على وقع المظاهرات التي تنادي بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير في السودان المستمرة منذ 19 من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي وسط سقوط أكثر من 50 قتيلًا حسب مصادر المعارضة والمنظمات الحقوقية، هناك 3 مشاهد وتطورات مفاجئة في السودان ودول الجوار:
1- الزيارة المفاجئة لعمر البشير إلى مصر ولقائه مع رئيس النظام عبد الفتاح السيسي وإدلاء الأول بتصريحات أقرب للرواية المصرية في قضية سد النهضة عكس مواقفه السابقة.
2- إعلان البشير نهاية الأسبوع الماضي خلال لقاء بولاية كسلا شرق البلاد إعادة فتح الحدود مع الجارة إريتريا بعد عام من الإغلاق وتوتر العلاقات بين البلدين.
3- أخيرًا، تحذير إثيوبي للحكومة السودانية من استمرار تهريب السلاح عبر الحدود وتهديد أديس أبابا بقطع العلاقات مع الخرطوم أو تخفيضها على الأقل.
إذا بدأنا من المنتصف وهو إعلان الرئيس السوداني إعادة فتح الحدود مع إريتريا بعد عام من إغلاقها، نجد أنه خلال هذا العام المنصرم جرت مياه كثيرة تحت الجسر وشهدت المنطقة تغيرات جذرية لم يكن يتوقعها أكثر الناس تفاؤلًا، إذ طُويت صفحة القطيعة بين إثيوبيا وإريتريا بعد 20 عامًا من حالة الحرب وتوتر العلاقات، كما حدث انفراج آخر في العلاقة بين الصومال وإريتريا وشبه انفراج بين إريتريا وجيبوتي، بينما كان الغائب الأكبر من الترتيبات الجديدة في منطقة القرن الإفريقي هو السودان وحكومته.
مع أن البشير كان أول رئيس دولة يلتقي آبي أحمد والأخير اختار السودان ليكون ثاني بلد يزوره بعد تولي المنصب فإن العلاقة لم تستمر بذات القوة بين البلدين
ولم يكن مشهد إغلاق الحدود بين الجارتين مطلع العام الماضي سوى إحدى صور توتر العلاقات بصورة تلقائية بعدما عرفت علاقات السودان وإثيوبيا تطورًا كبيرًا وصل إلى حد توقيع اتفاقية دفاع مشترك ثم اتفاقية أخرى لتأمين حدود البلدين وسد النهضة بينما كان رئيس النظام الإريتري أسياس أفورقي يتعمد إغاظة الخرطوم وأديس أبابا بتقوية علاقاته مع القاهرة وإجراء لقاءات مع عبد الفتاح السيسي.
آبي أحمد ينجح في مصالحة إريتريا
الزلزال الأكبر الذي حدث في المنطقة كان استقالة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام ديسالين على وقع احتجاجات وأزمة سياسية ذات طابع إثني، ليصعد رئيس الوزراء الحاليّ آبي أحمد علي الذي تبنّى في خطاب التنصيب رؤية تقوم على إصلاح علاقات بلاده مع إريتريا وبالفعل نجح في ذلك بمساعدة من الولايات المتحدة ودول إقليمية أسهمت في تليين موقف أفورقي الذي رفض في البداية فكرة السلام والمصالحة منذ عهد رئيس الوزراء السابق ديسالين الذي كان قد أبدى استعداده للتفاوض مع نظام أفورقي بل حتى لم يمانع في زيارة أسمرة كبادرة لحسن النية.
ومع أن البشير كان أول رئيس دولة يلتقي آبي أحمد والأخير اختار السودان ليكون ثاني بلد يزوره بعد تولي المنصب فإن العلاقة لم تستمر بذات القوة بين البلدين، وربما لم يرضَ نظام عمر البشير بما اعتبره ميلًا من الزعيم الإثيوبي الجديد إلى أسمرة وتفضيله لها على حساب السودان، مما دفع بالبشير إلى التقرب من غريمه السيسي رغم محطات التوتر الشديدة التي مرت بها علاقات البلدين ووصلت حد اتهام البشير لنظام السيسي بدعم حركات التمرد في دارفور، وسحب سفيره من القاهرة لقرابة عام كامل.
