ترجمة وتحرير: نون بوست
حصلت روسيا على أفضل هدية ممكنة من إدارة ترامب قبيل عيد الميلاد مباشرة، وهي الآن تمتلك حرية تحديد مستقبل شريكها المضطرب في الشرق الأوسط. وفي الواقع، لن تتغير استراتيجية الكرملين كثيرا مع استعداد الولايات المتحدة لسحب قواتها وعدم الانخراط في الصراع السوري، ذلك أنه لم يكن حول سوريا منذ البداية.
لطالما كان هدف الكرملين إبراز آثار الحملة الروسية في سوريا خارج الشرق الأوسط، حيث كان يُنظر إلى هذا الصراع على أنه أداة لعرض الطموحات التي تؤكد أن روسيا قوة عالمية. وترى موسكو أن تخلي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سوريا يعتبر انتصارا يُضاف إلى حد كبير إلى رأسمالها السياسي. ويمكن لهذا الصراع تمكين روسيا من الاتصال بالقادة الأوروبيين في فرنسا وألمانيا والممثل الأعلى لسياسة الأمن والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وذلك من خلال إقناعهم بتبني نسختها الخاصة من التسوية السياسية.
لقد شنت روسيا غاراتها الجوية رسميا في سوريا في أيلول/ سبتمبر سنة 2015. وفي الوقت ذاته، صاحبت محاولات موسكو الصارمة لتشديد قبضتها على أوكرانيا الشرقية موجات من العقوبات سرعان ما أدت إلى انهيار العاصمة السياسية الدولية في الكرملين. ورغم المحاولات الجادة للظهور كأكبر عائق في العالم وإثارة غضب الغرب عند كل منعطف، كان هدف موسكو يتمثل في اكتساب نفوذ كاف بشكل يجعل الدول الكبرى تتعامل معها على قدم المساواة.
عندما تدخلت روسيا في الشرق الأوسط، وجدت سوريا نفسها في وضع شبيه بحالة الطبيعة وفقا لمنظور الفيلسوف توماس هوبز
في واقع الأمر، كانت أوكرانيا قضية خاسرة. ووفقا للمحرر السابق في قناة “راين” التلفزيونية الروسية المستقلة للأخبار، ميخائيل زيغار، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جورج بوش سنة 2008 في قمة حلف شمال الأطلسي قائلا: “إذا انضمت أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، فإنها ستفعل ذلك دون تضمين شبه جزيرة القرم والمناطق الشرقية كأراضي تابعة لها”. في المقابل، عمد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى إهانة الروس في وقت لاحق والقول إن الكرملين لم يكن في وضع يسمح له بطلب إجراء تسوية حول الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرة الاتحاد السوفيتي، كما أن طموحاته الدولية كانت تتعدى دائما كونه “قوة إقليمية”.
عندما تدخلت روسيا في الشرق الأوسط، وجدت سوريا نفسها في وضع شبيه بحالة الطبيعة وفقا لمنظور الفيلسوف توماس هوبز؛ حيث تتقاتل آلاف الجماعات المسلحة ضد بعضها البعض ويصبح تنظيم الدولة بذلك بمثابة “الرجل الغول” في العالم. ولكن لا تزال موسكو تعاني مما يسمى بالمتلازمة الأفغانية التي سبقت انهيار الامبراطورية السوفيتية، إذ لا تزال أشباح الحرب في أفغانستان من الثمانينات تطارد أروقة الكرملين. ومن المرجح أن القليلين فقط يريدون أن ينتهي بهم المطاف في ساحة قتال أخرى في العالم الإسلامي.
على الرغم من أمله في تحقيق انتصار سريع عقب الإطاحة بالرئيس الأفغاني حفيظ الله أمين وإعادة وضع أسس القيادة الشيوعية سنة 1979، إلا أن الجيش السوفيتي انتهى به المطاف بخوض معركة دامت لحوالي عقد من الزمن خسر على إثرها حوالي 15 ألف جندي. ونتيجة لذلك، كان المسؤولون السياسيون الروس يتعاملون مع جميع الحملات العسكرية في سوريا بحذر شديد. ولا شك في أن التدخل العسكري يعتبر مثل مقامرة كبرى، إلا أن الفوائد المحتملة تفوقت في نهاية المطاف على المخاطر حسب اعتقاد الخبراء الاستراتيجيين في الكرملين.
رأى الاستراتيجيون أن هزيمة تنظيم الدولة وقيادة المجهودات التي ترمي للتوصل لتسوية سياسية في سوريا تمثل فرصة لتأكيد مكانة روسيا كقوة عالمية. وبالاعتماد على فرصتها للقتال إلى جانب القوى الغربية، فضلا عن علاقات موسكو الخاصة مع سوريا وإيران التي اضطلعت بأغلب المعارك على الأرض، يمكن للكرملين تقديم نفسه على أنه محاربٌ للشر العالمي الذي يجسده تنظيم الدولة، مع ضمان الحصول على ميزة نسبية.
بعد مرور ثلاث سنوات من القصف المتواصل وخلال جميع القمم التي عقدت السنة الماضية في سوتشي وأستانا، أصبح جليا أن روسيا كانت تدافع عن تسوية سياسية
أما الهدف الآخر الذي تطمح روسيا إلى تحقيقه فيتمثل في بروزها كقوة إقليمية في المنطقة. وفي حديث له أثناء الجلسة العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت قبل يومين فقط من الحملة الجوية، قدم بوتين روسيا على أنها تلعب “دور المصلح” في سوريا من خلال توجيهه السؤال التالي للولايات المتحدة: “هل تدرك الآن على الأقل ماذا فعلت؟”.
