لم يفتأ الفلسطيني يجد وسائل جديدة في صراعه الطويل مع الاحتلال الإسرائيلي، بدءًا من الحجارة والمقاليع، مرورًا بالبواريد القديمة التي أعاد إصلاحها بعد أن استولى عليها من القوات العثمانية، وتلك التي انتزعها من الجنود البريطانيين، وصولًا إلى العبوات الناسفة والزجاجات الحارقة، وأخيرًا الطائرات المسيرة والصواريخ.
وفرت الظروف المحيطة بقطاع غزة بيئة خصبة للمقاومة الفلسطينية لتطوير الأسلحة محلية الصنع، وعلى رأسها القذائف والصواريخ التي باتت قادرة على الوصول إلى كل فلسطين المحتلة، كما برزت الطائرات المسيرة التي تشكل الهاجس الأكبر للاحتلال الإسرائيلي، لعجز دفاعاته الجوية عن رصدها واعتراضها في كثير من الأحيان.
في ضوء هذه المعطيات، شهدت الضفة الغربية تطورًا تدريجيًا في تسليح المقاومة، حيث ابتكرت وسائل وأساليب جديدة في مواجهة الاحتلال، فمن جهة استفادت بعض الكتائب من أسلحة كان يبيعها لها المستوطنون بدافع المال، بينما كانت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تمتلك بعض الأنواع الأخرى.
وخلال ذلك، كانت الضفة الغربية، تشق طريقًا مغايرًا لتجربة غزة في تصنيع الصواريخ، حتى أعلن الاحتلال الإسرائيلي في بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2024 عن اكتشافه صاروخًا محلي الصنع مزودًا بمتفجرات ومنصة إطلاق في قرية بدرس شمال غرب رام الله، وقد عثرت على هذا الصاروخ أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، التي تعمل بالوكالة عن الأجهزة الإسرائيلية، خلال تمشيطها للمنطقة.
بعد ساعات من الإعلان، اندلعت اشتباكات عنيفة بين المقاومين وقوات الاحتلال في مدن طوباس وجنين وطولكرم بشمال الضفة الغربية، حيث استهدفت المقاومة القوات الإسرائيلية بالرصاص والعبوات الناسفة، ما أسفر عن استشهاد 7 مقاومين، لكنها في الوقت نفسه أدت إلى اكتشاف صواريخ محلية الصنع في مدينة جنين.
كتيبة العياش
لم يكن إعلان العثور على صواريخ في الضفة الغربية حدثًا معتادًا، خصوصًا في مرحلةٍ تلاحق فيها قوات الاحتلال والسلطة الفلسطينية المقاومين بغرض قتلهم أو اعتقالهم، وفي أغسطس/آب 2023 وقبل اندلاع معركة “طوفان الأقصى”، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه رصد 6 محاولات لإطلاق صواريخ من الضفة الغربية نحو المستوطنات الإسرائيلية، خلال 3 أشهر، وتركزت هذه المحاولات في منطقة جنين شمال الضفة الغربية.
في ذلك الوقت، أعلنت كتيبة العياش، المتمركزة غرب جنين، عن إطلاق صاروخ “قسام 1” باتجاه مستوطنة “شاكيد” في غلاف جنين شمال الضفة الغربية، وأوضحت الكتيبة في بيان لها أنه على الرغم من الظروف الأمنية المعقدة في الضفة، وما يعترضها من قلة في الإمكانيات وقيود أمنية شديدة، فإنها ستواصل السير في طريقها. كما نشرت الكتيبة مقطعًا مرئيًا يظهر الصاروخ قبل إطلاقه، موضحةً أنه “تم الاعتذار عن عدم تصوير لحظة الإطلاق بسبب الأوضاع الأمنية الصعبة”.
كانت هذه المرة السادسة التي تطلق فيها كتيبة العياش صواريخ بدائية باتجاه مستوطنات مجاورة لجنين منذ مايو/أيار 2023، وقد اشتقت الكتيبة اسمها تيمُّنًا بعائلة يحيى عياش، القائد العسكري البارز لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس في الضفة الغربية، الذي اغتاله الاحتلال في غزة عام 1996.
