكبد تكاليف ضخمة في المستشفيات لمعالجة آثار هذه الهجمات، بالإضافة إلى دفع فواتير خدمات الفلسطينيين الأساسية مثل الكهرباء وغيرها.
شهدت فترة إدارة ترامب في البيت الأبيض تراجعًا كبيرًا في المساعدات الأمريكية المقدمة للسلطة الفلسطينية، حيث استخدم ترامب التمويل كورقة ابتزاز لدفع الفلسطينيين للقبول بالتغييرات الجذرية التي حملتها “صفقة القرن”، التي كانت تهدف بشكل أساسي إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي.
تزامن هذا الواقع مع سن الكونغرس لقانون “تايلور فورس” في عام 2018، الذي منح الإدارة الأمريكية الصلاحية لقطع المساعدات والمنح الاقتصادية المقدمة للفلسطينيين إذا تم الاشتباه في استخدامها بأعمال تصنفها الولايات المتحدة على أنها “إرهاب”، وكان أبرز مثال على ذلك هو المقتطعات المالية التي كانت السلطة الفلسطينية تدفعها لعائلات الأسرى والشهداء الذين نفذوا عمليات فدائية ضد إسرائيليين.
لم يقتصر القانون على مطالبة السلطة بوقف دفع أي أموال لعائلات الأسرى والشهداء الذين نفذوا عمليات ضد إسرائيليين أو أمريكيين – حتى لو كانوا ينتمون إلى المؤسسة العسكرية – بل طالب أيضًا بإدانة هذه الأفعال علنيًا وملاحقتها، إضافة إلى القضاء على تجمعاتها في المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
شروط خانقة للتمويل.. الأمن الإسرائيلي أولًا
تعددت الشروط التي فرضها الكونغرس والإدارات الأمريكية المتعاقبة على المساعدات المالية المقدمة للسلطة الفلسطينية، وكان من أبرزها منع تمويل أي موظف في السلطة الفلسطينية في قطاع غزة بعد تولي حركة حماس مسؤولية الحكم في 2006، كما شمل ذلك أيضًا منع تمويل منظمة التحرير الفلسطينية وأي جهة أو أفراد يعملون باسمها.
لعبت إدارة أوباما مع السلطة الفلسطينية لعبة “العصا والجزرة”، حيث ربطت تدفق الدعم المالي بقدرة الأراضي الفلسطينية وسكانها الخاضعين لسلطة الحكم الفلسطيني على التعايش مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك التوسع الجغرافي والديموغرافي لمستوطناتها ومتطلبات أمنها.
واستكمل أوباما ما بدأه سلفه جورج بوش الابن في تقسيم الفلسطينيين ماليًا، حيث كان الفلسطينيون الذين يعيشون تحت سيطرة حركة فتح، ممثلةً بالسلطة الفلسطينية، يتلقون مساعدات أمريكية مشروطة بالأمن والتعاون مع “إسرائيل”، في المقابل، حُرم الفلسطينيون في قطاع غزة، وأي مؤسسة أو شخص مرتبط بحركة حماس، من هذه المساعدات.
كما أعلنت الإدارة الأمريكية رفضها تمويل أو دعم أي حكومة وحدة وطنية يكون لحركة حماس فيها دور مؤثر أو متحكم، وطلب الكونغرس من الرئيس محمود عباس، إذا أراد استمرار تدفق المساعدات المالية الأمريكية، ضمان أن أي حكومة فلسطينية تعترف بحق “إسرائيل” في الوجود وتخضع لكافة الاتفاقيات الموقعة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية.
تعاقبت إدارتا بوش الابن وأوباما في معاقبة الفلسطينيين على اختيارهم لحركة حماس في الانتخابات التشريعية، حيث لم تقتصر العقوبات على قطع المنح المالية عن الحكومة الفلسطينية الجديدة، بل سعت أيضًا إلى الضغط على الحكومات الأوروبية والغربية لوقف مساعداتها للفلسطينيين.
