حسم المرشح الجمهوري دونالد ترامب (78 عامًا) معركة السباق نحو البيت الابيض، بعد فوزه الساحق في الانتخابات التي جرت في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بحصوله – وفق النتائج الأولية غير الرسمية – على 295 صوتًا مقابل 226 لمنافسته الديمقراطية كامالا هاريس، في انتصار وصف بـ”التاريخي”.
جاء اكتساح ترامب، المُدان جنائيًا، للانتخابات مفاجأة غير متوقعة، عكس عقارب ساعة استطلاعات الرأي التي مالت صوب فوز المرشحة الديمقراطية ولو بنسبة ضئيلة، ليمنح الجمهوريين هيمنة مطلقة على أركان السلطة الثلاث في الولايات المتحدة، مؤسسة الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب، بخلاف مقاعد الولايات المحتمل أن تكتسي باللون الأحمر.
ويعد ما شهدته الساحة السياسية الأمريكية خلال الساعات الماضية زلزالًا مدويًا من المتوقع أن يتردد صداه في مختلف أنحاء العالم، الذي يترقب نتائج تلك الانتخابات الأكثر جدلًا في توقيت حساس للغاية على كل الأصعدة، فماذا يعني هذا الفوز الكاسح لترامب؟ وكيف تستقبل قوى المنطقة والإقليم والعالم عودة ترامب القوية إلى سد الحكم؟
عودة ترامب: فوز تاريخي يمنحه الهيمنة المطلقة
ما حققه ترامب، الذي من الممكن أن يحكم أمريكا من خلف القضبان إذا ما حُكم عليه بالسجن في القضايا المرفوعة ضده، في الانتخابات يمكن اعتباره فوزًا تاريخيًا لعدة أسباب أبرزها أنه حقق الثلاثية النادرة، الفوز بالرئاسة والأغلبية في غرفتي البرلمان، الشيوخ والنواب، هذا بخلاف الفوز بالأصوات الشعبية للمواطنين الأمريكيين وليس فقط أصوات المجمع الانتخابي، وهو الانتصار الذي لم يعرفه الجمهوريون من قبل، ولم تعرفه أمريكا منذ 20 عامًا، علاوة على ما تحمله عودة ترامب للبيت الأبيض مرة أخرى، بعد خسارته في الانتخابات الماضية وإبعاده عن المشهد (بفضيحة أخلاقية وقانونية)، من دلالات تشير إلى الثقل الذي يتمتع به والجمهوريون لدى المواطن الأمريكي مقارنة بالديمقراطيين الذين تلقوا ضربة مؤلمة سيكون لها ما بعدها في تماسك هذا الكيان.
سيمنح هذا الفوز الكبير ترامب الأريحية الكاملة لتشكيل إدارته وحكومته بالشكل الذي يراه، وتحديد سياساته وأدواته وفق ما يريد، دون أي ضغوط أو تحديات أو عراقيل من البرلمان أو حكام الولايات، بجانب تمرير كل ما يريد من مشروعات وقوانين وقرارات عبر الكونغرس دون أي قلق أو حساب لأصوات الديمقراطيين، وهي الميزة التي لم تتوفر لسلفه بايدن ولا لترامب نفسه في ولايته الأولى، وكانت عقبة مهمة في طريقهما وإدارتهما بشكل عام.
يعطي ترامب، الذي تعرض لمحاولتي اغتيال خلال سعيه للوصول إلى السلطة من جديد، بهذا الفوز، قبلة الحياة لليمين المتطرف في دول أوروبا، وفي المقابل ضربة قوية لليبراليين، وهو التأثير الذي يتوقع أن يكون حاضرًا بقوة في الانتخابات القادمة بالقارة العجوز، الأمر الذي سيعزز من نفوذه وحضوره الدولي، لا سيما مع الدفعة المعنوية والسياسية القوية التي سيمنحها هذا الانتصار الكبير لأداء الرئيس الجديد، الذي يبدو أنه عاد منتقمًا بعد ما تعرض له من هجوم وانتقادات خلال السنوات الأربعة الماضية.