ووفقًا لما نقلته صحيفة “إسرائيل اليوم” العبرية، فإن المنظومة الأمنية الإسرائيلية تدرك منذ سنوات أن إطلاق الصواريخ من الضفة الغربية يشكل هدفًا رئيسيًا للفصائل الفلسطينية، وفي الأشهر الأولى لعملية “طوفان الأقصى”، أفاد الإعلام العبري بأن مسؤولي السلطة الفلسطينية حذروا الاحتلال من محاولات حركتي حماس والجهاد الإسلامي تصنيع صواريخ في الضفة.
قبل أن تبدأ كتيبة العياش في إطلاق محاولاتها الأولى، أعلن رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) في أبريل/نيسان 2023 عن اعتقال خلية مقاومة كانت تعمل على تصنيع صواريخ في مدينة جنين. وكان هذا الإعلان بمثابة إشارة لزيادة التوتر، حيث أصبحت “محاولة حماس لإطلاق صواريخ من شمال الضفة” هاجسًا يؤرق الاحتلال، ما دفع جيش الاحتلال إلى شن اجتياح واسع لمدينة جنين ومخيمها في يوليو/تموز 2023.
عودٌ إلى بدء.. المحاولات الأولى
تطور صناعة الصواريخ واستخدامها في الضفة الغربية ليس نتيجةً فقط للحالة الثورية المستمرة منذ “هبة السكاكين” عام 2015، التي بلغت ذروتها مع معركة “سيف القدس” عام 2021، بل إن البدايات الأولى لهذا النوع من المقاومة تعود إلى سنوات ما قبل ذلك.
بدأت الثورة الفلسطينية في تصنيع أنواع مختلفة من الصواريخ وتنفيذ عمليات قصف عبر حدود عدة دول، مثل الأردن ولبنان وسوريا عام 1948، ومن أبرز هذه العمليات كان “مدفع يافا”، الذي صنعه الشقيقان علي ومحمد جبر بالتعاون مع “فرقة التدمير العربية”، وهي الخلية التي نفذت عمليات قصف قاسية ضد أهداف الاحتلال خلال النكبة.
وفي عام 1969، بعد إحراق المسجد الأقصى المبارك، قررت خلية مقاومة فلسطينية في قرى بيت لحم الرد على الجريمة، فقد نجح المناضل محمد أبو ذهبية مع أفراد خليته، مثل يونس العصا وإسماعيل جدوع العصا وأحمد حسين العصا، في تهريب صواريخ من الأردن باستخدام قارب مطاطي عبر البحر الميت، ثم نقلوا الصواريخ على الدواب إلى بيت فجار في بيت لحم، ومن ثم إلى صور باهر جنوب القدس المحتلة، حيث أطلقوا الصواريخ تجاه مبنى الكنيست، وبعد العملية، فرضت قوات الاحتلال حصارًا مشددًا على قرى دار صلاح والعبيدية والشواورة تحت إشراف وزير جيش الاحتلال وقتها، موشيه دايان.
وفي شمال الضفة الغربية، قبل قدوم السلطة الفلسطينية، نفذت خلايا تابعة لحركة فتح عمليات قصف باستخدام صواريخ “107” لمعسكرات جيش الاحتلال، مثل الخلية التي كانت تعمل في عصيرة الشمالية بقيادة المناضل عطية جوابرة، وأخرى في نابلس بقيادة عبد الفتاح حمايل، حيث استهدفت معسكرات الاحتلال في قرية دير شرف بالقرب من نابلس.
صواريخ “القسام” في الضفة
في التسعينيات، تمكنت خلية “وحدة الأهوال” التابعة لكتائب القسام، بقيادة الشهيد جهاد أبو غلمة، من الحصول على صاروخ وقذائف هاون ضربت بها معسكرًا لجيش الاحتلال ومستوطنة “كريات أربع” في مدينة الخليل.
في الوقت نفسه، وبالتوازي مع صناعة وتطوير صواريخ “القسام” في قطاع غزة، تولى عدد من كوادر وقيادات كتائب القسام في الضفة الغربية، خاصة في شمالها، مهمة تعلم صناعة الصواريخ ثم تطويرها، وكذلك نقل الخبرات وتوسيع نطاق استخدامها في الميدان، وكان من أبرز هؤلاء الشهيد سائد عواد، الذي قام بتطوير تصاميم صواريخ “قسام 2” بالتعاون مع القائد الشهيد قيس عدوان.
