تعد صناعة الفخار واحدة من أقدم الحرف التي عرفها المصريون، إذ تعود إلى عصر ما قبل الأسرات، بداية من أدوات الزينة والأطعمة وصولا إلى توابيت الموتى، وكانت إحدى الصناعات ذات المكانة المرموقة في المجتمع المصري آنذاك، وهو ماتجسده نقوشات ورسوم الفراعنة على جدرانهم.
وكان صانع الفخار الذي أطلق عليه “الفخراني” يتمتع بقدر كبير من التقدير بين المصريين القدماء وصلت إلى تصوير إله الخلق عند الفراعنة “خنوم” وهو يجلس على عجلة الفاخر ليشكل الإنسان، ليجسد واقع واحدة من أكثر الحرف انتشارا واستمرارا في تاريخ مصر القديم والحديث.
وبعد مرور ألاف السنين على هذه الحرفة الخالدة يواجه أصحابها شبح الانقراض في ظل ثنائية الإهمال الحكومي والتطور التكنولوجي الحديث، ليدق صناع الفخار ناقوس الخطر محذرين من اندثار تلك الحرفة التي كانت في وقت من الأوقات السلعة المصرية الأكثر رواجا في أوروبا على مدار عقود طويلة.
تاريخ طويل
يعود تاريخ صناعة الفخار في مصر إلى عصر الفراعنة، وحين قال المؤرخ اليوناني الشهير “هيرودوت هاليكارناسيوس” قولته الخالدة أن “مصر هبة النيل” كان من بين ثناياها العديد من الحقائق على رأسها تلك الصناعة التي لم تكن لتُقام لولا وجوده، فقد ثُبت علميا أن الغرين الذي يأتي من أعالي الوادي في موسم الفيضان أجود أنواع الطين لصناعة الفخار.
تشير الدراسات إلى أن الطمي الذي كان يصل مع النهر خلال موسم الفيضان ويسارع المصريون بتجميعه كان أحد أجود أنواع الطمي المستخدم في صناعة الفخار، فالرواسب الطينية تتحول إلي اللون البني أو الأحمر، ورواسب الهضاب الجيرية يتحول لونها إلى اللون القرنفلي أو الأحمر الخفيف، وإذا زادت عملية الحرق يختلف الون باختلاف قوة الحرارة، فتتحول إلى اللون السنجابي أو الرصاصي أو الأرجواني أو الرمادي الضارب إلى الخضرة.
الدكتورة فاطمة الزهراء الجبالي، المدرس المساعد بكلية الأثار جامعة الفيوم، أشارت إلى أن صناعة الفخار كانت الصناعة الأولى عند الفراعنة، وكانت تأخذ شكل تجفيف الأواني الطينية آنذاك، عن طريق التعرض للهواء أو الحرارة وهو مازال رطبا، فإذا فشلت هذه العملية في الوصول إلى النتيجة المطلوبة كانوا يلجأون لتجفيفه تدريجيا بطريقة طبيعية حتى يصبح مستعدا للحرق، وكان العامل يقوم بحرقها على الأرض ويشعل فيها النار، ثم يغطيها بروث الحيوانات ليحفظ الحرارة، ثم بدأ في بناء الأفران، التي تتكون من ثلاثة أجزاء، وهي بيت النار، وغرفة الرص، والمدخنة، وبعد خروج الأواني من الأفران يقوم بدهانها بطلاء يلتصق بها تماما، ولا ينفصل عنها، لأن نسبة انكماشه تتساوى مع نسبة انكماش الإناء نفسه.
ويصنعون بمصر الفخار من كل نوع، فهو لطيف وشفاف، ويصنعوا منه الكؤوس والأقداح والأطباق وغيرها وهم يلونونها.. الرحالة الفارسي “ناصري خسرو قبادياني”
وفي العصر البطلمي في النصف الأول من القرن الرابع، تأثرت صناعة الفخار بالفن الإغريقي، فقد كانوا أمهر الشعوب في استخدام الطينة الحمراء الناعمة، ممثلا في الطمي الأسواني، الذي يستخدم حتى الآن في منطقة مصر القديمة لإنتاج المنتجات الفخارية كالفازات، وقد استخدم الإغريق في تشكيل أوانيهم الفخارية، دولاب يشبه كثيرا الدولاب الذي يستخدم في العصر الحديث، فكان عبارة عن عامود لفاف يرتكز على الأرض، يبلغ طوله 100 سنتيمتر تقريبا، يثبت عليه قرصان، العليا تستعمل في تشكيل الأواني، والسفلى توجد على بعد بسيط من نقطة الارتكاز الرئيسية، وهي تستخدم للتحكم في سرعة دوران القرصة الأولى، يبلغ قطرها ثلاثة أضعاف قطر القرص العلوي.
وفي العصر الروماني، تميزت تلك الصناعة بثلاثة أنواع من المنتجات، الأول من طينة مستوردة، والثاني من طينة محلية يغلب عليه طابع الخشونة وعدم الدقة، فعرف بـ”الفخار الشعبي”، والنوع الثالث كان وسطا بين الأواني المستوردة والأواني الشعبية، فكان يصنع بطريقة الأواني المستوردة ولكن بطينة محلية.
