المواطن له حقوق وواجبات، جملة باتت بمثابة المثل الشعبي المعروف لدى سواد الشعب، إنها جملة راقية تحتضن فكرة المواطنة التي ساهمت في تطور المجتمع الإنساني على الصعيد الاجتماعي والقانوني والسياسي، وصولًا إلى الرقي بالدولة إلى مستوياتٍ رفيعة.
لقد ظهر مصطلح المواطنة للسطح على أنقاض الإمبراطوريات التي كانت تنصهر فيها النفوس البشرية باسم الرعية، رعيةٌ لا مشاركة لها في الحكم، ولا ضمان دستوري لها في الحقوق والواجبات، ولا اعتبار لرأيها أو توجهها، وبانطفاء لهيب الإمبراطوريات، أُوقدت شمعة الدول القومية التي أضحى نورها يشمل حدودًا جغرافيةً مُحددة ومعروفة، وأصبح سكانها يتمتعون بهوية “قومية” أو “وطنية” مُوحدة، فأضحوا يحملون صفة الاستقرار داخل حدود نورها واسمها، فالمواطنة في اللغة العربية مأخوذة من كلمة الوطن، أي المنزل المُقام به، وأمسوا على نحوٍ متساوٍ من الحقوق التي تنطلق من الاشتراك في الأرض، بصرف النظر عن اختلاف الدين أو العرق، وصاروا ينطقون بلغتها، لغة الأكثرية، ويحملون جنسيتها، ويشاركون في الحكم، مقابل الإقرار بالخضوع لأحكام دستورها وقوانينها، وأداء مجموعة من الواجبات تجاهها.
مر مفهوم المواطنة بعدة محطات تاريخية حتى استقر لما عليه الآن
ما سلف ذكره هو تمامًا المواطنة، تلك الظاهرة التي تُشعر الإنسان بالانتماء لبقعة جغرافية معيّنة تُسمى “دولة”، وتدفعه للالتزام بتأدية بعض الواجبات تجاه هذه “الدولة”، مقابل طموحه في الحصول على مستلزماته الحياتية، العمل والأمن والتعليم والصحة وحقوقه المدنية والسياسية.
لقد مر مفهوم المواطنة بعدة محطات تاريخية حتى استقر لما عليه الآن، حيث لعبت الحضارات والشرائع والأديان وما انبثق عنها من أيديولوجيات سياسية، دورًا متفاوتًا في وضع أسس المواطنة ومضمونها، وقد ارتبط مفهوم المواطنة بعرى وثيقة مع الديمقراطية، فكلما اتسع نطاق الديمقراطية في بلدٍ ما، زاد الحديث عن مستوى حقوق المواطنة الموجود فيها.
الليبرالية أي نزعة التحرر، كانت من ضمن الأيديولوجيات السياسية التي حجزت مقعدها بجدارة في سباق الإسهام في تعزيز مفهوم المواطنة وتفاصيله، “أبو الليبرالية” جون لوك دعا في أدبياته الفكرية إلى تطبيق عقد اجتماعي يرتكز إلى نهج الحرية المُطلقة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فطبقًا للوك، فإن إشاعة الحريات المُطلقة غير المُتعرضة لتدخل الدولة فيها، التي تُعدّ من الحقوق الطبيعية للمواطن، يكفل إضفاء المعنى المثالي لمفهوم الموطنة.
غير أن المُفكر السياسي جان جاك روسو ذو التوجه الليبرالي، عارض العقد الاجتماعي لجون لوك، مُتجهًا “بعقده الاجتماعي” نحو تحجيم مُطلقية الحرية الفردية وربطها بضوابط اجتماعية، مشيرًا إلى أن منع الحريات هو المُجتمع وليس الطبيعة.
إن المجتمع هو أساس كل الحريات وأساس كل شيء ومعياره، يرى روسو الذي يُشير إلى أن المواطن يُولد بحقوق، لكن هذه الحقوق بحاجة إلى عقد اجتماعي يُغلفها على نحوٍ يجعلها تتواءم مع الجمع الذي يعيش فيه، وربما ينتاب القارئ شعور الغرابة، فروسو “الليبرالي” يشدّد على أن العقد الاجتماعي هو أداة لبناء المجتمع بصورةٍ يضع الفرد نفسه وأملاكه تحت توجه الجسد السياسي وقوانينه ودستوره المُتوافق عليه بحسب توجه الأغلبية.
احتضن التاريخ عدة دولٍ غربيةٍ وعربيةٍ تتبنى العلمانية، لكنها لا تعترف لمواطنيها بحق المساواة والحرية، بل اقترفت في حقهم الاضطهاد
بإيجاز، أضاف روسو وجهًا جديدًا للتوجه الليبرالي حيال المواطنة، فبينما دعم الحرية الفردية وحرية الملكية، دعا لعدم مُطلقية هذه الحريات، وضرورة الموازنة بين المصالح الفردية والجماعية، التي تكون الأولوية فيها لصالح المُجتمع الذي يرعى الفرد ويحتضنه.
لوهلة، يُلاحظ تقارب الأبجديات الأساسية لفكر روسو وما جاء به الدين الإسلامي حول المواطنة، وربما من الأخطاء الشائعة التي تدور حول مفهوم المواطنة والحريات، هو ارتباطها غير الصائب بمفهوم العلمانية، وكأن الأخيرة هي مهد المواطنة والحريات، وما دونها، لا سيما الدين الإسلامي، خالٍ من مفهوم المواطنة والحريات.
