كيف تُثرى الحكاية؟ يحدث ذلك حين تكون الكتابة أكبر من محتواها وأكبر من القصص التي ترويها، حين يكون الأدب بمثابة انهماك في الذات الأكثر عمقًا وطريقة للتعبير عن الهوية، وحين ظهر الأدب اللاتيني وذاع صيته منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تمكن من إدهاش القراء وتسرب إلى أرواحهم شيئًا فشيئًا، لأنه كان أكثر من كلمات، حيث شهدت قارة أمريكا اللاتينية الكثير من الظروف التاريخية وتحديدًا الاستعمارين الإسباني والبرتغالي، وعليه جنح كتاب هذه القارة إلى الإبداع في تجسيد أوضاع بلادهم، إذ اعتبروا أنفسهم جزءًا مهمًا من عملية التعبير الوجداني العميق لذاكرة بلادهم.
كيف نسج أدباء أمريكا اللاتينية نصوصهم المليئة بالسحر والأساطير
لعبت الأسطورة دورًا في غاية الأهمية بالفن والأدب والثقافة في أمريكا اللاتينية، فمع وجود الاستعمار والشعوب التي تنتمي لثقافات مختلفة كان لا بد لهذا المزيج من العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية أن يثري المجتمع ويجعله ينتج حكايا تجمع بين الحقيقة والخيال مع إضافة بعض اللمسات الأسطورية والعجائبية.
تعد روايات أمريكا اللاتينية من أكثر الكتب مبيعًا حول العالم
وهكذا فهم أدباء أمريكا اللاتينية العالم وفسروه من خلال الوعي الأسطوري، وهذا الوعي مثل أي نسق فلسفي آخر ما هو إلا نظرة للواقع تشتمل على البحث في الأصول وعلاقة الإنسان بالعالم والكون والمكان والخبرات المهمة ومعنى القدر، وقد تجسد هذا الوعي الأسطوري في أسلوب “الواقعية السحرية” الأدبي وهو أسلوب كتابي يعتمد على نسخ الخيال والأسطورة مع الواقع حيث يكون ما هو خيالي وما هو حقيقي سيان داخل عالم الواقعية السحرية.
أشهر روايات أدب أمريكا اللاتينية
تعد روايات أمريكا اللاتينية من أكثر الكتب مبيعًا حول العالم، وفي مقدمة تلك الروايات “مائة عام من العزلة” رائعة الكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز الحائز جائزة نوبل للأدب عام 1982، وعلى الرغم من أن السياسة تشكل جزءًا أساسيًا في البنية الروائية اللاتينية فإنها لم تتحول يومًا إلى خطاب سياسي أو أيدولوجي، وإنما على العكس تمامًا غلب عليها الطابع الفني واستوعبت دومًا ملامح المكان والإنسان بكل ما يحمله من مخاوف وأوهام وخرافات، باختصار كانت راوية أمريكا اللاتينية أقرب إلى الحكاية الشعبية التي تحمل معتقدات وتاريخ تلك الشعوب، ومن أشهر روايات أدب أمريكا اللاتينية:
رواية “مائة عام من العزلة”.. حين يتحول الخيال إلى واقع
حين اصطحب ماركيز زوجته ميرثيديس إلى مكتب البريد في أحد أيام أغسطس الحارة من عام 1966 ليرسل مخطوطة روايته “مائة عام من العزلة” إلى دار النشر في بيونس آيرس كان في حالة سيئة للغاية، إذ لم يكن معه تكلفة البريد فطلب من الموظف أن يرسل نصف المخطوطة حتى يعود له ماركيز بباقي المبلغ، رجع الزوجان إلى المنزل ورهنا بعض حاجيات المنزل وعادا إلى مكتب البريد مرة أخرى لإرسال باقي المخطوطة التي تحولت فيما بعد إلى أفضل الأعمال الأدبية في العالم.
على الرغم من الطابع السياسي الذي يغلب على أحداث الرواية منذ صفحاتها الأولى وحتى النهاية فإن ماريو بارجاس يوسا استطاع بأسلوبه البديع في السرد وبلغته القوية أن يفكك أحداث التاريخ كقطع اللغز
كان ماركيز عاشقًا للكتابة التي من أجلها تخلى عن دراسة الحقوق خلال عام 1949 ومنذ صغره أحب القصص الأسطورية والخرافية إلى الدرجة التي جعلته يتعامل مع قرائه كأنه يحكي لهم قصة ما قبل النوم، يتوه بهم بين سرديات الحكي ويتنقل بخفة ورشاقة بين الخيال والواقع، وفي روايته الأشهر “مائة عام من العزلة” يحكي ماركيز قصة قرية “ماكوندو” المنعزلة وذلك من خلال عدة أجيال متعاقبة وعلى امتداد عشرة عقود من الزمن تنتقل خلالها حالة القرية من الطفولة والبراءة مرورًا بالرجولة وذلك حتى تصل إلى درجة الانحطاط.
وقد قال بعض النقاد الأدبيين إن قرية ماكوندو هي قرية من وحي خيال ماركيز ولكنها تعبر عن أي بقعة تاريخية في أمريكا اللاتينية وقعت تحت وطأة استعمار خارج إطارها الجغرافي.
