عقب ساعات قليلة من إعلان دونالد ترامب فوزه “التاريخي” في السباق إلى البيت الأبيض، تسابقت الصحف والمواقع الأمريكية والعالمية إلى مناقشة الملف الأكثر سخونة بالنسبة إلى الدولة “سيدة العالم”.. ماذا سيحدث في اليوم التالي بالنسبة إلى الملفات العالمية الساخنة؟
ورغم اهتمام الإعلام الأمريكي بسياسة ترامب المحتملة داخليًا، بناءً على برنامجه الانتخابي، إلا أن النزاعات والحروب في العالم عمومًا، والشرق الأوسط خصوصًا، حظيت باهتمام كبير من قبل كتّاب الرأي والمحللين.
وكان تقرير سابق في موقع “نون بوست”، قال إن فترة ترامب الأولى شهدت كثيرًا من الأحداث المهمة في الشرق الأوسط والعالم، غير أن سنواته الأربع فترة 2016-2020 كانت بمثابة “نزهة سياسية”، بالمقارنة مع الوضع الحالي.
إذ سوف يدخل ترامب المكتب البيضاوي، بعد أداء اليمين الدستورية في يناير/ كانون الثاني 2025، وقد مرَّت على الحرب الروسية الأوكرانية مدة 3 سنوات، ومرَّ على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة نحو عام و4 أشهر، وعلى بدء الحرب الإسرائيلية في لبنان نحو 5 أشهر، مع بلوغ التوتر بين “إسرائيل” وإيران أوجه، وعدم وجود أي آفاق لتسويات سياسية في جميع الملفات السابقة.
في يوليو/ تموز الماضي، تعهّد ترامب بـ”إحلال السلام بالشرق الأوسط”، خلال لقاء جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، كما حذّر من “حرب عالمية ثالثة” في حال عدم فوزه بالانتخابات.
وكانت صحيفة “فايننشال” البريطانية نقلت عن حلفاء ومستشارين من أوكرانيا والشرق الأوسط، أن لدى الرئيس الأمريكي “خطة عالمية متشددة” تقوم على ممارسة الضغوط على أصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها، فيما يؤكد معاونو ترامب أنه مع عودته إلى البيت الأبيض “سيتصرف بسرعة تصيب المرء بالدوار”، لوضع حدّ للحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط.
غير أن هذا الاقتباس لا يمثل في الحقيقة سوى مشهد صغير في خارطة العالم الحافلة بالحرائق المشتعلة، والمهددة باندلاع نزاعات إضافية، يكمن الجمر تحت رماد جغرافيتها، ولن يكون بالتأكيد عند سيد البيت الأبيض “العائد بقوة” عصا سحرية لإطفاء كل تلك الحرائق، أو لمنع نشوب المزيد منها.
لا سيما أنه في فترته الرئاسية الأولى لم يكن يشبه “حمامة السلام”، رغم تفاخره بأنه “مناهض للحرب”، وبأن الولايات المتحدة لم تتورط في أي حروب إضافية في الخارج خلال فترة ولايته، لأنه بطريقة أو بأخرى ساهم في إشعال حروب، إما ببيع الأسلحة للدول وهي في حالة حرب، وإما بمنح الضوء الأخضر لبدء عمليات عسكرية في دول أخرى، طالما أن واشنطن لم تكن متورطة بشكل مباشر.
ومع وعود ترامب القوية والوردية، قبل فوزه، بإحلال السلام، وتعهّده بـ”قيادة أمريكا والعالم نحو قمم مجد جديدة”، و”بإعادة السلام إلى الشرق الأوسط قريبًا جدًّا”، إلا أن الصحف الأمريكية قابلت ذلك بتشكيك كبير، وحاولت قراءة الواقع الذي سيكون العالم عليه، خلال “سنوات أربع قادمة من عدم الاستقرار وحماية أمريكا أولًا، والتي يمكن أن تعيد تشكيل قواعد الاقتصاد العالمي، وتعزز نفوذ المستبدين، وتمحو الضمانات الأمريكية لحماية الشركاء الديمقراطيين”، وفق تعبير صحيفة “نيويرك تايمز”.
مشهد غائم لـ”السلام الترامبي”
عندما غادر ترامب المكتب البيضاوي في يناير/ كانون الثاني 2020، لم يكن الشرق الأوسط بالشكل الذي هو عليه اليوم، وإذا استثنينا الحرب المتواصلة في سوريا واليمن، فقد كان المشهد اعتياديًا في منطقتنا، ويومها لم تكن أشنع الكوابيس قادرة على تصوير المشهد الحالي في غزة أو لبنان، أو حتى العديد من المستوطنات الإسرائيلية جنوب وشمال الدولة العبرية.. يعود ترامب إلى المشهد والعالم يقف على رؤوس أصابعه خوفًا من اندلاع حرب إقليمية شاملة، بمشاركة إيران، ستؤدي بدورها إلى نشوب حرب عالمية ثالثة.
