وعلى عكس ما كان يُعتقد لسنين طويلة من أنّ النكهة هي نتاج لرائحة الطعام وطعمه، بدأت الكثير من الأبحاث في الأونة الأخيرة بتسليط الضوء على الكيفية التي نتذوّق بها الأشياء ونستشعر طعمها ونكهاتها. وممّا لا شكّ فيه أنّ علاقاتنا بالطعام والنكهات المختلفة هي حصيلة مجموعة من العوامل، سواء الداخلية والخارجية. فتمامًا كما تؤثر بيولوجيا الدماغ والجينات على خياراتنا وتفضيلاتنا الغذائية، تؤثّر الجغرافيا والمجتمعات والثقافات والأديان والتنشئة عليها.
تطوّريًا، يرجع تفضيلنا للطعم الحلو على سبيل المثال إلى أسلافنا الأوائل، حيث كانوا يلجؤون للطعام ذي السعرات العالية من أجل البقاء والاستمرار وحفظ طاقة الجسد. وعلى الجهة المقابلة، لا تزال أدمغتنا تربط طعم المرارة بالنباتات السامّة أو تلك التي تشكّل خطرًا وتهديدًا على الحياة. لكن في الأزمنة الحديثة، تغيرت احتياجاتنا للبقاء بشكل جذري. إذ أصبحنا نحتاج إلى الخضروات أكثر من احتياجاتنا للشوكولاته أو السكّريات. وقد يساعدنا العلم الجديد على فهم كيفية التكيف مع هذا التغيير.
كيف يخلق الدماغ النكهات ويُدركها؟
يشير مصطلح علم الأكل العصبي Neurogastronomy إلى الطريقة التي يخلق بها الدماغ إحساسًا بالنكهة والطعم ويتعرّف عليهما، وهو يدمج أساسًا بين علم الأعصاب من جهة وبين تجاربنا في الأكل والشرب. ففي كتابه “كيف يخلق الدماغ النكهة؟”، يؤكّد عالم الأعصاب والأستاذ في كلية الطب في جامعة ييل غوردون شيبرد على أنّ تجربة النكهة والذوق هي نتاج لعمل الدماغ قبل أنْ تكون أيّ شيءٍ آخر.
بدلًا من البحث عن كيفية تغيير مذاق الطعام عن طريقة إعادة هندسته، يركّز علم الأكل العصبيّ على كيفية إعادة النظر في عمل الدماغ وخلاياه العصبيّة لدراسة الطعام بشكلٍ مختلف
وبحسب شيبرد، فإنّ حاسة الذوق تعتمد بشكلٍ أساسيّ وكبيرٍ على حاسة الشمّ والرائحة. بينما نأكل، يقوم الدماغ بإدراك الروائح ومن ثمّ تحويلها لمفهوم النكهة التي تعمل بدورها على التأثير على الانفعالات والذاكرة والتفضيلات والرغبات الغذائية، بل وحتى يتعدّى أثرها إلى حالات الإدمان سواء على المخدّرات أو المشروبات أو السُمنة ونهَم الأكل الذي يعدّ واحدًا من الاضطرابات النفسية والعصَبية المرتبطة بالطعام.
إذ تؤثّر طريقة عمل الجهاز العصبيّ المركزيّ على الطريقة التي ننظر بها إلى الطعام والنكهات. وبدلًا من البحث عن كيفية تغيير مذاق الطعام عن طريقة إعادة هندسته، يركّز هذا الجانب من الأبحاث على كيفية إعادة النظر في عمل الدماغ وخلاياه العصبيّة لدراسة الطعام بشكلٍ مختلف. فعلى سبيل المثال، لا يسعى الباحثون في هذا المجال إلى تعديل الخضروات وراثيًا حتى نتذوّقها بشكلٍ أفضل، وإنّما إلى جعل أدمغتنا تعتقد أنّها لذيذة، الأمر الذي يمكن الوصول إليه بطرقٍ مختلفة وعديدة.
ولفهم جوهر علم الأكل العصبيّ، من المهم لنا قبل كلّ شيء أن نفهم بعض أساسيات فسيولوجيا الطعام، فما يبدأ دومًا بأفواهنا ينتهي في أدمغتنا. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، فإنّ عملية التذوّق مرتبطة عصبيًا في الدماغ وليس بالبراعم الذوقية المتواجدة في اللسان. وعلى الرغم من قدرة ألسنتنا على الكشف عن تواجد بعض المواد الكيميائية التي تصنّف الأذواق إلى خمسة أساسية وهي الحلو والمالح والحامض والمر والأومامي، إلا أنّ أدمغتنا هي التي تُدرك وتصوّر لنا النكهة والمذاقات.
محاولتنا لتغيير علاقاتنا مع طعامٍ ما لا يجب أنْ تركّز على تحسينه أو التغيير فيه بقدر ما تعتمد على إدراك أدمغتنا له
وبتعبيرٍ آخر، تقوم مستقبلات التذوق المتخصصة في اللسان بالكشف عن الحلو أو المرّ على سبيل المثال، ولكن الدماغ هو من يتيح لنا فهم معنى هذه المواد الكيميائية. وهو ما أثبتته واحدة من التجارب التي نجحت في شلّ أو تحفيز الخلايا العصبية المرتبطة بالمذاق الحلوّ والمذاق المرّ في الدماغ عند الفئران دون تناولها لشيءٍ معيّن، فكانت النتيجة أنْ قامت الفئران بالاستجابة كما لو أنّها تذوّقت فعليًا تلك النكهات.
