جرت العادة أن يقف المسؤولون والوزراء الإسرائيلون خلف شاشات التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي وهم يبررون استيلاءهم على الأراضي الفلسطينية بأنها أراضٍ فارغة ولا تنتمي لأي شعب، نافين الأصول والجذور الفلسطينية دون خجل أو كلل، إلا أن الوثائق التاريخية والدلائل الأثرية تقف وجهًا لوجه مع أكاذيبهم وتشهد على هوية الأراضي الفلسطينية.
ومن أحد هذه الشواهد صور الفوتوغرافية الفلسطينية كريمة عبود التي وثقت بأعمالها القرى والمدن الفلسطينية بمناظرها الطبيعية وآثارها التاريخية وأهاليها، إذ التقطت كريمة التي اشتهرت بلقب “ليدي فوتوغرافر” أكثر من 4 آلاف و500 صورة فوتوغرافية للعديد من جوانب الحياة العربية والفلسطينية في ظل الانتداب البريطاني.
أول مدرسة تصوير في العالم العربي
بدأت القصة قبل الانتداب البريطاني، عندما لم تتضمن جوازات سفر المرأة الفلسطينية صورة شخصية لها، إذ كان الضباط والسلطات تعتمد على اسمها واسم زوجها أو والدها إن كانت عزباء، ولكن بعد اكتشاف التصوير عام 1839 وانتشاره على أوسع نطاق ممكن، أصبحت هذه المهنة دليلًا مهمًا على حداثة البلد، فلقد انتشرت تدريجيًا بين الدول العربية وكانت فلسطين من أولى المناطق التي تم التسابق على تصويرها وتوثيق طبيعتها.
إستوديو كريمة عبود
حيث تأسست أول مدرسة للتصوير الفوتوغرافي في العالم العربي في البلدة القديمة بالقدس وتحديدًا في الحي الأرمني، وذلك على يد الأسقف الأرمني يسّاي جارابيديان في ستينيات القرن التاسع عشر الذي نمى هذه المهارة وتعلم أحدث أساليبها في إسطنبول ولندن وباريس، وسرعان ما عاد إلى القدس وتم انتخابه بطريركًا للمدينة المقدسة مما حال بينه وبين ممارسة هذه الهواية، فاكتفى بافتتاح إستوديو خاص لتعليم أساسيات التصوير وفنونه.
فبحسب الرحالة الفرنسي جول هوش ازدهر فن التصوير بذاك الوقت في سوريا وفلسطين وتخرج ثلة من أهم مصوري فلسطين على يد جارابيديان وسيطروا على السوق، ورغم أن التصوير الفلسطيني كان محصورًا بالكامل تقريبًا على الرجال، فإن كريمة عبود خرقت القاعدة وصنعت اسمًا بارزًا لها في هذا الحقل.
فلسطين قبل النكبة بعدسة رائدة التصوير كريمة عبود
ولدت كريمة الناصروية في بيت لحم عام 1893، لعائلة من أصل لبناني، بدأت التصوير الفوتوغرافي عام 1913، بعد أن قدم لها والدها كاميرا بمناسبة عيد ميلادها الـ17، وبدأت في التقاط صور لمناظر طبيعية ومدن وآثار تاريخية كما صورت المناسبات الاجتماعية والدينية في مختلف الدول العربية، فبعد أن احترفت التصوير في إستديو الأرمني جارابيديان وذهبت إلى بيروت لدراسة الأدب العربي في الجامعة الأمريكية، التقطت صورًا لمواقع أثرية هناك.
وعندما عادت إلى فلسطين، افتتحت كريمة أول إستوديو لها كمصورة محترفة في بيتها واشتهرت في تلوين الصور وإنتاجها، فسرعان ما تشجعت نساء الأسر المحافظة في بلدتها على التصوير دون حرج، وهذا ما يفسر كثرة زيارة النساء إليها من مختلف المدن الفلسطينية مثل غزة ويافا وحيفا والقدس، وبدورها تنقلت بين طبريا وحيفا وقيسارية وسافرت إلى لبنان وسوريا والأردن في مهمات تصوير لأشخاص أو لتوثيق معالم أثرية ودينية معينة.