أما في العصر القبطي، فكان نموذجا مصغرًا للعصر الفرعوني، فاعتمد فن الفخار على الأشكال التي كانت موجودة في مصر الفرعونية، مع إضافة رموز تعبر عن المعتقد المسيحي كعنقود العنب، والصلبان، ليصبح الفخار القبطي فن له خصوصيته التي تميزه كأسلوب وسط بين الأساليب الأخرى.
وفي العصر الإسلامي، فقد اكتسبت صناعة الفخار في مصر صفات جديدة، ولعل ما سجله الرحالة الفارسي “ناصري خسرو قبادياني” في القرن الحادي عشر الميلادي يظهر ذلك، فقد قال “ويصنعون بمصر الفخار من كل نوع، فهو لطيف وشفاف، ويصنعوا منه الكؤوس والأقداح والأطباق وغيرها وهم يلونونها “، كما تعتبر الكسرات الفخارية والخزفية التي عُثر عليها في أطلال مدينة الفسطاط، دليلا حيا على ذلك.
في هذا العصر يوجد نوعان من صناعة الفخار، والحديث للجبالي، الأول مخصص لطبقة الأعيان، يصنع من خامات جيدة ينتقيها أشهر الصناع، أما الثاني فهو نوع شعبي ينتج بالمواد المحلية الرخيصة، وهو النوع الأكثر انتشارا بين الناس، كما كان يوجد ثلاث أنواع من طرق التشكيل، طريقة التشكيل اليدوي وهي الطريقة البدائية، وطريقة الدولاب، وطريقة “الصب” التي كانت تستعمل في تشكيل التماثيل والأواني الرقيقة، لذلك تكون عجينتها سائلة.
يسمى صناع الفخار بـ “الفخراني”
قبل العصر الإسلامي كان الفخار يُحرق في “قمائن”، مربعة الشكل، لا تصل فيها النار مباشرة إلى الأواني، بل يكون بينهما عازل، أما الفرن الإسلامي فمستدير الشكل، يبني بالطوب الأحمر، وكان يرص فيه القطع الفخارية، حيث يتكون من ثلاثة أجزاء، بيت النار، وغرف الرص، والمدخنة، ولقد اشتهرت الفسطاط في العصري الطولوني والفاطمي بعدة منتجات فخارية منها الفخار الخزفي ذو البريق المعدني، والفخار الذي يصنع بالزخارف المحفورة، كما تميزت “طينة” الفسطاط بالنعومة والهشاشة والميل إلى اللون الأحمر..
ومع بداية القرن العشرين، استمر إنشاء المصانع الخزفية في مصر بشكل فردي، ففي الثلاثينات أسست السيدة “هدي شعراوي” مصنعا للخزف بالقاهرة، أحيي النماذج المستوحاة من الفنون الإسلامية، بالإضافة إلى إنها أرسلت بعثات دراسية إلى أوروبا، وكان “محمود صابر” أول مبعوث، تعلم في مصنع “سيفر” بفرنسا، وعاد ليدرس الخزف في مدرسة الفنون التطبيقية، ثم أنشأ قسما خاصا بالخزف في مدرسة الصناعات الزخرفية ببولاق.
وخلال خمسينات القرن الماضي، اشتهرت مصر بكوكبة من فناني الخزف على رأسهم سعيد الصدر، حسن حشمت، عبد الغني الشال، محمد طه حسين، وكان للجمعية الشعبية، والتي تعرف اليوم بالهيئة العامة لقصور الثقافة، عدد من المحاولات في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فافتتحت أقسام لتدريب الهواة على فن الفخار والخزف، ونجحت بالفعل في إقامة ملتقي للفخار السنوي بمحافظة قنا عام 1999 ميلادية، ولقد ساعدت دوراته على تطوير الحرفة، وعلى صنع ملتقي خصب بين المبدعين مما ساعد ذلك الفن على عدم الإندثار.
تعد قرية الفخارين الواقعة في منطقة الفسطاط بمصر القديمة في قلب العاصمة القاهرة الموطن الأبرز لصناعة الفخار في المحروسة، حيث استهلت شهرتها مع قدوم الإسلام مصر على يد عمرو بن العاص واحتفظت بتلك المكانة حتى وقتنا الحالي.
أشكال الفخار والعاملين به
هناك ثلاث طرق أساسية لصناعة الأواني الفخارية، الاولى عن طريق التشكيل وذلك عبر عمل نماذج مفردة كل قطعة تعمل باليد على حدة، أما الثانية فمن خلال استخدام القوالب وهي تشكل بأن يُعمل لكل آنية قالب تصب فيه العجينة وترفع من القالب بعد “فخره” شيه بالنار ” إخراجه من الفـرن “، أما النوع الثالث فهو استخدام الدولاب “العجلة ” وذلك بوضع الطين في دولاب يدور وتشكل الطينة أثناء الدوران من أعلى وأسفل إلى أن يتم الشكل المطلوب .
