في عام 1987، وفي أتون الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وقَّع الرئيسان الأمريكي رونالد ريغان والسوفيتي ميخائيل غورباتشوف معاهدة القوى النووية المتوسطة المعروفة بـ”اتفاقية الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى “معاهدة الصواريخ النووية”، في محاولة للتخلص نهائيًا من الصواريخ النووية التقليدية التي تُطلق من الأرض، التي يتراوح مداها بين 500 كيلومتر و550 كيلومترًا.
لكن واشنطن شرعت منذ العام 2014 في اتهام موسكو بانتهاك المعاهدة باختبارها منظومة صواريخ “9М729“، وجاء الإنذار الأخير لموسكو للامتثال للمعاهدة بعد إعلان الولايات المتحدة موخرًا تعليق التزاماتها بالمعاهدة قبل الانسحاب النهائي منها في غضون 6 أشهر، لذلك يثير إعلان إدارة ترامب عزمها الانسحاب من المعاهدة مخاوف من انطلاق سباق تسلح جديد مع كل من روسيا والصين.
الإنذار الأخير.. الصاروخ الروسي الذي وضع المعاهدة في مرمى النيران
“الولايات المتحدة ستعلَّق التزاماتها بمضامين معاهدة حظر الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى اعتبارًا من يوم 2 من فبراير الحاليّ، لم يعد من الممكن التقيد بمضامين المعاهدة بينما تنتهكها روسيا دون خجل، وإذا لم تعد روسيا إلى الامتثال الكامل للمعاهدة في غضون 6 أشهر، ستكون حينها المعاهدة لاغية”.
قال ذلك وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في المؤتمر الصحفي الذي عُقد بمقر وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن، يوم الجمعة، بموازاة ذلك، منح بومبيو روسيا مهلة 6 أشهر للتفاوض قبل الانسحاب النهائي من المعاهدة، بينما ترك الباب مفتوحًا أمام إجراء مفاوضات مع الروس خلال المهلة المحددة، للتوصل إلى اتفاق جديد بشأن معاهدة الصواريخ النووية التي يتراوح مداها بين 500 إلى 550 كيلومترًا.
تُصر روسيا على أن صواريخ كروز “SSC-8” المُثيرة للجدل لا يمكن أن تطير إلا على مسافة 480 كيلومترًا، ما يعني أنها تقع ضمن الحد المسموح به (حدود 500 كيلومتر) بموجب المعاهدة
وبرّرت واشنطن تعليق التزامها بالمعاهدة تمهيدًا لانسحابها بقول وزير الخارجية الأمريكي والرئيس دونالد ترامب في بيان جاء فيه: “روسيا انتهكت بنود نزع الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى لفترة طويلة مع الإفلات من العقاب، وتطوير وإطلاق نظام صاروخي محظور، الذي يشكل تهديدًا مباشرًا لحلفائنا وقواتنا في الخارج”.
وتستند أمريكا في اتهاماتها لروسيا إلى ما كشفت عنه جولة في معرض عسكري في موسكو بتاريخ 23 من يناير/كانون الثاني الماضي، عن صاروخ “نوفاتور “9M729، الذي يشكل – بحسب وجهات النظر الأمريكية – تهديدًا لدول حلف الناتو، الذي يقول إنه السبب وراء انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة القوى النووية، فهل وضع هذا الصاروخ المعاهدة في مرمى النيران؟
تنفي موسكو حدوث أي خرق لبنود المعاهدة التي ورثتها عن الاتحاد السوفياتي، بل تتهم الولايات المتحدة بانتهاك الاتفاقية النووية، مشيرة إلى درع صاروخي لحلف الناتو في رومانيا القريبة من حدودها يمكن أن يطلق صواريخ نووية في أي وقت، وفي عام 2007، هددت روسيا بالانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية.
وقع غورباتشوف وريغان معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى عام 1987
ومن ناحية أخرى، تُصر روسيا على أن صواريخ كروز “SSC-8” المُثيرة للجدل لا يمكن أن تطير إلا على مسافة 480 كيلومترًا، ما يعني أنها تقع ضمن الحد المسموح به (حدود 500 كيلومتر) بموجب المعاهدة، وفي يوم الأحد، صرح مسؤول بوزارة الخارجية الروسية لم يذكر اسمه لوكالات الأنباء الحكومية أن واشنطن “تدمر خطوة بخطوة أساس الاتفاق” لسنوات عديدة.