مظاهرات السودان.. السيسي يدعم البشير وإثيوبيا ترفض
أتت المظاهرات التي يشهدها السودان لتزيد من التقارب بين البشير والسيسي، بحكم أن رئيس النظام المصري يتخوف من نجاح الحراك الشبابي في السودان في إسقاط البشير وبالتالي امتداد الثورة شمالًا لتهدد أركان حكمه، في المقابل لم تبدِ إثيوبيا حماسًا لدعم البشير، فقد أرسل آبي أحمد وزير خارجيته ورقينيه قبيو بعد أيام من اندلاع الاحتجاجات، حاملًا رسالة خطية من آبي أحمد قيل إنها تتعلق بالعلاقات بين البلدين ولم تتطرق المباحثات بحسب وسائل الإعلام إلى الأحداث الدامية التي يشهدها السودان، إذ لم تعلن إثيوبيا دعمها لحكومة الخرطوم كما فعل السيسي وعدد من دول المنطقة.
على ما يبدو كان قرار الرئيس السوداني بإعادة فتح الحدود مع إريتريا، محاولة للبحث عن داعمين في المنطقة وسط التظاهرات المتواصلة منذ 7 أسابيع ضد حكمه المستمر منذ 30 عامًا
والبشير الذي يحشد كل ما يمكن حشده في مواجهة المظاهرات المستمرة، كان يتطلع إلى دعم سياسي من الجارة الشرقية لبلاده لما تملكه من تأثير قوي في الاتحاد الإفريقي الذي أصدر بيانًا كان أشبه بالتوبيخ لحكومة البشير، ولكن لم يكن لآبي أحمد وهو يقود خطوات إصلاح سياسي شامل في إثيوبيا أن يدعم نظامًا يرتكب الانتهاكات الفظيعة في حق مواطنيه، لذلك قام البشير بزيارة سريعة إلى مصر أظهر فيها موقفًا جديدًا اقترب فيه من تبني الرواية المصرية، حيث دعا إلى ضرورة حل قضية السد بالمفاوضات، وهو كان حتى وقتٍ قريبٍ يؤكد دعمه الكامل لإثيوبيا وأن هناك تفاهمات تامة بين البلدين بشأن سد النهضة لدرجة تشكيل قوة مشتركة لتأمينه.
أفورقي يتجاهل مغازلة عمر البشير
على ما يبدو كان قرار الرئيس السوداني إعادة فتح الحدود مع إريتريا، محاولة للبحث عن داعمين في المنطقة وسط التظاهرات المتواصلة منذ 7 أسابيع ضد حكمه المستمر منذ 30 عامًا، وما زال يطمع في المزيد بمحاولة تعديل الدستور كي يبقى في الحكم.
إذ قال البشير في كلمة نقلها التليفزيون من ولاية كسلا: “أقدم من هنا شكرًا خاصًا لدول الجوار وأخص دولة إريتريا رئيسًا وحكومةً وشعبًا ومن هنا أعلن فتح الحدود مع إريتريا”، وتابع : “هُم أهلنا وإخوتنا وما يجمعنا أكثر مما يفرقنا لأن علاقتنا معهم علاقة تاريخ وجغرافيا ودم”، بينما تعامل رئيس النظام الإريتري أسياس أفورقي بلا مبالاة مع مغازلة البشير تمامًا كما فعل مع القرار الأول بإغلاق الحدود العام الماضي، حيث لم يصدر أي تعليق من أسمرة لا من الرئيس ولا وزارة الخارجية ولا وزارة الإعلام.
التجاهل الذي مُنيت به تنازلات البشير تجاه أفورقي تعود إلى إحساس الأخير بحالة الضعف والانكسار التي يعاني منها عمر البشير نتيجة لاستمرار المظاهرات والوقفات الاحتجاجية المطالبة بتنحيه، كما أن اتفاق السلام الذي وقعته حكومة أسمرة مع إثيوبيا وتضمّن فتح الحدود بين البلدين لأول مرة منذ 20 عامًا، ثم اتفاقيات ثلاثية أخرى تشمل الصومال، كل هذه التطورات جعلت أسياس أفورقي يشعر بالتفوق وأنه ليس بحاجة إلى تحسين العلاقات مع البشير، رغم تشابه الأحوال في البلدين، فنظام أفورقي معزول داخليًا كالنظام السوداني وليس لديهما شرعية وسط الشعبين الإريتري والسوداني “مع اختلاف درجة السوء بالتأكيد”.