وعليه فمن المرجح أن يجعل هذا الفوز الاستثنائي والسيطرة المطلقة على صناعة القرار في الولايات المتحدة، دونالد ترامب أقوى مما كان عليه في ولايته الأولى، وأكثر جرأة في قراراته وسياساته، على المستوى الداخلي والخارجي، الأمر الذي سيكون له أثره على موقف كل الدول والقوى المتشابكة مع ترامب، لا سيما التي لديها تجارب سابقة معه في فترة رئاسته السابقة.
دول الخليج.. الجمهوريون الأفضل ولكن!
تحدد دول الخليج بوصلتها صوب ساكن البيت الأبيض الجديد وفق مؤشر المصالح الاستراتيجية بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية، ورغم وجود أرضية شبه مشتركة لدى معظم الدول الخليجية بشأن الميل نحو تفضيل الجمهوريين في المجمل عن الديمقراطيين، فإن هناك تباين في المواقف حسب خصوصية كل دولة:
السعودية والإمارات.. رغم التوتر النسبي في العلاقات بين الدولتين وترامب خلال ولايته الأولى بسبب التهديدات الإيرانية واستهداف الحوثيين لهما، فإنهما يفضلان دونالد ترامب وذلك لعدة أسباب، أبرزها أن الجمهوريين كانوا الشريك الأفضل والأكثر جدية في شراكتهم مع البلدين، كما أن فوز المرشح الجمهوري سيفتح آفاق التعاون الاقتصادي والتجاري وفي مجالات الطاقة بين الطرفين بشكل كبير، في ظل السياسة البرغماتية التي يتبعها الرئيس الأمريكي الجديد، بخلاف تراجع اهتمام الجمهوريين بالملف البيئي وتجاهل سياسة الديمقراطيين في تعزيز منافذ الطاقة البديلة على حساب الوقود الأحفوري، وهو الملف الذي مثل صداعًا كبيرًا للخليجيين خلال السنوات الماضية.
كما أن العلاقات بين الرياض وأبو ظبي من جانب وواشنطن من جانب آخر تحت ولاية ترامب لا يتوقع أن تنغصها بعض الملفات الجدلية التي طالما وترت العلاقات مع الديمقراطيين، على رأسها ملف حقوق الإنسان والممارسات الديمقراطية والموقف من المعارضة والحريات في مجملها، حيث تكون هناك أريحية وطمأنة لنظامي البلدين بعدم الاستهداف بسبب السجل الحقوقي المشين، وتنظر السعودية للجمهوريين كجسر يمكن من خلاله تعزيز حضورها الإقليمي وتحقيق حلم الريادة العربية والشرق أوسطية، هذا بجانب موقفهم الحاسم والمتشدد إزاء طهران والعمل على تقليم أظافرها من خلال تشديد العقوبات عليها، وهو ما يتناغم مع الرؤية السعودية حتى وإن تحسنت العلاقات مؤخرًا بين الرياض وطهران.
أما على المستوى الإماراتي، فترامب هو الرئيس الأمثل الذي يخدم توجهات أبناء زايد في المنطقة، ويتناغم مع أجندة التوسع والتمدد الإقليمي، لا سيما بعد التوتر الذي شاب العلاقات مع أمريكا في عهد بايدن، بسبب امتعاضه من السياسة الإماراتية في اليمن والسودان، وهو ما ساهم بشكل أو بآخر في تلجيم أبو ظبي وفرملة تحركاتها إزاء أكثر من ملف.
قطريًا.. استطاعت الدوحة نسج علاقات متينة مع إدارة بايدن التي صنفتها “حليفًا استراتيجيًا” لواشنطن من خارج حلف الناتو، مقارنة بالعلاقات مع ترامب في ولايته الأولى، والتي كانت أشبه ما تكون بالقاسية المتوترة، خاصة بعد ابتلاع واشنطن لخطوة المقاطعة الخليجية العربية لقطر في أعقاب الأزمة الخليجية المزعومة.
لكن في السنوات الأربعة الماضية نجحت قطر في فرض نفسها كلاعب مؤثر في حسابات الأمريكان إزاء الشرق الأوسط، في ظل ما يتمتع به القطريون من علاقات جيدة مع الأضداد في المنطقة، إيران والخليج وتركيا وشمال إفريقيا ودول الشام وطرفي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي المكانة التي لا يمكن أن يضحي بها ترامب بأي شكل من الأشكال، نظرًا لحاجته إلى الدور القطري في تمرير سياسته الجديدة في المنطقة، والتي يزعم أنها ترمي لإنهاء الحروب وفرض السلام.