في تلك الفترة، شعرت موسكو بوجود الفرصة الملائمة لملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة في منطقة نزاع نمت بسبب تعمق خيبات الأمل في الجانب الأمريكي والسياسة التدخلية التي تنتهجها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقد عاد الدور الإصلاحي الذي تلعبه موسكو بالفائدة عليها، لكن روسيا لم تتدخل في سوريا بهدف إصلاح الأوضاع هناك. لقد سعى بوتين دائما إلى أن يكون أكثر من مجرد مصلح، حيث أراد أن تصبح موسكو عنصرا فاعلا لا غنى عنه في المشهد السوري. وببساطة، لم تكن أعمال روسيا ذات منفعة ومدفوعة بتفكير تكتيكي قصير الأجل، ولم يكن هدفها في سوريا الاستيلاء على ما تبقى هناك، بل استعراض قوتها أمام العالم.
لقد اتضح أن النهج الذي تتبعه موسكو عاد بالفائدة عليها في ظل الأوضاع المضطربة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط. وعندما يتخذ رجل واحد من الكرملين مع مجموعة صغيرة من المساعدين المختارين جميع القرارات من خلال مكالمة هاتفية، فإن هذه الطريقة تعتبر مألوفة في الأعمال التجارية التي تتلاءم مع الأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء المنطقة.
بعد مرور ثلاث سنوات من القصف المتواصل وخلال جميع القمم التي عقدت السنة الماضية في سوتشي وأستانا، أصبح جليا أن روسيا كانت تدافع عن تسوية سياسية. ويبدو أن المغامرات الخارجية التي خاضها بوتين قد آتت أكلها. من جهة أخرى، ساعدت أعمال الكرملين على ضمان وصوله إلى جميع الأطراف المتناحرة في المنطقة، حيث أصبح صوته الآن مسموعا لدى الحكومة في طهران والقاهرة وحتى في القصور الفاخرة في ممالك الخليج.
حتى قبل أن يعلن ترامب عن قراره بالانسحاب من سوريا، اكتسبت موسكو ما يكفي من رأس المال السياسي واستخدمت نفوذها في القوة الصلبة لتصبح الوسيط الرئيسي
على الرغم من أن الطريق إلى التسوية السياسية وإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الحرب سيكون مسألة صعبة، إلا أن هناك ثقة في أن بنود اتفاق أستانا ستقدم نتائج مقبولة. ويشعر الكرملين بالحاجة إلى البدء في تقليص تواجده الإقليمي والتشبث بمصالحه الربحية، التي تتمثل أساسا في زيادة حجم التجارة ورأس المال السياسي الإقليمي، والتي يجب أن تكون واضحة لجميع الأطراف في المنطقة.
حتى قبل أن يعلن ترامب عن قراره بالانسحاب من سوريا، اكتسبت موسكو ما يكفي من رأس المال السياسي واستخدمت نفوذها في القوة الصلبة لتصبح الوسيط الرئيسي، مما يجعلها شريكة للجميع ولكنها ليست صديقة لأي طرف. أما الآن، مع انسحاب واشنطن إراديا من المعادلة السورية، تظل موسكو يقظة حيال عودة محتملة لأطراف فاعلة عنيفة، على غرار تنظيم الدولة أو جبهة النصرة، لكنها تعمل أيضا على تغيير استراتيجيتها العنيدة وجعلها انتهازية بدرجة أكبر.
مرة أخرى، يسعى الكرملين جاهدا لإثبات نفسه على أنه مصدر نفوذ وقوة. وتريد موسكو أن تتعامل معها دول المنطقة التعامل على أنها قوة قادرة على الاستفادة من الإمكانيات المتاحة، سواء في مجال الطاقة أو صادرات الأسلحة أو الزراعة، فضلا عن الحفاظ على توازن أمني ملائم.
في الوقت الذي جلبت فيه الاستراتيجية الروسية المتبعة في سوريا مكاسب ملموسة، يبقى السؤال المطروح: إلى متى يستطيع الكرملين التمسك بهذه المكاسب؟ مع سعي ترامب إلى “إيقاف الحروب التي لا نهاية لها” قد يشعر اللاعبون المحليون، على غرار طهران أو الرياض، بضغوط أقل. وقد تجد موسكو نفسها قريبا في خضم صراع حاد مع الطائفية، ولن يكون لدى بوتين أي خيار سوى الانحياز إلى طرف من الأطراف المتصارعة.
مع انخفاض شعبية بوتين إلى أدنى مستوى لها منذ 13 سنة ومواجهة الاقتصاد الروسي حالة من الركود، بات تواجد الكرملين القوي في الشرق الأوسط اليوم شبيها بما كان عليه في بداية عهد ميخائيل غورباتشوف، عندما كان الاقتصاد الروسي متزعزعا وكان الشعب يطالب بالتغيير. كانت موسكو في ذلك الوقت مشغولة أيضا بالألعاب الجيوسياسية وتقاتل الأصولية الإسلامية في أفغانستان، لكن الشؤون الداخلية كانت في حالة من الفوضى وكلنا نعرف كيف انتهى بها المطاف.
المصدر: فورين بوليسي