كان الحرفي “صانع الفخار” في القدم يقوم بكافة مراحل الصناعة بمفرده دون وجود مساعد، لكن وبعد أن زادت كثافة العمل احتاج الحرفي لمن يساعده حتى يتمكن من تلبية الطلبات وزيادة الإنتاجية ، فأصبح العمل بالورشة يقوم به أكثر من شخص ، وأدى ذلك إلى توزيع العمل وفقاً لكل مرحلة ، وأصبح هناك نوع من التخصص في العمل ، وأهم الوظائف الموجودة حالياً في الورش هي :الصناع : وهو الحرفي الذي يقـوم بصنع الفخـار، المولف أو المشطب : العامل الذي يتدرب على الصناعة ولا يتقنها ، فيقوم بعمل الأشياء البسيطة مثل “التوليف” و التشطيب النهائي للإنـاء،والمساعـد : الذي يقوم بتجهيز الطين وتحضيره ، ويساعد في نقل الأواني وصفها داخل الورشة ، والفرن عند الحرق .
أواني فخارية معروضة في قرية الفخاريين
قرية الفخاريين
تعد قرية الفخارين الواقعة في منطقة الفسطاط بمصر القديمة في قلب العاصمة القاهرة الموطن الأبرز لصناعة الفخار في المحروسة، حيث استهلت شهرتها مع قدوم الإسلام مصر على يد عمرو بن العاص واحتفظت بتلك المكانة حتى وقتنا الحالي.
للوهلة الاولى حين تطأ أقدامك هذه القرية أو تمر من أمامها يلفت نظرك الأطفال ذوي البشرة السمراء وأياديهم وملابسهم المخضبة بالطين وهم محاطون بشلالات من الأواني الفخارية المصنعة على أشكال مختلفة، وإن كان معظمها يحمل الطابع التراثي الإسلامي.
أحمد إحسان، شاب في العقد الثاني من عمرة، أكد خلال حديثه لـ “نون بوست” أنه يعمل في هذه المهنة منذ عشر سنوات تقريبًا، كان عمره حينها لا يتجاوز الاعوام العشرة، لافتًا أنه قطع سنوات طويلة في التمرين قبل أن يصبح “معلم” يشار له بالبنان ويطلب بالإسم من بعض الزبائن.
صانع الفخار أصبح مهنة نادرة جدا، بالرغم من تميز مصر بهذه الصناعة عن غيرها من البلدان، وخاصة قرية الفخارين، فقد كنا نورد الفخار إلى الدول الأوروبية، فصناعة الفخار سحر يحتاج لفنان، فأنت تحول الطين إلى أشكال فنية مبهجة
إحسان أضاف أنه وحتى وقت قريب كانت منتجاتهم تصدر إلى دول أوروبا وبعض دول أسيا، وكانت تدر عليهم دخولا كبيرًا رغم العراقيل التي كانت تواجههم بعضها إداري خاص بالإدارات التنفيذية هذا فضلا عن صعوبة الحصول على الطمي المناسب لهذه الصناعة في الوقت الحالي والذي كان علامة مميزة طيلة الفترة الماضية.
فيما كشف محمد عابدين، ذو الستين عامًا، والملقب بـ”شيخ الفخارين” في مصر القديمة أن، :” قرية الفخاريين بمصر القديمة تضم 30 وحدة لصناعة الفخار، حيث بدأت القرية الددخول فى هذه الصناعة منذ الفتح الإسلامى لمصر، فصناعة الفخار كانت موجوده بالقرية منذ آلاف السنين ولكن بشكل عشوائى”.
وأضاف في تصريحات له أن :”صانع الفخار أصبح مهنة نادرة جدا، بالرغم من تميز مصر بهذه الصناعة عن غيرها من البلدان، وخاصة قرية الفخارين، فقد كنا نورد الفخار إلى الدول الأوروبية، فصناعة الفخار سحر يحتاج لفنان، فأنت تحول الطين إلى أشكال فنية مبهجة”.
أما علي عبدالعال، أحد أقدم صانعي الفخار في القرية فأشار إلى أن المهنة تندثر بشكل كبير، في ظل فقدانها لأحد أبرز مميزاتها قديما وهو الربح العالي، وبات العاملون بها غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية، في الوقت الذي لعبت فيه التكنولوجيا والتطور العصري دورًا سلبيا في رواج منتجات هذه الصناعة.
عبدالعال لـ “نون بوست” ناشد الحكومة ممثلة في وزارة الثقافة بدعم هذه الصناعة من خلال تدشين مراكز خاصة للخزف والحرف اليدوية وتسليط الضوء عليها، كاشفا أنه لو تحقق ذلك سيساهم هذا بشكل كبير في إعادة الصناعة للمنافسة العالمية كما كانت في السابق.
وهكذا تنضم صناعة الفخار في مصر إلى قائمة الحرف والصناعات اليدوية التي تلفظ أنفاسها الاخيرة في ظل تجاهل وإهمال شديدين ومناشدة لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تتحول إلى ذكرى وتراث ويجد صناعها أنفسهم خارج دائرة العمل مسطرين بذلك أخر أحرف في كتاب أعرق الصناعات اليدوية في تاريخ مصر القديم والحديث.