رواية “حفلة التيس”.. توثيق الأحداث التاريخية بعيدًا عن أكاذيب الساسة
يوثق الأديب والصحفي السياسي البيروفي ماريو بارجاس يوسا من خلال روايته “حفلة التيس” السنوات الأبشع لأسوأ الديكتاتوريات التي مرت على أمريكا اللاتينية، ومن خلال سرد الأحداث داخل الرواية يتبين لنا أن يوسا يطلعنا على كل التفاصيل المتعلقة بحقبة حكم الجنرال رافائيل ليونيداس تروخيو لجمهورية الدومنيكان بداية من عام 1930 وحتى مقتله عام 1961.
وعلى الرغم من الطابع السياسي الذي يغلب على أحداث الرواية منذ صفحاتها الأولى وحتى النهاية، فإن يوسا استطاع بأسلوبه البديع في السرد وبلغته القوية أن يفكك أحداث التاريخ كقطع اللغز تاركًا للقراء مهمة الاستمتاع بجمعها معًا، وبجانب الطابع السياسي غلف يوسا روايته بجانب نفسي برز بشدة في علاقة الديكتاتور بشعبه: كيف يتصرف معهم وكيف يحكم قبضته عليهم، ولماذا يرضى بعض أطياف الشعب بالاستبداد والذل طواعية.
رواية “كالماء للشوكولاتة”.. حين ينقذنا الطعام من الضياع ونجد ذواتنا بين جدران المطبخ
بعيدًا عن أجواء السياسة تحلق بنا الكاتبة المكسيكية لاورا إسكيبيل من خلال روايتها “كالماء للشوكولاتة” إلى عالم مختلف ولكنه شديد الثراء، عالم الطعام والطبخ، فمن خلال أحداث الرواية نتتبع قصة البطلة تيتا التي تقتضي تقاليد مجتمعها ألا تتزوج بحكم أنها الفتاة الأصغر في العائلة، إذ يجب عليها أن ترعى والدتها حتى الممات، ولكن تيتا تقع في حب بيدرو الذي يذهب لخطبتها رغمًا عن التقاليد وحين ترفض والدتها يقرر الزواج من أختها حتى يبقى قريبًا من تيتا.
ولدت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي عشية الانقلاب على الرئيس اليساري التشيلي سلفادور أليندي عام 1973 على يد الجنرال العسكري أوغيستو بينوشيه الذي حكم البلاد بقبضة من حديد
ينكسر قلب تيتا بشدة وتستعيض عن فاجعتها بنوع آخر من العشق وهو عشق الطعام، إذ تقرر الدخول إلى المطبخ لتبدع الكثير من الطبخات وتدرك تيتا حينها أن المطبخ هو قدرها، حيث تقول الكاتبة في إحدى صفحات الرواية: “كانت تيتا تنهمك بيأس في ابتكار وصفة طبق جديد كي تستعيد العلاقة التي نشأت بينها وبين بيدرو من خلال الطعام وفي فترة العذاب تلك، ولدت أفضل وصفاتها”، وعلى الرغم من أن الرواية تبدو في ظاهرها بسيطة فإنها شديدة التركيب، فصفحة تلو الأخرى نجد أمامنا نص أدبي بديع يستعرض لنا العشق في كلتا حالته: العشق المعنوي وهو الحب بين تيتا وبيدرو، والعشق المادي وهو حب الطعام.
رواية “بيت الأرواح”.. عن الديكتاتورية والثورة
ولدت الروائية التشيلية إيزابيل الليندي عشية الانقلاب على الرئيس اليساري التشيلي سلفادور أليندي عام 1973 على يد الجنرال العسكري أوغيستو بينوشيه الذي حكم البلاد بقبضة من حديد وسادت في عهده الاعتقالات السياسية لآلاف المواطنين كما اختفى الكثير منهم، وفي غمرة هذا النظام الديكتاتوري الحاكم قررت الروائية الليندي أن تسافر إلى فنزويلا مع زوجها وطفليها، وهناك في المنفى سيطر الإحباط على الليندي وأنقذتها الكتابة لتسطر روايتها الأولى “بيت الأرواح” بعيدًا عن أراض الوطن، وفي هذا السياق تقول الليندي: “لو لم يحدث الانقلاب العسكري لبقيت في تشيلي مجرد كاتبة صحفية، لقد أعطاني الأدب في المنفى صوتًا”.
تعيد إيزابيل الليندي من خلال رواية “بيت الأرواح” كتابة تاريخ تشيلي وذلك من خلال أربعة أجيال من النساء هم نيفيا وكلارا وبلانكا وروسا، إذ تبدأ الأحداث من العصور القديمة في تشيلي لننتقل بعدها إلى عصر الثورة وأخيرًا عصر الإحباط الذي تبعه الاضمحلال والاستسلام وكما هو الحال في جميع روايات الأدب اللاتيني لم تضغط السياسة على مقاليد السرد إذ صاحبها الكثير من السحر والخيال.