لقد احتضن التاريخ عدة دولٍ غربيةٍ وعربيةٍ تتبنى العلمانية، لكنها لا تعترف لمواطنيها بحق المساواة والحرية، بل اقترفت في حقهم الاضطهاد، فألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وأمريكا الستينيات وتونس بورقيبة، وعدة دول علمانية في وقتنا الحاليّ، تُمثل أمثلة دامغة على ارتكاب الدول العلمانية الاضطهاد الأيديولوجي والعرقي ضد مواطنيها، لذا لا تعني العلمانية بالضرورة الحالة المُثلى للمواطنة والحريات.
وفي السياق الإسلامي، يتصارع طرح روسو بعقده الاجتماعي مع العقد الاجتماعي الإسلامي، فالدين الإسلامي يضمن للمواطن حقوقه المالية والسياسية، لكنه يضبط الحرية المُطلقة له، من خلال ربطها بضوابط مُجتمعية تستدعي ذلك.
لقد سُطرت المواطنة لأول مرة في التاريخ الإسلامي من خلال “دستور المدينة” المعروف باسم “الصحيفة” التي نصت على أن “لليهود أمة وللمسلمين أمة” في العقيدة، لكن “المسلمين واليهود أمة” في شراكة الأرض، أي أنهم أمة سياسية تشترك في الحقوق والواجبات بصيغة المواطنة، وعلى مر العصور تمتع كل الأقوام وأتباع الديانات المُختلفة الذين يقيمون في أرض الدولة الإسلامية، بحقوق المواطنة الشاملة الكاملة.
بينما كفل الأحكام الشرعية للمُقيم عليها حق المواطنة، بغض النظر عن دينه وانتمائه، وضعت بعض أسس الانضباط التي تضمن انتظام حياة المجتمع وحقوقه الفردية والجمعية
وفيما يتعلق بتغيّر الظروف، سطر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنا مثالًا نموذجيًا للاجتهاد في تطبيق المواطنة، متجهًا نحو مساواة قبيلة تغلب العربية النصرانية بالمسلمين، وعرض عليهم تأدية الضريبة تحت عنوان الزكاة لا الجزية، وفي عصرنا الحديث اعتبر يوسف القرضاوي وعبد الكريم زيدان الجزية هي الخدمة العسكرية.
وهذا ما يُظهر بوضوح قبول الدول الإسلامية الحديثة القيام على أساس المواطنة التي احتضنها الدين الإسلامي وقدرها، وفتح باب الاجتهاد أمام معاييرها التي تتغير بحسب الظروف والأوقات، فالخالق أكرم الخلق جمعيًا “ولقد كرمنا بني آدم”، وانطلاقًا من حمل المسلم للواء الاستخلاف في الأرض، فإنه يضمن، ضمن دولته، الكرامة والحرية لكل من يُقيم فيها بصرف النظر عن دينه، فالمبدأ هو “لا إكراه في الدين”، “لكم دينكم ولي دين”.
وبينما كفل الأحكام الشرعية للمُقيم عليها حق المواطنة، بغض النظر عن دينه وانتمائه، وضعت بعض أسس الانضباط التي تضمن انتظام حياة المجتمع وحقوقه الفردية والجمعية، وهنا ينبع عنصر سير روسو على ذات نهج الدين الإسلامي، حيث يربط معايير المواطنة وما تمنحه من حريات، بضوابط المجتمع وما يحفظ استقراره وانتظامه.
إن الأحكام الشرعية الإسلامية والمناهج العملية للصحابة والسلف احتضنت في طياتها تطبيقًا عمليًا لأسس المواطنة وما ينبع عنها من حريات، لكن ربطتها بعقدٍ اجتماعي يُقرها على نحوٍ تتواءم فيه مع المجتمع والجمع، فالإسلام منح حق حرية التفكير “لعلهم يتفكرون”، لكن في حدود الآداب العامة والأخلاق الفاضلة، وبشرط الابتعاد عن السب واللعن والكذب والقذف، فالقاعدة الشرعية تقضي “لا ضرر ولا ضرار”.
وحرية القول أو التعبير أيضًا مكفولة في الدين الإسلامي، لكنها مُقيّدة بعدم إيذاء مشاعر ومقدسات الآخرين، فذُكر في الحديث الشريف “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيلقل خيرًا أو ليصمت”، وأقر، عمليًا، بحق المشاركة السياسية، لكنه اشترطها بالشورى، ولم تقتصر المشاركة السياسية للمواطن المُسلم على تولي الإمارة فقط، بل شملت الحرية السياسية على نحوٍ مُطلق، فكان للصحابة الحق الكامل في إبداء آرائهم السياسية، فقد أشار الحباب بن المُنذر “رضي الله عنه” على الرسول “صلى الله عليه وسلم” بالنزول أمام بئر بدر، حيث يشرب المسلمون ولا يشرب المُشركون، وسلمان الفارسي “رضي الله عنه” أشار بدوره لحفر الخندق.
ولا يمكن إغفال منح الإسلام حرية الكسب والتملك الكاملة لكل الناس، “يا أيها الناس كُلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا“، “وقل اعملوا”، فالشرط في حرية الكسب والتملك يقوم على الكسب الحلال وعن تراضٍ “يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينهم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم“، فضلًا عن صون أهم حرية للإنسان، ألا وهي حرية العقيدة “لا إكراه في الدين”.
في الختام، يتسم الدين الإسلامي بالكمال والشمولية، ما جعله يحتضن أسس المواطنة منذ تأسيس دولته الأولى “دولة المدينة”، فنزعة الدين الإسلامي نزعة تحررية تدعو إلى التدبر السليم، ومن ضمن أسس التدبر السليم، المناداة بالحقوق البشرية الطبيعية التي أقرها الإسلام، لكن ربطها بضوابط تحفظ أساس الانتظام العام للمجتمع، وهذا النحو الذي جاء به “العقد الاجتماعي” لجان جاك روسو.