لكن يجب الوضع في الاعتبار أن نجاح دول الخليج في تدشين تكتلات سياسية واقتصادية جديدة مع المعسكر الشرقي، وتنويع مصادر سلاحهم وتشعيب علاقاتهم الإقليمية والدولية مع القوى المناوئة للولايات المتحدة وعلى رأسها الصين وروسيا، قد يمنحهم قدرًا من الاستقلالية التي تحول دون الارتماء الكامل في أحضان ترامب، مقارنة بما كان عليه الوضع في 2016، الأمر الذي قد يدفع الرئيس الجمهوري لإعادة تقييم إدارته للعلاقات مع الخليج وفق أبجديات ومعادلات ربما تكون مغايرة إلى حد ما عن ما كانت عليه في ولايته الأولى.
أوكرانيا وروسيا.. بين القلق والتفاؤل
يمثل فوز ترامب صدمة كبيرة للأوكرانيين ورئيسهم فلاديمير زيلينسكي، في ضوء ما يتبناه من مواقف رافضة للدعم الأمريكي لكييف في حربها ضد روسيا، حيث اعتاد المرشح الجمهوري انتقاد المساعدات العسكرية والاقتصادية التي كانت تقدمها إدارة بايدن لأوكرانيا، وفي تصريحات سابقة له قال إنه سيوقف تلك المساعدات، وفي كلمة له على هامش تجمع انتخابي في سبتمبر/أيلول الماضي وصف زيلينسكي بأنه “أعظم مندوب مبيعات على الأرض”، قائلًا إنه في كل مرة يتحدث فيها زيلينسكي مع بايدن، يحصل على مساعدات عسكرية بمليارات الدولارات.
الموقف المتشدد من أوكرانيا يتبناه أيضًا المرشح على منصب نائب الرئيس، جيه دي فانس، الذي أشار أكثر من مرة إلى ضرورة إنهاء تلك الحرب عبر السماح لروسيا بالاحتفاظ بالأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها، هذا بجانب منع كييف من الانضمام لحلف الناتو، فيما ادعى ترامب أكثر من مرة أنه لو كان رئيسًا لما نشبت الحرب في أوكرانيا، وأنه إذا أعيد انتخابه سينهيها “في يوم واحد”، دون التطرق إلى تفاصيل ذلك، وإن حمّل أوكرانيا مسؤولية نشوب هذا الصراع.
وعلى الجانب المقابل يميل الروس إلى تفضيل فوز ترامب في الانتخابات في ضوء مواقفه المعلنة إزاء كييف من جانب وإنهاء الحرب من جانب آخر، فضلًا عن موقفه المعروف من حلف الناتو وضرورة أن يتحمل كلفة الدفاع عن نفسه دون مساعدة الولايات المتحدة، وهو ما يريده بوتين وحكومته بشكل كبير، فبعد هذا الفوز ربما يكون الطريق ممهدًا أمام موسكو لحسم الملف الأوكراني بشكل كبير.
وكان الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف، قد علق على فوز ترامب بقوله إنه سيكون نبأ سيئًا لأوكرانيا، مضيفًا أنه لم يتضح بعد إلى أي مدى سيخفض ترامب تمويل الولايات المتحدة للحرب، مضيفًا في منشور على تطبيق “تليغرام”: “لدى ترامب سمة مفيدة بالنسبة لنا، بصفته رجل أعمال حتى النخاع، فإنه يمقت بشدة إنفاق الأموال على المتسلقين والحلفاء الأغبياء والمشروعات الخيرية غير الفعالة والمنظمات الدولية الجشعة”، وأضاف أن السلطات الأوكرانية تندرج تحت فئة الجهات التي من المستبعد أن يرغب ترامب في إنفاق الكثير عليها، أما الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار المباشر الروسي، كيريل دميترييف، فيرى أن فوز ترامب سيفتح الباب أمام ما وصفه بفرص جديدة لإعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.