في تصريحات البرنامج الانتخابي، دعا ترامب في أكثر من مناسبة، وعلى نطاق واسع، إلى إنهاء الحرب في غزة، وأكد أنه لو كان في الحكم لما حصلت هذه الحرب أصلًا، بسبب سياسة “الضغط الأقصى” التي ينتهجها على إيران، لكنه لم يقدم أي تصور واضح بشأن المسار الذي سيتبعه لوقف إطلاق النار، خاصة أنه في مقابل هذه التصريحات أكّد دعمه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في حربه التي يشنّها ضد حركة حماس في غزة، و”حزب الله” في لبنان، وقال له في مكالمة هاتفية حديثة الشهر الماضي: “افعل ما يجب عليك فعله”.
وإذا كان ترامب في ولايته الأولى قام بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، واعترف بـ”سيادة” إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية، وطرح “صفقة القرن” التي تركز على تصفية القضية الفلسطينية، فإن المشهد في ولايته الثانية لن يختلف كثيرًا، وفقًا لتوقعات محللين وخبراء.
ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن برايان كاتوليس، الزميل البارز في السياسة الخارجية الأمريكية في معهد الشرق الأوسط، قوله: “إن الولاية الثانية (لترامب) قد تشجّع جهود إسرائيل على المضي قدمًا بشكل أكثر عدوانية دون أي قيود”.
فيما أوضح جيمس كارافانو، الزميل في مؤسسة هيريتيج البحثية اليمينية، والذي كان جزءًا من فريق انتقال الرئاسة في إدارة ترامب الأولى: “لا أعتقد أن وقف إطلاق النار (في غزة) هو أولويته”. وأضاف كارافانو: “أولويته هي الدفاع عن إسرائيل”، ومن المحتمل أنه “لن يقيّد إسرائيل بأي شكل من الأشكال في كيفية ردها أو التهديد بالرد” على إيران أو “حزب الله” أو حماس.
تناقض واضطراب
ويبدو أن ترامب انطلق من فكرة وحيدة في وعوده بإنهاء الحرب في غزة ولبنان، وهي أن إدارة بايدن ونائبته هاريس دعمت تلك الحرب بالتسليح والغطاء السياسي لتل أبيب، الأمر الذي سمح لترامب بتصوير نفسه باعتباره البديل الأفضل للناخبين المسلمين والعرب الغاضبين من تلك المذبحة، بحسب موقع “ميدل إيست آي”.
ففي الأول من الشهر الحالي زار مطعمًا لبنانيًا في ديربورن بولاية ميشيغان، وتعهّد من هناك بأنه إذا فاز “سوف تحصلون على السلام في الشرق الأوسط، ولكن ليس مع هؤلاء المهرجين الذين يديرون الولايات المتحدة الآن”، وخلال الأشهر القليلة الماضية وجّه انتقادات محدودة للحرب الإسرائيلية في غزة، قائلًا إن “إسرائيل تخسر حرب العلاقات العامة”.
لكن في الوقت نفسه استمر في طرح نفسه كصديق أفضل لـ”إسرائيل” من بايدن أو هاريس، وانتقد الاحتجاجات المؤيدة لغزة في شوارع الولايات المتحدة وفي الجامعات، وتوعّد بأنه لن يسمح لمؤيدي فلسطين وأي لاجئ قادم من غزة بالدخول للولايات المتحدة، ورسم صورة قاتمة عن كيفية تعامله مع أي انتقاد لـ”إسرائيل” إذا وصل إلى الحكم مجددًا.
وقد خاطب المانحين اليهود في نيويورك، في وقت سابق من العام الحالي، بالقول: “إذا تمكنتم من انتخابي، وكان ينبغي عليكم حقًّا أن تفعلوا هذا… فإننا سنعيد هذه الحركة (حملة التضامن مع فلسطين) إلى ما يقرب من 25 أو 30 عامًا”.
ونتيجة لهذه الحقائق، وصفت صحيفة “الغادريان” البريطانية فوز ترامب بأنه “في المقام الأول انتصار لبنيامين نتنياهو، الذي لم يحاول إخفاء تفضيله لفوز ترامب”.
ورسمت الصحيفة مشهدًا قاتمًا فيما يخصّ استفادة تل أبيب من ترامب في ولايته الجديدة، وأوضحت أن إدارة ترامب -بالتأكيد- لن تدافع عن الأونروا، فقد قطع ترامب التمويل الأمريكي عن الوكالة في عام 2018 ولم يستأنفه بايدن إلا بعد 3 سنوات، ومن المحتمل أن تواجه الأمم المتحدة وجهود الإغاثة في المنطقة أزمة تمويل.
وأشارت إلى أن عودة ترامب إلى السلطة تزيل حاجزًا كبيرًا أمام سيطرة “إسرائيل” الكاملة وضمّها المحتمل لجزء على الأقل من غزة والضفة الغربية، وأن من شأنها أن تعزز موقف نتنياهو في السياسة الداخلية، ومن المرجّح أن تعمل على تسريع تحركاته نحو تحويل “إسرائيل” إلى دولة أقل ليبرالية، بينما لن يسمع نتنياهو شكاوى من أحد رفاقه الشعبويين في واشنطن بشأن حملته الرامية إلى إضعاف قوة واستقلال القضاء.