وفي تصريحات لوسائل الإعلام الروسية، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا إن الخروج الأمريكي ليس مسألة الشعور بالذنب الروسي، لكنه مثال آخر على تطبيق واشنطن مخططها الشامل الرامي إلى التملص من المسؤولية على مختلف الأصعدة من خلال فسخ أحادي للعديد من الاتفاقات الدولية التي وقعتها سابقًا.
الصين هي السبب.. هل كان الانسحاب الأمريكي متوقعًا؟
بموجب معاهدة الحد من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى دمرت واشنطن وموسكو أكثر من 2500 صاروخ، وحظرت المعاهدة فئة كاملة من الأسلحة، وهي صواريخ كروز التي يتراوح مداها بين 500 و550 كيلومترًا، وبالتالي وضعت المعاهدة حدًا للأزمة التي اندلعت في الثمانينيات بسبب نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ “إس إس-20” النووية، التي كانت تستهدف عواصم أوروبا.
ويُنظر إلى هذه الأسلحة على أنها خطيرة بشكل خاص لأنها لا تستغرق سوى دقائق معدودة للوصول إلى أهدافها، مما يترك القليل من الوقت أمام الزعماء السياسيين للتفكير في الرد ويرفع خطر نشوب حرب نووية في حالة التحذير الكاذب بالهجوم.
موسكو، من جهتها، اعتبرت أن هدف واشنطن الرئيسي من الانسحاب المُزمَع من المعاهدة هو الصين، التي أنتجب وفقًا للتقديرات الأمريكية مجموعة من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى تضم أكثر من ألف صاروخ
لكن ذلك لم يمنع سيل الاتهامات بأن موسكو تنتهك المعاهدة، ففي الـ20 من أكتوبر الماضي، أعلن ترامب عزمه الانسحاب من المعاهدة، متهمًا الجانب الروسي بخرق شروطها من خلال تصنيع صواريخ من نوع “9“М729، والمطالبة بتضمين الصين.
وفي الـ4 من ديسمبر/كانون الثاني الماضي طالبت الولايات المتحدة روسيا على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو بتدمير هذا الصاروخ أو تعديله كي يتوافق مع المعايير المنصوص عليها في الاتفاقية، وذلك في غضون 60 يومًا، وهدد حينذاك بتعليق مشاركة بلاده في الاتفاقية.
موسكو، من جهتها، اعتبرت أن هدف واشنطن الرئيسي من الانسحاب المُزمَع من المعاهدة هو الصين التي أنتجب وفقًا للتقديرات الأمريكية مجموعة من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى تضم أكثر من ألف صاروخ، وتطال مياه بحري الصين الجنوبي والشرقي.
واعتبر السكرتير الأسبق لمجلس الأمن الروسي الأكاديمي أندريه كوكوشين أن “هذه القوة الصاروخية لا تسمح للولايات المتحدة بنشر مجموعاتها الضاربة من حاملات الطائرات في هذه المناطق دون عقاب، لقد تمكّن الجيش الصيني من تشكيل مجموعة كبيرة من الأسلحة عالية الدقة، وخاصة الصواريخ البالستية التي بإمكانها ضرب حاملات الطائرات الأمريكية والقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة”.
ويسود اعتقاد في واشنطن أن المعاهدة تمثل إخلالاً بموازين القوى، ليس فقط لأن روسيا تطور الصواريخ المحظورة بل أيضًا لأن الصين، المنافس الإستراتيجي للولايات المتحدة، ليست طرفًا فيها، كما أعرب المسؤولون الأمريكيون عن قلقهم من أن الصين، التي ليست طرفًا في المعاهدة، تكتسب ميزة عسكرية كبيرة في آسيا من خلال نشر أعداد كبيرة من الصواريخ التي تتجاوز حدود المعاهدة.
