للمرة الأولى على الإطلاق، أصدرت الجمعية الأمريكية لعلم النفس، وهي أكبر منظمة مهنية متخصصة في هذا الجانب، مجموعة من الإرشادات والتوجيهات لمساعدة الأخصائيين النفسيين في العمل والتعامل مع الرجال والأولاد. واستنادًا إلى أكثر من 40 عامًا من الأبحاث، تحذّر الجمعية في دليلها الجديد من “أيديولوجية الذكورة”، والتي تصفها بأنّها ضارة نفسيًا.
تقدّم الإرشادات العشر العديد من الاقتراحات حول كيفية تشجيع الآباء على الانخراط مع أطفالهم، وكيفية التعامل مع المشاكل التي تؤثر على الرجال مثل الانتحار وإساءة استخدام المخدرات، وكيفية توجيه الرجال نحو السلوكيات الصحية. وقد بدأ تطوير هذه المبادئ التوجيهية في عام 2005، وشملت أعمال أكثر من 200 من الأطباء والباحثين.
باختصارٍ شديد، تنص المبادئ التوجيهية للدليل على أنّ الذكورة التقليدية، والتي يمكن تعريفها بأنها مجموعة محددة من السمات والسلوكيات التي تعتبر ملائمة ثقافيًا للرجولة، فهي غالبًا ما تؤثّر سلبًا على كلٍّ من الصحة العقلية والبدنية للأشخاص. وبغض النظر عن أنّ الأفكار والمعتقدات التي تتعلّق بها تختلف عبر الثقافات والمجتمعات والفئات العمرية والعرقية المختلفة، إلا أنّ الدليل يشير إلى العديد من المواضيع المشتركة مثل قمع العواطف والضعف والممارسات ضد النساء والعنف وغيرها الكثير من الممارسات والصور النمطية المرتبطة بالذكر أو الرجل.
تنص المبادئ التوجيهية للدليل على أنّ الذكورة التقليدية غالبًا ما تؤثّر سلبًا على كلٍّ من الصحة العقلية والبدنية للأشخاص
بشكلٍ عام، يمكننا القول أنّ الدليل الجديد هذا هو نتيجة حركة #MeToo الآخذة باستمرار منذ عامين، والتي فتحت أبوابًا كبيرة في مجالاتٍ مختلفة لمناقشة العديد من المواضيع المعاصرة حول الجنس والتنمّر والتحرّش والعنصرية ضدّ النساء، وغيرها. ووفقًا للتقرير المكوّن من 36 صفحة، “لقد تبين أن الذكورة التقليدية تحدّ من التطور النفسي للذكور، وتقيّدد سلوكيّاتهم وتصرّفاتهم، وتؤدي إلى توتّر في المفاهيم الجنسانية وتضارب في دور الجنسين، كما أنها تؤثر سلبًا على الصحة العقلية والجسدية للرجل”.
يستند الدليل الجديد إلى عددٍ من الإحصائيات فيما يتعلّق بالرجال؛ فهم يرتكبون ما يقارب 90% من جرائم القتل في الولايات المتحدّة، ويستحوذون على نسبة 77% من ضحايا القتل ليكونوا بذلك المجموعة السكّانية الأكثر عرضةً لخطر الوقوع ضحيةً لجرائم العنف. كما أنّ معدّلات انتحارهم تزيد بنسبة 3.5 مرّة عن معدّلات انتحار النساء، ومن المرجّح أن يتم تشخيص حالات اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة عند الأولاد أكثر من البنات، وهم يواجهون صعوبات في المدارس كحالات التنمّر والتسلّط أكثر من البنات أنفسهنّ.
