أعلن وزير المالية في الحكومة السودانية جبريل إبراهيم على نحو مفاجئ، إلغاء مذكرة تفاهم مع دولة الإمارات بشأن إنشائها ميناءً على الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر، بعد عامين من توقيعه في العاصمة أبوظبي.
ويأتي قرار الحكومة السودانية في وقت تتصاعد فيه الاتهامات للدولة الخليجية بدعم ميليشيا الدعم السريع التي يتزعّمها محمد حمدان دقلو “حميدتي”، الأمر الذي تسبّب في دفع السودان إلى تقليص المعاملات الاقتصادية والتجارية مع الإمارات، حيث تسعى الخرطوم إلى إيجاد بدائل لتسويق الصادرات خاصة الذهب.
وأكّد وزير المالية خلال حديثه في مؤتمر صحفي بالعاصمة الإدارية المؤقتة بورتسودان، أنه كان طرفًا في التوقيع على مذكرة التفاهم مع دولة الإمارات بخصوص شراكة لقيام ميناء “أبو عمامة”، لكن هذه المذكرة غير ملزمة للسودان.
وتابع قائلًا: “بعد الذي حدث، لن نعطي الإمارات سنتيمترًا واحدًا على شاطئ البحر الأحمر”، مشيرًا بذلك إلى الاتهامات المتعلقة بدعم أبوظبي لقوات الدعم السريع التي تحارب الجيش السوداني منذ 15 أبريل/ نيسان 2023.
ولم تعلق الإمارات على تعليق الاتفاقية من الحكومة السودانية، إذ ساءت العلاقات بين البلدَين منذ أكثر من عام بعد تورُّط أبوظبي في تسليح قوات الدعم السريع.
وجرى الاتفاق المبدئي على إقامة مشروع ميناء أبو عمامة في ديسمبر/ كانون الثاني 2022، بين الحكومة السودانية وتحالف إماراتي يضمّ شركتَي موانئ أبوظبي وإنفيكتوس للاستثمار التي يديرها رجل الأعمال السوداني أسامة داؤود، وقضى الاتفاق بتطوير الميناء على ساحل البحر باستثمارات تصل إلى 6 مليارات دولار على النحو التالي:
- 4 مليارات دولار لإنشاء الميناء الجديد الذي يقع على بُعد نحو 200 كيلومتر إلى الشمال من بورتسودان، وهو مشروع مشترك بين مجموعة دال السودانية ومجموعة موانئ أبوظبي المملوكة لشركة أبوظبي القابضة.
- يشمل الميناء أيضًا منطقة تجارية وصناعية حرة على غرار جبل علي في دبي، إضافة إلى مطار دولي صغير، وسيكون الميناء قادرًا على التعامل مع كل أنواع السلع ومنافسة الميناء الرئيسي في البلاد بورتسودان.
- تشمل الصفقة الإماراتية أعمالًا توسعية وتطوير مشروع زراعي بتكلفة 1.6 مليار دولار، تنفذها الشركة العالمية القابضة (IHC) وشركة دال للزراعة في مدينة أبو حمد بشمال السودان.
- زراعة البرسيم الحجازي والقمح والقطن والسمسم ومحاصيل أخرى في مساحة تبلغ 400 ألف فدان من الأراضي المستأجرة، إلى جانب رصف طريق بطول 500 كيلومتر (برسوم عبور) يربط المشروع بالميناء بتكلفة 450 مليون دولار، بتمويل من صندوق أبوظبي للتنمية.
صفقة غامضة
ليس خافيًا على أحد أن الإمارات سعت منذ سنوات للاستحواذ على ميناء بورتسودان الرئيسي شرقي البلاد ورغم تعثُّر مساعيها السابقة لكنها لم توقف المحاولات بدءًا بعقد الخصخصة عبر الشركة الفلبينية في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، مرورًا بصفقات غير معلنة مع العسكريين إبّان شراكتهم المضطربة مع المدنيين في الحكومة الانتقالية الأولى.
بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 الذي نفّذه العسكريون ضد الحكومة المدنية، عادت لطرح ميناء جديد الذي كان يمكن في حالة تنفيذه أن يؤدي إلى توقف الموانئ المحلية التي تتعرض إلى إهمال ممنهج في السنوات الأخيرة.
وكان اتفاق أبو عمامة نتاج صفقة خاصة غامضة صُمّمت للإمارات، حيث لم يتم طرح المشروع في عطاءات رسمية دولية، إنما نتيجة صفقة سياسية عمل عليها حلفاء الإمارات في السودان من سياسيين وعسكريين ورجال أعمال.
