لم يكن يتوقع حسام أن الفترة الزمنية التي يقطعها من منزله بمدينة السادس من أكتوبر لمعرض القاهرة الدولي للكتاب ستقفز من ساعة حين كان بمقره القديم في أرض المعارض بشارع صلاح سالم بوسط القاهرة، إلى ثلاث ساعات حتى يصل إلى المقر الجديد للمعرض بمنطقة التجمع الخامس (شرق) على حدود العاصمة المصرية، هذا بخلاف أكثر من ساعة يقضيها بحثًا عن “park” لسيارته في ظل ضيق المكان الذي خلف ازدحامًا شديدًا.
ورغم توفير وسائل مواصلات خاصة به، يأتي اليوبيل الذهبي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام والمقرر إقامته في الفترة بين 23 من يناير حتى 5 من فبراير وسط حالة من الجدل داخل الشارع المصري جراء تغيير مكانه وما ترتب عليه من تداعيات، وصلت إلى حد اتهام السلطات الحاليّة بمحاولة إقصاء المعرض عن أماكن تجمع المثقفين والجماهير، في حين تبرر الحكومة القرار بالتجديد والتطوير، خاصة مع ما وصفتها بالحالة “المزرية” التي وصلت لها أرض المعارض القديمة.
ورغم الانتقادات الكثيرة التي وجهت للهيئة العامة للكتاب ووزارة الثقافة المصرية بشأن نقل مقر إقامة المعرض عن “أرض المعارض بمدينة نصر”، التي كانت تستضيف هذا المحفل منذ عام 1983، فإن السلطات أصرت على التمسك بموقفها وسط حالة من السخط ليس بين القراء فحسب، بل وسط الناشرين وأصحاب المكتبات ودور النشر كذلك.. فهل حققت تلك الخطوة أهدافها؟
ليست المرة الأولى
هذه ليست المرة الأولى التي يتم تغيير مكان إقامة معرض القاهرة للكتاب، فالمعرض الذي أنشئ عام 1969 بتكليف من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لوزير الثقافة ثروت عكاشة بإقامة أول معرض للكتاب في مصر بمشاركة مئة ناشر من خمس دول فقط، وكان ذلك بمناسبة افتتاح دار الأوبرا المصرية في الأول من فبراير من العام نفسه.
المعرض حينها اتخذ من الأوبرا مقرًا له، وكان الهدف الرئيسي من إقامته سياسي من الدرجة الأولى، إذ حاول ناصر وقتها إثبات أن مصر لا تزال قلب الوطن العربي النابض، وذلك بعد هزيمة يونيو 1967، وجاء افتتاح المعرض حينها مواكبًا الذكرى الألف لتأسيس القاهرة (969م).
“السفير جوفرين محب للقراءة، وكان منبهرًا جدًا من المكان الجديد لمعرض الكتاب في مركز مصر للمعارض الدولية، الذي يتزامن مع احتفال المعرض هذا العام باليوبيل الذهبي” سفارة “إسرائيل” في القاهرة
وبعد تولي أنور السادات مقاليد الأمور خلفًا لعبد الناصر، وقع الاختيار على أرض المعارض الدولية في مدينة نصر لتكون المقر الجديد لمعرض الكتاب وكان ذلك عام 1983، على خلفية اتساع رقعة الجماهير والناشرين المشاركين في المعرض في ظل ضيق المكان المخصص له آنذاك.
في هذا المكان شهد المعرض تاريخه الحقيقي حيث الإقبال الكبير الذي وصل في بعض السنوات إلى 4 ملايين زائر، إضافة إلى اتساع مكانه الذي سمح بمشاركة الكثير من الناشرين والمهتمين بالشأن الثقافي، وفي عام 2006 تم اختيار معرض القاهرة كأفضل معرض في العالم بعد معرض فرانكفورت.
معرض الكتاب في دورته الأخيرة بمقره القديم بمدينة نصر
تضييق أمني غير مسبوق
منذ الوهلة الأولى لوصولك مقر إقامة المعرض الجديد تخطف أبصارك الطوابير الممتدة على أبواب المعرض الخمسة، وقد يستغرق الدخول وقتًا طويلاً ربما يصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 30 دقيقة، حيث التفتيش الدقيق لحقائب السيدات على وجه الخصوص إضافة إلى الازدحام الشديد من رجال الأمن حول بوابة الدخول.