تم التقاط هذه الصورة بعدسة كريمة عبود
تمكنت في النهاية من إنشاء 4 إستوديوهات للتصوير الفوتوغرافي في الناصرة وبيت لحم وحيفا ويافا، وركزت في أعمالها على تصوير الأطفال في الأحياء والاحتفالات الاجتماعية، وإن كانت الصور داخل الإستديو، فكانت تبدع في إعداد الخلفيات والتأثيرات المتميزة، فبحسب هاني حوراني، باحث في العلوم الاجتماعي يقول: “إذا نظرنا إلى الصور العائلية والجماعية التي التقطتها عبود، فإننا لا نرى المشاهد النمطية التقليدية للإطار والديكور الخلفي والضوء ولكننا نلاحظ مشاهد متنوعة تخلط بين جميع هذه العناصر”، ويضيف: “كانت المنازل فرصة لمزيد من الارتجال والتنوع في الأساليب التي التقطتها، مما دفع الكثيرون إلى القول بأن كريمة عبود كانت مصورة غير تقليدية تدعو إلى تغيير الطريقة التي التقطت بها الصور”.
صورة لامرأة فلسطينية بالزي الفلسطيني التقليدي بعدسة كريمة عبود
الأهم من ذلك، أنها اهتمت بتصوير الحياة اليومية للنساء الفلسطينيات والعربيات بأزيائهن التقليدية المطرزة التي تعبر عن القرى والبلدات التي أتوا منها ولذلك تعد أعمال كريمة من الوثائق التاريخية التي لا تتحدث فقط عن امرأة فلسطينية تجرأت على كسر القوالب النمطية قبل أكثر من 100 عام، وإنما نشير أيضًا إلى أعمال تتحدى المحتل الإسرائيلي بوثائقي مصور وصامت عن الحياة الفلسطينية قبل النكبة.
وتخليدًا لذكراها وصورها، تم تصوير فيلم باسم “صورة غير مكتملة” تكريمًا لها كرائدة التصوير الفوتوغرافي النسوي في فلسطين، كما تم إصدار كتاب عن حياتها وأهميتها، الذي تحدث فيه القس متري الراهب، قائلًا: “تسلط صور كريمة الضوء على الحياة في فلسطين في فترة الانتداب، قبل النكبة، لقد نُكبنا بكل معنى الكلمة، نحن خسرنا الأرض، وخسرنا الرواية، وخسرنا كل العملية التراكمية، صور كريمة تفتح لنا نافذة وتسلط الضوء على حقبة كثير مهمة تظهر أين كنا كشعب فلسطيني”.
يضاف إلى ذلك ما قالته مخرجة الفيلم محاسن ناصر الدين بأن: “القصة الفلسطينية لا تتعلق فقط بالنكبة، نحن نعود إلى ما قبل النكبة، حتى نظهر بأنه كان لنا وجود، ويظهر أهمية الصورة في دعم السرد، والرواية المكتوبة، والتحدي المستقبلي عندما نحاول البحث عن شخصيات أخرى هو عدم وجود الأرشيف الذي قد يكون موجودًا في الخارج، أحلم أن أنجز في يوم من الأيام سرد بصري لفلسطين ما قبل عام 1948”.
كانت صور كريمة عبود تحمل اسم مدينتها الناصرة
فلا شك أن عدستها عرفتنا على طبيعة المدن الفلسطينية وقراها قبل عام 1948 وبينت لنا شكل المجتمع الفلسطيني في فترة العشرينيات والثلاثينيات وأوضحت جانبًا من جوانب حياته، وذلك على النقيض من الروايات الإسرائيلية التي تظهر فلسطين على أنها بلاد خالية ولا تمتلك حضارة أو ثقافة، علمًا أن صورها المعروضة لا تمثل سوى جزء ضئيل من إنتاجها الذي يقال إنه يحتوي على 9 آلاف صورة لكن جيش الاحتلال الإسرائيلي يسيطر على الجزء الأكبر منه.
في عام 2016، تم إطلاق جائزة “كريمة عبود للتصوير الفوتوغرافي” من كلية دار الفنون والثقافة الجامعية في بيت لحم وقد أصبحت حدثًا سنويًا لتشجيع المواهب الفلسطينية الشابة على احتراف هذه الموهبة، كما يتم افتتاح معارض من حين لآخر لعرض إرثها الفوتوغرافي والتذكير بأهميتها على اعتبار أنها جزء لا يتجزأ من التاريخ والرواية الفلسطينية.