يقدّم الدليل اقتراحات حول كيفية تشجيع الآباء على الانخراط مع أطفالهم والتعامل مع المشاكل التي تؤثر على الرجال مثل الانتحار والمخدرات
كما يشير إلى أنّ المعتقدات المرتبطة بالذكورة في المجتمعات يمكن أنْ تؤدي إلى قمع العواطف والإحباط والسلوكيات العدوانية وعدم الرغبة في البحث عن المساعدة في حالات التعرّض للأذى النفسيّ أو الجسديّ عند الأطفال الذكور أو الرجال البالغين. بالإضافة إلى ذلك، يؤكّد التقرير أنّ مثل هذه المعتقدات قد تؤدي إلى بعض المعتقدات السلبية الأخرى مثل رهاب المثلية على سبيل المثال، وتمهّد الطريق أيضًا للتحرش الجنسي والبلطجة والعنف ضد الآخرين.
خطوة مهمّة أم تهديدٌ لهوية الذّكر؟
يبدو أنّ الدليل لم يحصل على صدىً إيجابيّ تمامًا، وعلى الرغم من أنه صدر في شهر آب الماضي، إلا أنّ الآراء فيما يتعلّق به أو ضده أخذت بالانتشار على منصات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والبرامج التلفزيونية بشكلٍ فيروسيّ وشاسع خلال الأسبوع الماضي فقط.
يعتقد معظم الرجال بأنّ الذكورة الاجتماعية هي سمة “فطرية” بالكامل، ما يعني أنّ أيّ رسالة أو محاولة تتحدّى التعريف السائد للذكورة يمكن أن تؤدي فعليًّا إلى ما يسميه علماء الاجتماع بمصطلح “تهديد الهوية”
وفي حين أنّ ثمّة من احتفى به ووافق بالفعل على أنّ الذكورة التقليدية سامّة وتشكّل ضررًا للذكور والإناث في المجتمعات، فقد عارضه الكثيرون وانتقدوه بشكلٍ سلبيّ أيضًا. إذ يعتقد معظم الرجال بأنّ الذكورة الاجتماعية هي سمة “فطرية” بالكامل، ما يعني أنّ أيّ رسالة أو محاولة تتحدّى التعريف السائد للذكورة يمكن أن تؤدي فعليًّا إلى ما يسميه علماء الاجتماع بمصطلح “تهديد الهوية”. فالهوية الذكرية هي بالنهاية مجموعة من التعريفات الاجتماعية التي تصف الذكر أو الرجل، سواء على المستذوى الشخصي أو الجنسي أو العاطفي أو الاجتماعي.
من جهتهم، يجادل مؤلفو الدليل التوجيهيّ بأنّ هدفهم لا يغيّر مباشرةً من الطريقة التي يفكّر بها الرجال في أنفسهم، ولكنهم يأملون في مساعدة أخصائيي علم النفس للوصول إلى فهمٍ أكثر عمقًا لمن يعالجونهم ويتعاملون معهم من الرجال. ما يعني أنّهم يركّزون على الصفات السلبية للذكورة والرجولة، والتي أنتجتها المجتمعات والتحيّزات المعرفية والصور النمطية على مدى سنين طويلة.
يأمل مؤلفو الدليل في مساعدة أخصائيي علم النفس للوصول إلى فهمٍ أكثر عمقًا لمن يعالجونهم ويتعاملون معهم من الرجال
وهو ما أشار إليه أستاذ علم النفس بجامعة ريدلاندز فريدريك رابينوفيتش في حديثه مع صحيفة “ذا أتلانتك“، بقوله أنّ الدليل لا يسعى بأنْ يكون ضد الذكور. فالأمر كلّه يتعلق بمساعدة الرجال على أن يكونوا أكثر صحةً نفسيًا، وحمايتهم من الآثار السلبية للصور النمطية التي غُرست في الأفراد عن الرجال والرجولة ومعنى أنْ تكون ذكرًا مثل العدوانية والعنف والتنمّر والجفاف العاطفيّ وغيرها.
وبكلماتٍ أخرى، يأمل الدليل بخلق فرصة لفهم الرجال كأفراد متعددي الأبعاد في ظل القوالب الذكورية التي صنعتها المجتمعات ووضعت الذكور فيها، لتؤثّر بشكلٍ سلبيّ لا على النساء والأطفال وفئات المجتمع الأخرى وحسب، بل وعلى الرجال أنفسهم وعلى صحتهم النفسية والجسدية ورفاهيّتهم في الحياة بمختلف جوانبها.