وتضافرت هذه الضغوط مع ظروف جيوسياسية أخرى، ما زاد من حصار قطاع غزة ودفعه إلى دوامة من التدهور الاقتصادي المستمر. في المقابل، تزايدت تدفقات الدعم المالي لسلطة الضفة الغربية التي وضعت نفسها في مواجهة مع حكومة القطاع، مشروطة بمزيد من التعاون الأمني مع “إسرائيل”.
من أقسى الشروط التي فرضتها الإدارة الأمريكية على الفلسطينيين كانت تلك المتعلقة بحقهم في الانضمام إلى المجتمع الدولي على قدم المساواة ومتابعة قضاياهم في المحافل الدولية، فقد هددت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بقطع المساعدات المالية التي أصبحت السلطة الفلسطينية تعتمد عليها بشكل كبير إذا حصلت فلسطين على عضوية في الأمم المتحدة أو أي من وكالاتها، باستثناء اليونسكو.
كما توعدت بقطع تمويل أي دولة فلسطينية في المستقبل ما لم تُظهر هذه الدولة نوايا حسنة في التعايش مع “إسرائيل”، ومكافحة الإرهاب على أراضيها، والمشاركة في عملية سلام شاملة في منطقة الشرق الأوسط.
في ظل إدارة أوباما، ربط الكونغرس بعض المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، خاصة تلك المخصصة للإصلاح والازدهار الاقتصادي، بعدم توجه السلطة الفلسطينية إلى محكمة الجنايات الدولية لمقاضاة “إسرائيل” على جرائمها في الأراضي المحتلة، إلا أن السلطة الفلسطينية خرقت هذا الشرط بتوجهها إلى المحكمة عام 2015، ما أدى إلى اقتطاع مباشر من المساعدات الاقتصادية الأمريكية الموجهة للفلسطينيين.
دعمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة هذا النهج من خلال التصدي لأي محاولة دولية تمنح الفلسطينيين حقوقهم الأساسية، وعلى رأسها حقهم في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة، وأحدث هذه المحاولات هي إفشال الفلسطينيين في الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، حيث استخدمت إدارة بايدن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن في منتصف أبريل/نيسان الماضي، وسط تصاعد حرب إبادة تستهدف الشعب الفلسطيني بأسره.
وتطول قائمة استخدام حق الفيتو هذا لإحباط حقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرف، بدءًا من حقهم في الحياة ووقف القتل والإبادة، وصولًا إلى قدسية أراضيهم وحقهم في تقرير المصير ضمن دولة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشريف.
انتهجت إدارة ترامب سياسة عقابية شديدة اعتمدت على الضغط الكامل لتحقيق المطالب الإسرائيلية دون مواربة أو توازن، ففي عام 2018، قطعت الإدارة معظم المساعدات الأمريكية المخصصة للسلطة الفلسطينية، وتخلت عن 80% من تمويلها لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، في خطوة تهدف إلى تسويق “صفقة القرن” التي كانت تتضمن دولة فلسطينية مشلولة وتوسيعًا إسرائيليًا غير مسبوق، يضم ليس فقط المستوطنات القائمة بل أيضًا الضفة الغربية ومدينة القدس كعاصمة موحدة لدولة الاحتلال.
وقد صرح الرئيس ترامب حينها قائلًا: “من يتلقون ملايين الدولارات كمساعدات من الأمريكيين لن يحصلوا على شيء منها ما لم يجلسوا إلى طاولة المفاوضات”، وذلك بالتزامن مع نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، في خطوة رمزية تعني ضم المدينة المقدسة لـ”إسرائيل” بموافقة أمريكية.
مع تولي بايدن للرئاسة في عام 2020، عادت بعض أشكال المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، لكنها كانت مساعدات محدودة وقُسِّمت بالتساوي بين الدعم الاقتصادي وبرامج مكافحة الإرهاب والعنف، حيث تم تخصيص 75 مليون دولار لكل منهما في عامي 2020 و2021.