أثار توقيع الصفقة غضبًا واسعًا في شرق السودان آنذاك، حيث أعلن المجلس الأعلى لنظارات البجا رفضه القاطع للاتفاق، وقال عبد الله أوبشار، مقرر المجلس، لراديو “دبنقا” إن الاتفاق عبارة عن “صفقة مشبوهة لتجفيف الموانئ وإنشاء ميناء بديل”، معربًا عن استغرابه من توقيع الاتفاق في ظل عدم وجود أي حكومة، وأكد أن المجلس يسعى لوضع رؤية واضحة لإيقاف العمل الممنهج لتدمير عمل الموانئ.
ومن جانبه قال إبراهيم أونور، أستاذ الاقتصاد والتمويل في جامعة الخرطوم، إن الاتفاق في شكله الحالي استثمار غريب، فيه عدم وضوح وضبابية شاملة.
وشكّك أونور في أن تكون هذه الصفقة عُرضت على مستشارين متخصصين لدراستها من كل الجوانب ثم الرفض أو الموافقة عليها، متسائلًا عن عدم توضيح فترة وصيغة الاستثمار التي تم الاتفاق عليها، وهل هي فترة قصيرة أم متوسطة أم طويلة؟ وهل تشمل صيغة الاستثمار الإماراتي بناء وتشغيل الميناء وتحويله أم تملُّكه نهائيًا؟ وما مدة العقد؟ 30 عامًا؟ 50 عامًا؟
جشع إماراتي للاستيلاء على الموانئ
لطالما عُرف عن دولة الإمارات مساعيها للاستيلاء على الموانئ والمنافذ البحرية، حيث نرصد أدناه أبرز الموانئ التي استحوذت عليها الإمارات في دول المنطقة:
- موانئ جنوب اليمن مثل ميناء الحاويات والبضائع العامة في مدينة عدن وميناء مدينة المكلا للنفط والغاز وميناء المخا.
- في مصر استحوذت مجموعة موانئ أبوظبي على رصيفَين بحريَّين في ميناء العين السخنة لمدة 30 عامًا، كما تسلمت الشركة ذاتها إدارة وتشغيل وصيانة محطة متعددة الأغراض في ميناء سفاجا.
- في عام 2005 وقّع سلطان أحمد بن سليم، الرئيس التنفيذي لموانئ دبي، وياسين علمي بوح وزير المالية في جمهورية جيبوتي، اتفاقية كان يفترض أن تستمر 21 عامًا، تقوم خلالها الإمارات بإدارة وتطوير الأنظمة والإجراءات الإدارية والمالية لميناء جيبوتي، وتطوير العمليات الجمركية ونظام وإجراءات التفتيش. لكن شهر العسل بين الدولتين انتهى بعد سنوات إثر اتهام حكومة جيبوتي موانئ دبي بتقديم رشاوى لرئيس هيئة الميناء والمنطقة الحرة في جيبوتي عبد الرحمن بوريه، لضمان الفوز بعقد امتياز إدارة محطة وميناء دوراليه للنفط، ما دفع بالرئيس إسماعيل عمر جيله إلى فسخ التعاقد من جانب واحد.
- كما وقّعت الإمارات اتفاقًا عام 2016 مع إريتريا تستخدم بموجبه ميناء ومطار عصب على البحر الأحمر لمدة 30 عامًا، وينص الاتفاق على أن تدفع مؤسسة الموانئ والجمارك والمنطقة الحرة في دبي مقابلًا سنويًا للسلطات الإريترية، إضافة إلى 30% من دخل الموانئ بعد تشغيلها، وحصلت مع الميناء الإمارات على مطار يحتوي على مدرَّج بطول 3 آلاف و500 متر، يمكن لطائرات النقل الكبيرة استخدامه في الإقلاع والهبوط، وقد استغلت الإمارات ميناء وقاعدة عصب بشكل فعّال للغاية في الفترة الأولى من حرب اليمن، لكن العلاقات توترت مجددًا عام 2023 بين أبوظبي وأسمرة بعد أن انحازت الإمارات إلى جانب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في خلافاته المتفاقمة مع حليفه السابق الرئيس الإريتري إسياس أفورقي.
- في مايو/ أيار 2017، تسلمت موانئ دبي العالمية إدارة ميناء بربرة في أرض الصومال، إيذانًا ببدء تطبيق عقد امتياز إدارة وتطوير الميناء، في حفل أُقيم بحضور رئيس “أرض الصومال”.