وبالمقابل، تتوقع الصحيفة نفسها أن عودة حليف وثيق إلى المكتب البيضاوي “لا تمنح نتنياهو حرية التصرف بالكامل”، فعلى النقيض من بايدن، لا يخشى ترامب أن يلحق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأذى به سياسيًا في الداخل، وسوف يكون نفوذ الرئيس الجديد أعظم كثيرًا من نفوذ أسلافه.
“ضوء أخضر للتصعيد”
هو إذًا مسار معقد، وتناقضات جوهرية تجعل المراقب في حيرة من أمره، كيف يمكن لمن يصف نفسه بـ”حليف إسرائيل الأكبر”، وصديقها القوي، أن يساهم في إيقاف الحرب، رغم أن حليفه نتنياهو كان الأكثر عنادًا تجاه مواصلة الحرب وتوسيعها؟ أو بعبارة أخرى وفق تساؤل “بي بي سي”: “كيف سيتمكن ترامب من التوفيق بين رغبته في إظهار الدعم القوي للقيادة الإسرائيلية وفي الوقت نفسه محاولته إنهاء الحرب؟”.
يحاول موقع شبكة “إن بي سي” الإجابة عن هذا السؤال وفق سيناريو غير متوقع، وهو أن نتنياهو قد يتطلع إلى إنهاء الهجوم الإسرائيلي على غزة في وقت مبكر من ولاية ترامب، كوسيلة لمنح الجمهوريين نصرًا دبلوماسيًا سريعًا وسط ارتياح بعد هزيمة نائبة الرئيس كامالا هاريس، وفقًا لما نقله عن مسؤول إسرائيلي.
بالمقابل، نقل الموقع عن فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، إن نتنياهو “يراهن بلا شك على دونالد ترامب”، وقال جرجس إنه يخشى أن تمنح واشنطن، التي تعدّ بالفعل أكبر مورّد للأسلحة لـ”إسرائيل”، في عهد ترامب “نتنياهو كل ما يريده، خاصة الضوء الأخضر ليس فقط لمواصلة الحرب في غزة ولبنان، لكن حتى لتصعيد القتال ضد إيران نفسها”.
ورغم هذه المخاوف، قال جرجس إن الشعور العام في العالم العربي هو أنه في نهاية المطاف “لا يهم من سيفوز بالبيت الأبيض”، لأن “السياسة الخارجية الأمريكية مرتبطة تاريخيًا بإسرائيل”.
أما شبكة “سي إن إن”، فتوقعت أن يكون شكل إنهاء الحرب في غزة ولبنان بطريقة ثانية، وهي –وفقًا لما نقلته عن الدبلوماسي الإسرائيلي السابق ألون بينكاس- أن يطلب ترامب على الأرجح من رئيس الوزراء الإسرائيلي “الإعلان عن النصر”، ثم التوصل إلى اتفاق من خلال وسطاء.
فيما رجّح محللون للشبكة نفسها أن إنهاء الحروب في غزة ولبنان ودمج إسرائيل في الشرق الأوسط، من المرجح أن يكونا على رأس أجندة الرئيس المنتخب في الشرق الأوسط، موضحين أنه رغم وصف ترامب لنفسه بأنه “الرئيس الأكثر تأييدًا لإسرائيل في التاريخ الحديث”، ورغم أنه يتباهى بعلاقته الوثيقة والشخصية مع نتنياهو، فإن العلاقات بين الرجلين “لم تكن ودية دائمًا”، ففي عام 2021، عندما كان كلاهما خارج السلطة، اتهم ترامب نتنياهو بالخيانة عندما هنّأ الأخير جو بايدن على فوزه بالرئاسة في عام 2020.
أما في “إسرائيل”، فتبدو أجواء التفاؤل بفوز ترامب أكبر من المعتاد، حتى إن عضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب الليكود بزعامة نتنياهو، بوعز بيسموت، قال لشبكة “سي إن إن” إن انتخاب ترامب جاء في “الوقت المناسب”، لأنه سيوفر فرصة لتوسيع اتفاقيات إبراهام مع اقتراب الحروب في غزة ولبنان من نهايتها.
وأضاف بيسموت: “عندما تنتهي الحرب، ستكون هناك حاجة إلى إعادة تشغيل حقيقية في الشرق الأوسط”، وسيكون ترامب هو الشخص الأفضل لتحقيق “شرق أوسط جديد”، فيما يتناغم بشكل واضح مع تصريحات شهيرة لنتنياهو بعد يومين فقط من عملية “طوفان الأقصى”، حين خاطب رؤساء المجالس المحلية الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة، قائلًا لهم: “أطلب منكم أن تقفوا بثبات لأننا سنغير الشرق الأوسط”.