ووفقًا لكتائب القسام، فإن الشهيد سائد عواد نقل تجاربه وخبراته إلى خلايا في مخيم بلاطة وطوباس وطولكرم وجنين. في تلك الفترة، كانت قيادة القسام، وعلى رأسها القائد العام صلاح شحادة، على تواصل مستمر مع القادة والكوادر في الضفة الغربية، مثل نصر جرار وجمال أبو الهيجا، بهدف تطوير وحدة صاروخية في المنطقة الشمالية، ليكون ذلك بداية لتوسع العمليات الصاروخية في الضفة الغربية.
في تلك المرحلة، انطلق القائد قيس عدوان مع الشهيد مجدي بلاسمة من مخيم بلاطة إلى مدينة جنين، حيث توحدت الجهود مع المهندس سائد عواد والقائد نزيه أبو سباع لتطوير صواريخ وإطلاقها من المناطق الشمالية نحو عمق الضفة الغربية المحتلة.
تمكنت هذه الخلايا المقاومة من الوصول إلى تطوير صاروخ بمدى يصل إلى 6 كيلومترات، وهو ما شكل تهديدًا حقيقيًا للمستوطنات الإسرائيلية المحاذية، وفي مارس/آذار 2002، أُطلق صاروخ تجريبي تحت إشراف القائد نصر جرار، ثم نجحت الكتائب في إطلاق صواريخ نحو عمق الأراضي المحتلة، حتى وصل أحد هذه الصواريخ إلى مدينة “نتانيا” المحتلة.
لكن في أعقاب هذه النجاحات، كثّف الاحتلال الإسرائيلي حملته لاغتيال قادة هذه الخلايا، واعترف رسميًا بخطورة هذا المشروع الذي كان يشكل تهديدًا كبيرًا لأمنه. وبالفعل، اغتالت المخابرات الإسرائيلية القائد نزيه أبو سباع، الذي كان أستاذًا في الفيزياء بجنين، ووصفت حكومة الاحتلال بقيادة أرئيل شارون اغتياله بأنه “إجراء حاسم ضد خطر استراتيجي على إسرائيل”.
وفي المنطقة الوسطى من الضفة الغربية المحتلة، تمكنت قوات الاحتلال من اعتقال خلية تابعة لكتائب القسام، تضم عددًا من الكوادر الذين نجحوا في صناعة صواريخ محلية وإخفائها في مدينة البيرة، لكن الخلية تم اكتشافها واعتقال أفرادها، بعد حادث في أثناء عملية التصنيع أدى إلى كشف مكانهم.
وفي عام 2004، اعتقل الاحتلال أحد نشطاء حركة الجهاد الإسلامي في مدينة جنين، وكان جزءًا من خلية تعمل على تصنيع وإطلاق الصواريخ، وبعد أشهر قليلة، تمكن الاحتلال من اعتقال خلية أخرى تابعة لألوية الناصر صلاح الدين التي كانت تعمل في نفس المجال. وفي عام 2006، أطلقت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، صاروخًا على أحد معسكرات جيش الاحتلال بالقرب من جنين.
وفي عام 2008، أعلنت مجموعات من الجناح العسكري لحركة فتح أن عناصرها قد أطلقوا صاروخًا على مستوطنة “شاكيد” شمال جنين، في واحدة من العمليات النادرة التي شهدتها الضفة الغربية.
بعد انتهاء انتفاضة الأقصى، زعم الاحتلال اعتقال عدد من الخلايا في الضفة الغربية والقدس المحتلتين التي كانت تخطط لتنفيذ عمليات إطلاق صواريخ، بما في ذلك خلية في منطقة رام الله التي نجحت في تصنيع صاروخ، إضافة إلى مجموعة من كتائب القسام في القدس التي قال الاحتلال إنها كانت تخطط لاستهداف ملعب رياضي إسرائيلي بالصواريخ.
وفي عام 2014، أعلن الاحتلال عن اعتقال خلية في محافظة بيت لحم كانت تخطط لاستهداف موكب وزير جيش الاحتلال الأسبق، أفيغدور ليبرمان، باستخدام مقذوفات صاروخية.