ومع مرور الوقت، شهدت الأعوام التالية بعض التحسن في التمويل، وإن ظل أقل من المستويات السابقة، ففي عام 2022، ارتفعت المساعدات الاقتصادية لتصل إلى 219 مليون دولار، في مقابل 40 مليون دولار مخصصة لبرامج إنفاذ القانون والحوكمة.
وفي عام 2023، بلغت المساعدات الاقتصادية 185 مليون دولار، بينما خُصِّص 33 مليون دولار لبرامج إنفاذ القانون ومليون دولار لمكافحة الإرهاب، ورغم هذا التحسن النسبي، استمرت المساعدات مشروطة بضمان أمن الإسرائيليين والتعايش السلمي مع الدولة العبرية.
إذن، رغم أن بايدن أعاد بعض برامج التمويل للسلطة الفلسطينية، فإنه لم يُعد الجسر الدبلوماسي الذي هدمه ترامب عندما أغلق السفارة الفلسطينية في واشنطن، وبقيت العلاقات على حالها من إملاءات أمريكية ترفض حتى مجرد الحوار مع الفلسطينيين وجهًا لوجه.
وعلى الرغم من عودة بايدن إلى خطاب “حل الدولتين” الذي بات شبه مستحيل التحقيق، والذي يتضمن تبادل الأراضي لضمان حقوق المستوطنين أولًا، لم يتخذ خطوة جادة لإعادة نقل السفارة الأمريكية إلى تل أبيب، بل على العكس، كرّرت إدارته تأكيد ترامب بأن مدينة القدس هي العاصمة الموحدة لـ”إسرائيل”، مضيفةً أن الحل النهائي لقضية المدينة يبقى مسألة ضمن “التفاوض بين الطرفين”، وهو ما يعني إبقاء الوضع كما هو دون أي تغيير جوهري.
اللاجئون.. ورقة أخرى للابتزاز
شهد ملف “الأونروا” – بما يمثله من تثبيت لصفة اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة – ابتزازًا أمريكيًا متواصلًا عبر الإدارات المتعاقبة، فقد وصلت المساعدات الأمريكية للوكالة إلى حوالي 6 مليارات دولار منذ تأسيسها في عام 1950، وهي الوكالة التي يعتمد عليها ملايين الفلسطينيين في الداخل والخارج.
بدورها، تعتمد “الأونروا” على تبرعات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وخاصة الغربية منها، إضافة إلى بعض التبرعات من مؤسسات وأفراد. ولم يكن الابتزاز الأمريكي لتمويل هذه الوكالة جديدًا، فقد نص قانون المساعدات الأجنبية لعام 1961، وتحديدًا في القسم 301 ج، على أن الولايات المتحدة يجب أن تتأكد، بكل السبل، من أن مساعداتها المالية لا تذهب إلى “جيش التحرير الوطني الفلسطيني” أو أي مجموعة مسلحة متورطة في “أعمال إرهابية” ضد الإسرائيليين.
في عام 2010، فرضت إدارة أوباما على وكالة الأونروا تقديم تقارير دورية تفصيلية حول أنشطتها ومصاريفها، ليكون لديها بعدها تقييم مستمر لمدى توافق عمل الوكالة مع متطلبات قانون المساعدات الأجنبية لعام 1961.
وفي أواخر فترة ولايتها، وبداية من عام 2015، أضافت الإدارة الأمريكية عدة شروط جديدة على “أونروا”، أبرزها تعديل المناهج التعليمية في مدارس الوكالة وبرامجها الصيفية لتجنب أي محتوى يُعتبر معاديًا لـ”إسرائيل”، كما طالبت الوكالة ببذل كل الجهود الممكنة لضمان عدم تقديم خدماتها للأفراد أو الجماعات التي يُمكن تصنيفهم بأنهم “إرهابيون”، مع إلزامها بتقديم هذه التقارير إلى الكونغرس من أجل متابعة تمويل برامجها.