وبعد الانتهاء من هذا الطابور المرهق قد يتوقع البعض أن الأمر انتهى، وبات في مقدرة المواطن أن يتجول داخل المعرض وقاعاته بأريحية نسبية كما كان الوضع في السنوات السابقة، لكن الوضع لم يكن كذلك، ففي مدخل كل قاعة يوجد طابور آخر وبوابة إلكترونية جديدة، وتفتيش ربما يكون أكثر دقة من الباب الرئيسي، وحين توجهنا بسؤال ضابط الأمن عن أسباب هذا التضييق الذي يقضي على الوقت والجهد، كانت الاجابة “التعليمات”.
الضابط الذي رفض الإفصاح عن اسمه أشار إلى أن تلك الإجراءات وإن كانت مرهقة للمواطنين وتضيع عليهم الكثير من الوقت فضلاً عن الإجهاد الكبير جراء الوقوف لوقت طويل، فإنها في نهاية الأمر تهدف إلى حمايتهم وتوفير الأمن والأمان لهم، خاصة في هذا التوقيت الذي باتت فيه الدولة مستهدفة من هنا وهناك، على حد قوله.
طوابير لدخول قاعات المعرض
حضور سياسي
شهدت أروقة المعرض هذا العام مشاركة بعض الدول حديثة العهد على هذا المحفل، على رأسها قبرص وصربيا واليونان، وهي الدول التي شهدت علاقاتها مع مصر ازدهارًا كبيرًا منذ تنصيب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، هذا بخلاف الحضور القوي لجناح المملكة العربية السعودية والأنشطة الثقافية التي يقوم بها على مدار أيام المعرض وتستهدف تجميل صورة المملكة وتصدير صورة ذهنية جيدة عنها.
وفي السياق ذاته فقد سادت حالة من الغضب أوساط الناشطين في مصر، على خلفية زيارة السفير الإسرائيلي لدى القاهرة، دافيد جوفرين، إلى معرض القاهرة، الثلاثاء الماضي، رفقة بعض موظفي السفارة، مستنكرين توسع نظام السيسي في ممارسات التطبيع خلال السنوات الأخيرة.
نيران الأسعار المرتفعة لم يكتو بها الجماهير فحسب، إذ عبر الكثير من الناشرين وأصحاب دور النشر عن استيائهم من المبالغة في رفع أسعار الخدمات في المعرض
سفارة دولة الاحتلال في القاهرة كتبت تعليقًا على تلك الزيارة على صفحتها على “فيس بوك” تقول: “إن السفير جوفرين محب للقراءة، وكان منبهرًا جدًا من المكان الجديد لمعرض الكتاب في مركز مصر للمعارض الدولية، الذي يتزامن مع احتفال المعرض هذا العام باليوبيل الذهبي”، ناقلة عنه قوله: “إنه مكان أكبر وأجمل، مما يُعطي للكتاب قيمته ومكانته”.
نقابة الصحفيين المصريين ومن خلال لجنتها الثقافية أدانت الزيارة بصورة كبيرة، مستنكرة تبرير المسؤولين لها، مؤكدة في بيان لها أن هذه التصرفات الصبيانية للسفير ومحاولته الإيحاء بوجود حالة من التطبيع الثقافي، لن تثني الشعب المصري عن التأكيد على رفضه لكل أشكال التطبيع.
أما عمرو بدر عضو المجلس، فعلق على الزيارة عبر صفحته على “فيس بوك” قائلاً: “أمبارح في وسط أخبار الحبس والتعديلات الدستورية وغيره مر خبر عار ومصيبة سودا.. السفير الإسرائيلي زار معرض الكتاب مع مسؤولين من السفارة.. واتجول في المعرض براحته.. مسخرة ومأساة وانحطاط عمرنا ما عشناه قبل كده!”.
جدير بالذكر أن “إسرائيل” شاركت بالمعرض عام 1981 بأوامر من السادات، مما أثار ردود فعل غاضبة، ورغم التكثيف الأمني فإن بعض المتظاهرين وصلوا للجناح الإسرائيلي داخل المعرض وأحرقوا العلم، مما أدى إلى منع مشاركة “إسرائيل” مرة أخرى.
ارتفاع الأسعار
لوحظ كذلك ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية والأطعمة في المعرض على عكس ما كان عليه الوضع في المكان القديم، ويرجع ذلك إلى أن المطاعم المشاركة من كبريات المطاعم في مصر التي تقدم مأكولات بأسعار كبيرة وهو ما لا يتناسب مع إمكانيات المواطن العادي.
“شريف س” طالب بجامعة القاهرة، أشار إلى أن أقل أنواع الأطعمة سعرًا هي “علبة الكشري” إذ يبلغ سعرها عشرة جنيهات (0.6.5 دولار) ويبلغ سعر ساندوتش الفول أو الطعمية خمسة جنيهات (0.3.25 دولار)، موضحًا أن تلك الأسعار ربما لا تتناسب مع الكثير من المواطنين.