على كل حال فإن الروس بفوز المرشح الجمهوري قد اطمأنوا قليلًا بشأن تقليص الدعم الأمريكي المطلق لكييف وتخفيف جهود استهداف الأمن القومي الروسي بين الحين والآخر، فضلًا عن احتمالية فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين في ظل العلاقات الشخصية المقبولة نسبيًا بين ترامب وبوتين.
نتنياهو: “أعظم عودة في التاريخ”
تعكس تهنئة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ترامب بفوزه في الانتخابات ووصف ما حدث بأنه أعظم عودة في التاريخ، عمق الحميمية التي تربط بين الشخصين من جانب، وقوة العلاقات بين إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية الحالية التي احتفت أيما احتفاء بهذا الانتصار من جانب آخر، وهي التهنئة التي تكشف عن تفضيل نتنياهو الواضح لترامب مقارنة بالديمقراطية هاريس.
ورغم أن كلا المرشحين تسابقا لدعم تل أبيب وخطط “إسرائيل” التوسعية، وأعلنا عن ذلك قولًا وفعلًا على مدار سنوات، فإن شخصية ترامب والجمهوريين عمومًا تتناسب أكثر مع شخصية نتنياهو وحكومته المتطرفة، خاصة في ظل التوتر الذي كان ينتاب العلاقات بين نتنياهو وإدارة جو بايدن والديمقراطيين عمومًا.
ويكفي لترامب ما حققه للكيان المحتل خلال ولايته الأولى، من نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس المحتلة، ودعوة بلدان العالم لحذوه في تلك الخطوة، مرورًا بالاعتراف بسيطرة “إسرائيل” على الجولان السوري المحتل، وصولًا إلى خدمة المخطط الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وهي الخدمات التي لم يجرؤ أي رئيس أمريكي سابق على الإقدام عليها من قبل.
ويأمل نتنياهو أن يمنحه فوز ترامب الأريحية الكاملة في تنفيذ مخططاته وأجنداته دون أي عراقيل، وأن يوسع دائرة الحرب ويحقق أكبر قدر من المكاسب دون أي تضييقات، فالتوقعات تذهب باتجاه أن يحدد نتنياهو وحكومته المتطرفة ما يريدون وعلى ترامب أن ينفذ دون نقاش.. هذا ما يؤمل به الإسرائيليون أنفسهم وما يتوقعه المراقبون للمشهد.
ليس معنى ذلك أن هاريس لو كانت الفائزة لتغير الأمر، فالجميع يعلم أن خدمة المحتل عقيدة أمريكية على ساكن البيت الأبيض – أيًا كان لونه وخلفيته الحزبية – تبنيها شكلًا ومضمونًا، وهو ما عبر عنه الرئيس الكوبي الراحل، فيدل كاسترو، حين سُئل عن الانتخابات الأمريكية عام 1960، أيهما تفضل نيكسون أم كينيدي؟ فأجاب: “لا يمكن المقارنة بين حذاءين يرتديهما نفس الشخص، أمريكا لا يحكمها إلا حزب واحد هو الحزب الصهيوني وله جناحان، فالجناح الجمهوري يمثل القوة الصهيونية المتشددة والجناح الديمقراطي يمثل القوة الناعمة الصهيونية. لا يوجد فرق في الأهداف والاستراتيجيات، أما الوسائل والأدوات فهي تختلف قليلًا لتمنح كل رئيس نوعًا من الخصوصية ومساحة للحركة”.
إيران.. قلق مشوب بالحذر
لا شك أن سجل العلاقات بين ترامب وطهران خلال الولاية الأولى غير مبشر بالمرة، وهو ما يعكس حالة الحذر التي خيمت على الإيرانيين بعد الإعلان عن فوز المرشح الجمهوري صاحب المواقف العدائية ضد الجمهورية الإسلامية، إذ صرحت المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية بأن نتائج الانتخابات لن تؤثر على الوضع الاقتصادي الإيراني ولا على المواطنين الإيرانيين.
وهناك تخوف واضح لدى إيران من عودة ترامب إلى ما يسمى بـ”سياسة الضغط الأقصى” التي تضمنت فرض عقوبات اقتصادية صارمة على إيران، والسعي لعزلها دوليًا، وعرقلة تحركاتها الإقليمية وتقويض نفوذها الشرق أوسطي، خصوصًا في ظل التوترات المتعلقة بالملف النووي الذي لم تطمئن طهران بعد لمصيره.