واجهت وكالة الأونروا كذلك ابتزازًا مباشرًا من إدارة ترامب، التي قررت وقف تمويل برامجها وأنشطتها بشكل عام، بل وأكثر من ذلك، فرضت الإدارة الأمريكية لأول مرة قيودًا جغرافية على المناطق التي سيتم تمويل برامج الأونروا فيها، حيث اقتصرت المساعدات الأمريكية على تمويل البرامج في الأردن، والضفة الغربية وقطاع غزة فقط.
وبذلك، لم تذكر إدارة ترامب اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان، في خطوة اعتُبرت إسقاطًا مباشرًا لصفة اللجوء التي يتمتع بها هؤلاء اللاجئون وحقهم في العودة، بما يتعارض مع التشريعات الدولية التي تكفل هذا الحق.
عادت إدارة بايدن إلى استخدام ورقة تمويل وكالة الأونروا كوسيلة لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وهو ما يترتب عليه تأثيرات بالغة على الوضع في دول الشرق الأوسط، وخاصة تلك التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين. ففي ظل حرب الإبادة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، سارعت الولايات المتحدة إلى إعلان قطع تمويلها للأونروا، وذلك في تماهي مع الرواية الإسرائيلية التي روجت لمشاركة 12 من موظفي الوكالة في الهجوم الذي وقع في نفس التاريخ.
هذا القرار دفع 16 دولة وجهة متبرعة للأونروا إلى قطع نحو 440 مليون دولار من تمويل الوكالة، وفي ظل هذا التدهور المخيف في الأوضاع الإنسانية للفلسطينيين، أعلنت إدارة بايدن تعليق تمويلها للوكالة لمدة عام على الأقل.
ختامًا، مع نهاية ولايته الرئاسية وبعد فشل قمة كامب ديفيد عام 2000، ألقى بيل كلينتون حجر النرد الأخير في عملية السلام المأساوية التي كان يشرف عليها طوال فترة رئاسته الممتدة لثماني سنوات، وهو ما عُرف لاحقًا بـ”معايير كلينتون“، حيث اقترح الرئيس الديمقراطي أن يتم ضم المستوطنات الإسرائيلية الرئيسية، التي تضم نحو 80% من مستوطني “إسرائيل” في الأراضي المحتلة، وتبلغ حوالي 69 مستوطنة.
في المقابل، منح الفلسطينيين بقية أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة لإقامة دولتهم المستقلة، لكن هذه الأراضي كانت في الواقع ممزقة، وتفتتت بفعل المستوطنات التي تحيط بها، والطرق الالتفافية التي مولتها إدارة كلينتون طوال فترة حكمه.
وقد ظل هذا الاقتراح يؤثر على طريقة تعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع الحقوق الفلسطينية، لا سيما حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، حيث ظلت المطالب الأمريكية تقتصر على نوع من “الدولانية المشلولة” التي لا تملك سيادة فعلية على الأرض أو الموارد، ولا تتمتع باقتصاد مستقل أو قرار سياسي منفرد.
بدأ الانحدار الفلسطيني المعاصر في ظل إدارة بيل كلينتون، حيث شكلت اتفاقيات أوسلو مرحلة مظلمة مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، فقد فرضت الولايات المتحدة من خلال هذه الاتفاقيات سيطرة على مصير الفلسطينيين، ما أدى إلى انتزاع حقهم في النضال ضد الاحتلال وحقهم في تقرير مصيرهم على أرضهم، وهو الحق الذي يكفله القانون الدولي. وفي المقابل، تمكنت “إسرائيل” من التخلص من عبء إدارة شؤون الشعب الفلسطيني، مع استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية دون أن تكون ملزمة بالاعتراف بالحقوق الفلسطينية أو السيادة على الأرض المحتلة.