وأضاف الطالب الجامعي لـ”نون بوست” أن 20 جنيهًا (1.2 دولار) كانت كفيلة بقضاء يوم كامل في المعرض حين كان في مقره القديم، فضلاً عن ارتفاع أسعار الكتب بصورة كبيرة في ظل غياب سور الأزبكية الذي كان ملاذًا لفقراء المثقفين ومحبي القراءة، وبات الأمر محصورًا على دور النشر الكبيرة غالية الثمن.
الملفت للنظر أن هذا الحضور الكبير وفق تلك الإحصاءات لم يقابله بالتوازي رواج في عملية البيع والشراء، على عكس ما كان في الأعوام السابقة
نيران الأسعار المرتفعة لم يكتو بها الجماهير فحسب، إذ عبر الكثير من الناشرين وأصحاب دور النشر عن استيائهم من المبالغة في رفع أسعار الخدمات في المعرض، وهو ما أشار إليه محمد عيد، مدير علاقات الناشرين ببنك المعلومات العربي (أسك زاد) وأحد دور النشر الإلكترونية المشاركة في المعرض، الذي وصف ما يحدث بـ”السبوبة”.
عيد لـ”نون بوست” كشف أن سعر متر الأرض لدور النشر ارتفع إلى 1000 جنيه بدلاً من 350 جنيهًا العام الماضي، فيما قفزت أسعار البانرات المميزة فالبانر الواحد يكلف 3000 جنيه، وتابع: “إدارة المعرض غطت تكاليف التجهيزات من أصحاب دور النشر وشركات تكنولوجيا المعلومات وملاك المطاعم والكافيهات”.
وأضاف أن الكثير من دور النشر لن تشارك في الدورات القادمة للمعرض حال الإبقاء على سياسة التسعير الجديدة، لافتًا إلى تراجع المبيعات وتضاعف الخسائر في ظل الإحجام عن الشراء لأسباب عدة على رأسها أسعار الكتب الغالية والأزمة الاقتصادية التي يشهدها الشارع المصري.
إقبال كثيف على صورة محمد صلاح
حضور كثيف ولكن
وفق الإحصاءات الرسمية الصادرة عن إدارة المعرض فإن أعداد الزائرين تشهد نموًا ما بين اليوم والآخر، تصل ذروتها يوم الإجازة الأسبوعية (الجمعة)، فيما كشفت بعض وسائل الإعلام عن بلوغ أعداد رواد المعرض منذ افتتاحه في الـ23 من يناير الماضي قرابة مليون و400 ألف زائر، نقلاً عن إسلام بيومي مدير إدارة المعارض بالهيئة العامة المصرية للكتاب.
الملفت للنظر أن هذا الحضور الكبير وفق تلك الإحصاءات لم يقابله بالتوازي رواج في عملية البيع والشراء، على عكس ما كان في الأعوام السابقة، وهو ما أكده العديد من أصحاب دور النشر والعاملين بها، ممن اشتكوا قلة البيع دفعت ببعضهم إلى تقليص عدد العاملين مع مرور الوقت.
“إسلام. ح” مدير البيع بإحدى دور النشر المشاركة أكد في حديثه لـ”نون بوست” تراجع حركة البيع بصفة عامة لدى معظم دور النشر الموجودة هذا العام، كاشفًا عن تراجع في الإقبال على مطبوعات داره تقدر بنحو 65% عن العام الماضي، ما دفعه للتفكير في المشاركة خلال السنوات القادمة.
وأضاف أن أسباب هذا الركود عديدة بعضها يتعلق بارتفاع أسعار الكتب ذاتها في ظل القفزات الجنونية في أسعار الورق والطباعة والضرائب مقارنة بالسابق، وأخرى تتعلق بالتحديات الاقتصادية التي تواجه النسبة الكبرى من الجماهير التي وقعت بين خيارين غاية في الصعوبة، إما الطعام والشراب أو الثقافة، وعليه اكتفى الكثير منهم بالحضور من باب “الفرجة” وفقط والتقاط الصور والفيديوهات.
ورغم التحديات التي تواجه معرض القاهرة الدولي للكتاب في يوبيله الذهبي التي ربما تهدد مستقبله حال استمر الوضع على ما هو عليه دون مراجعة من المسؤولين عن الثقافة في مصر في ظل استحداث معارض أخرى بديلة، كالأزبكية ودرب المعز، غير أن أكثر من لاقى ترحيبًا وحضورًا مكثفًا من قبل زوار المعرض، صورة اللاعب المصري الشهير محمد صلاح، التي زينت بعض جدران الهيئات المشاركة وأحدثت حالة من الرواج عبر التقاط الصور معها.