ولطالما توعد ترامب خلال حملته الانتخابية باستهداف إيران وقصف منشآتها النووية، كنوع من مغازلة اليمين المتطرف وأنصار الصهيونية العالمية في الداخل الأمريكي، وسواء كانت تلك التهديدات واقعية أم من باب المزايدات الانتخابية، فشتان بين العلاقات الإيرانية الأمريكية في عهد الديمقراطيين عنها تحت ولاية الجمهوريين، مع الوضع في الاعتبار اعتياد ترامب والجمهوريين عمومًا توجيه الانتقادات اللاذعة لبايدن وإدارته بسبب ما أسموه “التساهل” مع طهران واتهامهم بالتواطؤ معهم.
الصين.. إعادة تقييم المشهد
الصين في أول تعليق رسمي لها على عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، إن سياسة الصين تجاه الولايات المتحدة ثابتة، وأنها ستواصل التعامل مع العلاقات الصينية الأمريكية على أساس مبادئ الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين.
وبسؤالها عن التأثير المحتمل لنتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية على العلاقات الثنائية بين البلدين، قالت ماو نينغ إن هذا شأن داخلي للولايات المتحدة، وأضافت: “نحن نحترم اختيار الشعب الأمريكي”، وردًا عما إذا كان الجانب الصيني سيرسل رسالة تهنئة لدونالد ترامب، قالت إنه بعد الإعلان رسميًا عن نتائج الانتخابات الأمريكية “سنتعامل مع الأمور ذات الصلة وفقًا للممارسة المعتادة”.
ويتوقع المراقبون أن عودة ترامب تعني باختصار عودة القيود والتضييقات الاقتصادية على بكين، حيث فرض المزيد من الرسوم الجمركية على الواردات الصينية، لكن اللافت هنا أن السقف الأعلى للجمهوريين في تعاطيهم أو تصعيدهم مع الصينيين لن يتجاوز الجانب الاقتصادي والتبادلات التجارية، بمعنى أن التوتير العسكري قد يكون خارج التوقعات بشكل كبير، إلا إذا حدث اختراق واضح ولافت في ملف تايوان.
وفي المقابل هناك من يرى أن فوز ترامب ربما يكون أكثر إفادة لبكين من هاريس، لوجود الخبرات السابقة معه على مدار 4 سنوات كاملة، عرف فيها الصينيون الرئيس الجمهوري جيدًا، تعاملوا معه وفهموا عقليته وملامح سياسته الخارجية، وعليه طوروا آلياتهم واستراتيجيات التعامل معه، ومن ثم بات ورقة مكشوفة أمامهم، عكس المرشحة الديمقراطية التي كانت ستصبح حال فوزها شخصية غامضة تحتاج إلى وقت ليس بالقصير لفهمها جيدًا.
أوروبا.. شبح العودة يخيف القارة العجوز
تعيش أوروبا حالة ترقب أقرب للصدمة بعد الإعلان عن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فللرجل سجل مشين في العلاقات مع عواصم وقيادات القارة العجوز، أدت في النهاية إلى توتير الأجواء الأوروبية الأمريكية، وإن عادت تدريجيًا مع فوز الديمقراطيين وتولي بايدن السلطة، ويعود القلق الأوروبي بشأن عودة ترامب للبيت الأبيض إلى مسارات ثلاث:
سياسيًا.. ينتاب قادة أوروبا القلق من تراجع الدعم الأمريكي لقضايا أوروبية مهمة، في مقدمتها الحرب الروسية-الأوكرانية، فضلًا عن تعريض العلاقات بين واشنطن وعواصم القارة للتوتير المستدام، هذا بجانب تشجيع أحزاب وحركات اليمين المتطرف في أوروبا على العودة للأضواء مجددًا بعد تراجع نسبي خلال السنوات الأربعة الماضية.
اقتصاديًا.. هناك تخوف من إعادة تبني ترامب لسياسة الحمائية الاقتصادية القومية التي تعتمد على رفع الرسوم الجمركية على الواردات الأجنبية للسوق الأمريكية وحماية الصناعات الوطنية، وهو ما سيكون له آثاره السلبية على الاقتصاديات الأوروبية، التي تعاني من أزمات خانقة خلال الآونة الأخيرة، ولم تعد قادرة على تحمل كلفة صدمات جديدة.