إثيوبيا سمحت لوسائل إعلام وطنية مستقلة مثل موقعThe Reporter بنشر تفاصيل إحاطة وزير الخارجية ورقينيه قيبيو لنواب البرلمان، وقوله إن الحكومة الإثيوبية “أبلغت بوضوح الرئيس السوداني عمر البشير ووزراءه بأن الحكومة السودانية ينبغي أن تأخذ قلق إثيوبيا بجدية بالغة”
ولكن ربما تقبل أسمرة ببرود خطوة فتح الحدود مع السودان انطلاقًا من أهمية تبادل المعلومات الأمنية في منطقة تشكل معبرًا أساسيًا لعصابات الإتجار البشر وجرائم غسل الأموال والتهريب، وبالطبع يشكل قرار فتح الحدود بين البلدين خبرًا سارًا لسكان ولاية كسلا السودانية، كما يسر الشعب الإريتري لما بين الشعبين من تواصل وصلات أرحام وتاريخ وجغرافية مشتركة، فمنذ إغلاق الحدود من طرف السودان وحده تحوّلت الحركة التجارية إلى تهريب أكثر صعوبة لتفادي القوات الأمنية التي كانت تتعقب حركة المواطنين، إذ سلكت القوافل طرقًا وعرة وبعيدة عن أعين المراقبة مما أدى إلى ارتفاع سعر تكلفة السلع الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في إقليم القاش بركة الإريتري المحاذي لولاية كسلا السودانية.
توتر العلاقات مع إثيوبيا نكسة جديدة للخرطوم
بالعودة إلى التطور الأخير في مسار العلاقات السودانية الإثيوبية نجد أن إثيوبيا سمحت لوسائل إعلام وطنية مستقلة مثل موقعThe Reporter بنشر تفاصيل إحاطة وزير الخارجية ورقينيه قيبيو لنواب البرلمان، وقوله إن الحكومة الإثيوبية “أبلغت بوضوح الرئيس السوداني عمر البشير ووزراءه بأن الحكومة السودانية ينبغي أن تأخذ قلق إثيوبيا بجدية بالغة”، وزاد “أبلغنا المسؤولين السودانيين بأن عليهم أن يضيقوا الخناق على المهربين وأن يسيطروا على حدود بلادهم من أجل ردع التهريب، لقد أبلغناهم بوضوح أنه بخلاف ذلك، سيؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى قطع العلاقات الدبلوماسية أو بأقل تقدير ستتأثر العلاقات سلبًا بيننا”.
وتسريب إثيوبيا للإحاطة التي قدمها قيبيو لنواب البرلمان لم يكن ليتم لولا أن هناك توترًا قويًا يحدث في مسار العلاقات مع الخرطوم، وقد يكون ذلك ردًا مباشرًا على تصريحات البشير في مصر التي يبدو أن أديس أبابا اعتبرتها خيانةً منه وانقلابًا على مواقفه السابقة الداعمة لسد النهضة.
يأتي هذا التطور والتهديد الخطير من الحليف السابق ليشير إلى عزلة وشيكة لنظام البشير من الناحية الشرقية “إثيوبيا وإريتريا” وليس من مصلحة النظام السوداني خسارة دولة في قوة ومكانة إثيوبيا لما لديها من تأثير قوي على الاتحاد الإفريقي الذي تحتضن مقره حتى وإن حاول التعويل على رئاسة مصر للمنظمة فالرئاسة المؤقتة “فخرية” لا تساوي شيئًا أمام قوة منصب رئيس المفوضية الذي يشغله حاليًّا وزير الخارجية التشادي السابق موسى فكي.
ويشكل توتر العلاقات مع إثيوبيا وتجاهل إريتريا لخطوة فتح الحدود، نكسة كبيرة للبشير في وقت تتزايد فيه الضغوط الخارجية عليه بسبب الانتهاكات الفظيعة ضد المتظاهرين والنشطاء السياسيين التي لم تثنِ عزيمة الشباب ولم توقف مساعيهم الهادفة إلى إسقاط النظام.