- مطلع العام الحالي 2024 دعمت الإمارات بقوة خطط حليفتها إثيوبيا للوصول إلى البحر، عبر اتفاقية وقّعتها أديس أبابا مع إقليم “أرض الصومال” الانفصالي، تمنحها إمكانية تأجير 20 كيلومترًا من سواحلها لإثيوبيا غير الساحلية لمدة 50 عامًا، وهي اتفاقية أثارت غضب الحكومة الصومالية ومعظم دول المنطقة في القرن الأفريقي والعالم العربي وخاصة مصر.
مطامع الإمارات
أرجعت صحيفة “لوموند” الفرنسية مساعي الإمارات للاستحواذ على 400 ألف هكتار من الأراضي الزراعية في السودان ضمن صفقة الميناء الجديد، إلى تخوفها من نقص الغذاء، ونقلت الصحيفة عن سيباستيان بوسوا، مؤلف كتاب “دولة الإمارات”، قوله إن “رئيس الإمارات محمد بن زايد يستعدّ لحقبة ما بعد النفط، ويتّبع استراتيجية التنويع من خلال استثمارات شاملة”، مشيرًا بشكل خاص إلى اهتمام الإمارات المستمر بالأمن الغذائي، حيث تستورد أبو ظبي 85% من احتياجاتها الغذائية.
ويضيف بوسوا أن الإمارات تسعى للسيطرة على كل من المصادر وطرق الإمداد في أفريقيا، فيما قال بنيامين هانتر، من شركة “فارسك مابلكروفت” للصحيفة ذاتها، إن “عمليات الاستحواذ التي قامت بها شركة موانئ دبي العالمية وموانئ أبوظبي، تعكس طموح الإمارات في امتلاك معظم سلسلة القيمة -البنية التحتية والطرق والموانئ- للحصول على أكبر قدر من النفوذ”.
وتابع: “على نهج الصين على طول “طرق الحرير الجديدة”، تنسج أبوظبي طريقًا في شرق أفريقيا من مصر إلى موزمبيق”، ليكون بمنزلة نقطة انطلاق لمصالحها الاقتصادية والأمنية.
فيما يتعلق بالسودان، كشف موقع “ميدل إيست آي” البريطاني مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، أن أبوظبي تستحوذ بالفعل على العديد من الأراضي والعمليات الزراعية في السودان، إذ تقوم الشركة العالمية القابضة (IHC)، أكبر شركة مدرجة في الإمارات، وشركة جنان للاستثمار بزراعة أكثر من 50 ألف هكتار في السودان.
وبحسب الموقع، يغطي مشروع أبو حمد الزراعي 162 ألف هكتار أخرى من الأراضي المزروعة، وأبو حمد هو مشروع زراعي ضخم شمال السودان تقوده شركة تنمية الصادرات الزراعية بالشراكة مع مجموعة دال، أكبر شركة خاصة في السودان.
وكان من المفترض أن يرتبط هذا المشروع الزراعي بعد توسعته بميناء أبو عمامة عبر الطريق البري الذي تمّت الإشارة إليه سابقًا (طوله 500 كيلومتر)، ليسمح للإمارات بفرض سيطرتها على الأراضي السودانية وطرق التجارة، ولعب دور حاسم في استراتيجياتها العسكرية والأمنية واللوجستية.
تمهيد لإلغاء الاتفاقية
حكومة السودان مهّدت لقرار إلغاء الاتفاقية العام الماضي، عندما افتتح اللواء ركن بحري محجوب بشرى رحمة، قائد القوات البحرية السودانية، في أكتوبر/ تشرين الأول قاعدة أبو عمامة البحرية العسكرية على ساحل البحر الأحمر، بالقرب من المنطقة التي جرى تخصيصها لمشروع ميناء أبو عمامة ومنطقة أبو عمامة الاقتصادية.
وعليه من المتوقع أن تشرع الحكومة السودانية في إنهاء المزيد من الاتفاقيات الاستثمارية الخاصة بالإمارات والمرتبطة بالميناء، مثل المشروع الزراعي الذي كان من المفترض أن يرتبط بالميناء الجديد عبر طريق برّي جديد هو الآخر، ويبلغ طوله 500 كيلومتر.
كما أعلن وزير التجارة والتموين، الفاتح عبد الله، في وقت سابق عن ترتيبات لإنشاء مصفاة للذهب بالتعاون مع رجال أعمال قطريين في الدوحة، والذي عدّه أنه سيسهّل إعادة تصديره إلى أسواق أخرى.
برر الوزير السوداني اختيار قطر كسوق أخرى لذهب بلاده، بأنه يأتي ضمن خطط توزيع أدوار الأسواق لدول واعدة في ظل الاتفاقيات والبروتوكولات التجارية، لافتًا إلى أن “إنتاج الذهب في السودان يتزايد، والمصدرون بحاجة لأسواق أخرى غير الأسواق التقليدية”.