وفي أول رد فعلي دولي على الإعلان الأمريكي، أكد حلف شمال الأطلسي “الناتو” تأييده التام لقرار واشنطن، لافتًا في بيان إلى أن “الولايات المتحدة أقدمت على هذا الإجراء ردًا على تهديدات كبيرة للأمن الأوروبي الأطلسي الناجمة عن قيام روسيا سرًا بتجربة وإنتاج ونشر أنظمة صواريخ كروز التي تُطلق من الأرض”.
إطلاق منافسة صاروخية جديدة
أثار احتمال انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ النووية مصدر قلق عالمي، وبعد إعلان الولايات المتحدة، ذكر وزير الخارجية الألماني هايكو ماس أن روسيا غير مستعدة لاستعادة الثقة في معاهدة الأسلحة النووية، مضيفًا: “سيكون هناك قدر أقل من الأمن دون المعاهدة”، فيما قالت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان إنها تأسف لقرار الولايات المتحدة، لكنها شجعت الحوار مع روسيا خلال فترة الستة أشهر والتشاور مع شركاء حلف الناتو.
وقال الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ إن الحلف لا ينوي نقل صواريخ نووية جديدة إلى أوروبا، لكن في الوقت نفسه علينا أن نتأكد من أننا نحافظ على قوة ردع ذات مصداقية وفاعلية”، دون إعطاء تفاصيل عما يمكن أن يستتبعه الخيار العسكري المختلف الذي يبحث عنه حلف الاطلسي.
يُتوقع أن تُنهي هذه الخطوة احتمال تجديد معاهدة ستارت الجديدة “New Start” بين موسكو وواشنطن التي وقعها كل من الرئيسيين أوباما ومدفيديف في 8 من أبريل/نيسان 2010 في براغ
وبحسب خبراء الأسلحة النووية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في بيان صدر هذا الأسبوع، على الرغم من أن الانتهاك المزعوم لروسيا لمعاهدة الأسلحة النووية مشكلة خطيرة، فإن الانسحاب الأمريكي في ظل الظروف الحاليّة سيؤدي إلى نتائج عكسية، وبحسب قولهم، فإن “الانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية سيطلق منافسة صاروخية جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا”.
من الناحية الفنية، سوف يسري انسحاب الولايات المتحدة بعد ستة أشهر من إخطار هذا الأسبوع ، تاركًا نافذة صغيرة لإنقاذ المعاهدة، ففي محادثات جرت هذا الأسبوع في جنيف، ذكرت الولايات المتحدة وروسيا أنه لا يوجد انفراج في نزاعهما، تاركين سببًا قويًا للتفكير بأن أي من الطرفين سيغير موقفه بشأن ما إذا كان الصواريخ الروسية تنتهك الاتفاقية.
ويثير انسحاب الولايات المتحدة احتمال حدوث مزيد من التدهور في العلاقات الأمريكية الروسية، التي يمكن القول إنها في أدنى نقطة لها منذ عقود، كما يثير النقاش بين حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا عما إذا كانت انتهاكات روسيا المزعومة تستدعي اتخاذ إجراء مضاد مثل نشر صاروخ أمريكي مكافئ في القارة، علمًا أن الولايات المتحدة ليس لديها صواريخ ذات قدرات نووية في أوروبا، فقد سُحب آخر صاروخ من هذا النوع تمشيًا مع معاهدة الأسلحة النووية.
كما يُتوقع أن تُنهي هذه الخطوة احتمال تجديد معاهدة ستارت الجديدة “New Start” بين موسكو وواشنطن التي وقعها كل من الرئيسيين أوباما ومدفيديف في 8 من أبريل/نيسان 2010 في براغ، التي من المقرر أن تنتهي في 2021، وتنص على تخفيض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الإستراتيجية للبلدين بنسبة 30%، والحدود القصوى لآليات الإطلاق الإستراتيجية بنسبة 50% بالمقارنة مع المعاهدات السابقة.
وكانت “معاهدة ستارت الجديدة” قد أعادت التعاون والقيادة المشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا في مجال ضبط الأسلحة النووية وحققت تقدمًا في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، وحافظت على المرونة التي تحتاج إليها الولايات المتحدة لحماية أمنها وأمن حلفائها، لكن من المتوقع أن تنهار هذه الاتفاقية، فمعاهدة الأسلحة النووية هي العمود الفقري لها.