أمنيًا.. دومًا ما يتبنى ترامب خطابًا تصعيديًا في تعاطيه مع التنسيق الأمني والعسكري مع أوروبا، حيث يرى أن الأوروبيين أحق بحماية أنفسهم، أو على الأقل تحمل كلفة حماية الولايات المتحدة لهم، إذ يرى أن بلاده تدفع كلفة باهظة جراء دورها الأمني في الدفاع عن أوروبا ودعم قضاياها المصيرية مثل الملف الأوكراني، ولطالما طالب بوقف أو تقليص الدعم الأمريكي المقدم لحلف الناتو وتحميله وحده كلفة الزود عن القارة العجوز، والتهديد بالتخلي عن الدول الأعضاء التي لا تساهم بصورة كافية في نفقات الحلف، وهو ما يعرض الأمن الأوروبي للخطر ويضعه في مرمى الاستهداف الشرقي.
أما بالنسبة لتركيا، فالأمر لا يختلف كثيرًا، سواء فاز ترامب أم هاريس، فإن التوتر الذي شاب العلاقة بين أنقرة وواشنطن تحت إدارة بايدن، خاصة فيما يتعلق بالملف الكردي في سوريا، قد يجعل الأتراك أميل نسبيًا لتفضيل ترامب رغم مساوئه، إذ إن علاقة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بترامب ربما تكون أكثر ودًا منها مع بايدن.
المجتمع الدولي هو الآخر كان يترقب سير العملية الانتخابية في الولايات المتحدة، إذ إن فوز بايدن كان سيضمن على الأقل الحفاظ على حالة الاستقرار التي عليها المنظمات الأممية، أما فوز ترامب فيعني احتمالية الدخول في صدام مباشر بين تلك المؤسسات وواشنطن، ففي ولايته الأولى قرر ترامب انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة (يونسكو)، ومن المجلس الدولي لحقوق الإنسان، واتفاق باريس للمناخ، وهي القرارات التي ألغاها بايدن بعد وصوله للسلطة لاحقًا.
وبعيدًا عن القراءات الأولية لمواقف الدول إزاء فوز ترامب، ترحيبًا وترقبًا، والمستندة بطبيعة الحال إلى مواقفه المعروفة وإدارته للمشهد خلال فترة رئاسته السابقة، فإن الجزم بالسير على ذات الخطى في الولاية الثانية مسألة تحتاج إلى تريث وتمهل قبل الحكم عليها مسبقًا، وهو ما يمكن استشرافه نسبيًا من خلال خطاب النصر الذي ألقاه عقب الإعلان عن فوزه في الانتخابات، والذي تضمن لغة مغايرة لتلك التي اعتاد عليها ترامب، خالية من الصدام، ومرحبة بالتحاور مع جميع الفئات والشرائح والتوجهات، الأمر الذي يمكن تأويله على أكثر من قراءة.
فالظروف الحالية ليست كما كانت عليها قبل 4 سنوات حين غادر ترامب المشهد، والأجواء لم تعد كالسابق، حيث شهدت الساحة مستجدات وطوارئ غيرت كثيرًا من ملامح خريطة التحالفات والتكتلات، ما قد يدفع ترامب لإعادة النظر في السياسات القديمة والتعاطي مع تلك التطورات بمرونة أكثر، ومنح الدبلوماسية الناعمة والتوازنات السياسية نصيبًا من سياسته الخارجية.
عطفًا على ما سبق.. فعلى العرب أن ينظروا إلى فوز ترامب التاريخي كتطور لافت ونقطة تحول سيكون لها ما بعدها، وفي ظل التسارع نحو الاستقطاب وما يتوقع معه من تدشين المزيد من التحالفات والتكتلات، عليهم أن يبحثوا عن موطئ قدم حقيقي، يحافظون به على ثقلهم الإقليمي ككيان يفترض أن يكون متماسكًا وفق أرضيته التاريخية والجغرافية والقيمية المشتركة، بدلًا من الانخراط كحلقة ممزقة مهملة في ترس ترامب الذي سيدهس كل من يغرّد خارج مساره المرسوم، مالم يكن قويًا بما فيه الكفاية ليصد هيجانه.