وأشار إلى أن إنشاء مصفاة الذهب في الدوحة “ستؤدي إلى تسهيلات للتاجر السوداني على مستوى التصدير. الناس كانت تتجه للعمل في الإمارات، والآن نفتح سوقًا ثانية في الذهب على أساس نقل التجار إلى دول أخرى بعد تصفيته”. وقال إن الذهب المنتج في السودان يتم تصديره كله مباشرة، نظرًا إلى عدم وجود معامل تصفية في البلاد، ومشيرًا إلى وجود المعامل في قطر.
تلطُّخ سمعة أبوظبي
من الواضح أن دعم الإمارات المستمر لميليشيا الدعم السريع ارتدَّ سلبًا على مصالحها الاقتصادية، بعد إعلان الحكومة السودان إلغاء اتفاقية ميناء أبو عمامة مع أبوظبي، ما يشكّل ضربة قاسية للخطط الإماراتية بالتوسع التجاري والاقتصادي.
صفقة الميناء التي تبلغ 6 مليارات دولار كانت ستسمح للإمارات بالاستحواذ على منفذ جديد على البحر الأحمر، إلى جانب المزيد من الأراضي الزراعية السودانية وطرق التجارة، ضمن خططها الاستراتيجية الغذائية والأمنية واللوجستية.
خسائر الإمارات جراء دعمها لمبليشيات حميدتي لا تقتصر فقط على فقدان اتفاقيات استثمارية مهمة حصلت عليها بطرق ملتوية كصفقة الميناء، بل تعدّته إلى تلطُّخ سمعتها لدرجة أن وكالتها الرسمية أغلقت خاصية التعليق على صفحاتها بمنصتَي التواصل الاجتماعي إكس وفيسبوك، لمنع ظهور تعليقات الجمهور السوداني.
الغريب ان وكاله انباء رسميه قافله التعليقات .
زي اللي عامل جريمه و هربان . https://t.co/4KzRgCoIYT
— 𝕬𝖍𝖒𝖊𝖉 (@The_Coron) November 3, 2024
وفي أغسطس/ آب الماضي نجحت حملة سودانية في إقناع مغني الراب الأمريكي ماكليمور بإلغاء حفله الذي كان من المقرر إقامته بمدينة دبي، احتجاجًا على دعم الإمارات الإبادة الجماعية في السودان وتسليح ميليشيا الدعم السريع، ما شكّل ضربة لسمعة دولة الإمارات والصورة الذهنية التي تحاول ترسيخها كوجهة جاذبة للسياحة والفعاليات الكبرى.
كما ينشط سودانيو الشتات في تنظيم احتجاجات وفعاليات تدعو إلى مقاطعة أبوظبي واستثماراتها، مثل الفعالية التي نُظمت مؤخرًا أمام ملعب الإمارات (آرسنال) بمبادرة من منظمتي “لندن من أجل السودان” و“العمل من أجل السودان”، خلال مباراة آرسنال وليفربول يوم الأحد السابق، لإيصال رسالتهما بحسب بيان مشترك للمنظمتين يوم الثلاثاء.
جدير بالذكر أن المنظمتَين تخطّطان لاحتجاجات مماثلة الأسبوع القادم.
Protesters gathered outside #EmiratesStadium in London on Sunday, demanding #Arsenal F.C. end its sponsorship with #EmiratesAirlines over the #UAE‘s alleged role in Sudan’s ongoing civil war #SudanNews #KeepEyesOnSudan #Sudan_War_Updates https://t.co/NF2im2RdNE
— Radio Dabanga (@RadioDabanga) October 29, 2024
أخيرًا، دعم الإمارات لميليشيا حميدتي المتورطة في الانتهاكات المروعة بحقّ الشعب السوداني يرتبط ارتباطًا وثيقًا باهتمام أبوظبي بالموارد الزراعية والمعدنية التي تزخر بها الدولة الأفريقية، إلى جانب خطط كسب النفوذ الخارجي للدولة الخليجية، وفق ما أقرّت به ضمنًا رئيسة مركز الإمارات للسياسات إبتسام الكتبي، عندما قالت: “نحن موجودون في السودان لحماية مصالحنا الاقتصادية واستثماراتنا”.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل نجح تدخل أبوظبي وتسليحها للدعم السريع في حماية المصالح الإماراتية؟ أم تسبّب في فقدانها وتلطيخ سمعة الدولة أكثر ممّا كانت ملطخة بالفعل؟