يغيّر هذا الاكتشاف معرفتنا لحاسة التذوّق وعملها ويقدّم فهمًا جديدًا لها، بحيث أنّ محاولتنا لتغيير علاقاتنا مع طعامٍ أو مذاقٍ ما لا يجب أنْ تركّز على تحسينه أو تطويره أو التغيير فيه بقدر ما تعتمد على طريقة عمل أدمغتنا والتي يمكن لنا التحكّم بها وتغييرها من خلال العديد من الطرق والمحاولات الممكنة.
التغيير يبدأ في الدماغ لا الوجبة
باختصار، يتعامل علم الأكل العصبي مع الطعام من زاوية مختلفة: فهو يركّز على كيفية تفسير المذاقات في الدماغ وكيفية تأثيرها على أجزائه التي تتحكم في الانفعالات والذكريات والتفضيلات الغذائية والرغبات والشهية. ما يعني أنّك لتغيّر إدراك أحدهم بنكهةٍ أو طعمٍ ما، عليك أنْ تعمل على التأثير على الشخص نفسه لا على الطعام وحده؛ كأنْ تخلق انفعالاتٍ معيّنة أو تعيد ذاكرة بعيدة أو تحفّز رغبة محدّدة، وهكذا.
يركّز علم الأكل العصبيّ على كيفية تفسير المذاقات في الدماغ وتأثيرها على أجزائه التي تتحكم في الانفعالات والذكريات والتفضيلات الغذائية والرغبات والشهية.
إذ يعتقد البعض أنّ خدعة مثل المأكولات المعدّلة وراثيًا لتغيير مذاقها وطعمها يمكن أنْ تحلّ مشكلتنا معها، لكنّ الباحثين المتخصّين في علم الأكل العصبيّ لديهم رؤية مخالفة لذلك، فهم يسعون إلى إعادة تصميم أدمغتنا لتعتقد وتؤمن أنّ طعم البروكلي أو القرنبيط على سبيل المثال ألذّ من طعم الشوكولاتة أو الحلويات أو غيرها من الأطعمة غير الصحية.
كما يساعد هذا المجال، بشكلٍ كبير، المرضى الذين فقدوا حاسة التذوّق أو الشمّ على الاستمتاع بالطعام مرّةً أخرى مثل مرضى السرطان الذين يفقدون يفقدون براعم التذوّق في اللسان مع العلاج الكيميائيّ. ولسوء الحظ، فإن فقدان الذوق أو الرائحة والآثار الجانبية اللاحقة لذلك هي أعراض شائعة ليس فقط في مرضى السرطان، ولكن أيضًا في المرضى الذين يعانون من حالات طبية أخرى مثل الصرع والسكتة الدماغية ومرض ألزهايمر وباركنسون، وغيرها من الأمراض العصبية.
يساعد علم الأكل العصبيّ الذين فقدوا حاسة التذوّق أو الشمّ على الاستمتاع بالطعام مرّةً أخرى مثل مرضى السرطان وألزهايمر وغيرهما
ما يعني أنّ علم الأكل العصبيّ قد يساعدنا بالفعل في إيجاد طرق جديدة لإقناع الناس أنهم يفضلون تناول السلطَة بدلًا من البرجر أو البيتزا، أو لجعل الطعام مستساغًا مرة أخرى لمرضى العلاج الكيميائي، أو لتحسين النكهة الباهتة التي تحتوي عليها الأطعمة في الفضاء. كما قد يساعد الأشخاص المُدمنين أو مَنْ يواجهون مشاكل في الوزن الزائد والسُمنة أو النساء الحوامل اللواتي تتغيّر علاقتهنّ مع بعض الأطعمة خلال فترة الحمل.
وبشكل عام، يمكن أن يأخذ علم الأكل العصبي مسارين مختلفين. إذ يمكن له أن يُعيد توجيه أدمغتنا إلى الاعتقاد بأنّ البروكلي يحمل طعمًا مثل طعم السكّريات، لكنّ هذا سيعمل على تعزيز رغبة الدماغ بالطعام الحلو أكثر وأكثر. أمّا المسار الثاني فيركّز على جعل أدمغتنا تعتقد أنّ طعم البروكلي مرغوبٌ أكثر من الحلويات وغيرها من الأطعمة. الأمر لا يتوقّف على البروكلي بطبيعة الحال، بل يمتدّ لأيّ نوع آخر من الطعام على اختلاف نوعه.
يمكن الوصول إلى ذلك من خلال إضفاء طابع شخصي على الأطباق التي يمكن أن تروق لك على سبيل المثال، من خلال تعزيز العواطف أو الانفعالات، أو من خلال تحفيز الذكريات الإيجابية المرتبطة بالطعام، أو من خلال دراسة خصائص الطعام وأدواته مثل الحجم والوزن واللون على مذاقه ونكهته.
ما يعني أنّ المجال يعمل على تعديل سلوكيّات الشخص الطعامية وتفضيلاته الغذائية عن طريق التحكّم في دماغه والتغيير فيه من خلال العديد من مبادئ علم النفس السلوكيّ والإدراكيّ من جهة، ومن خلال التعديلات العصبيّة على الدماغ نفسه. وبالمحصّلة، لا يزال علم الأكل العصبي في مهده وبداية طريقه، إذ بدأ على يد غوردون شيبرد عام 2006 تحديدًا من خلال دراسته لأهمية الروائح في عمليّة التذوّق، ليتوسّع البحث في المجال من خلال دراسة العديد من الجوانب الأخرى.