لا يزال كثيرون منّا يجهلون ماهيّة العلاج النفسيّ وما الذي يحدث في جلساته وما هي الأدوار التي يؤدّيها كلٌّ من المريض والمعالِج خلالها. ولعلّ واحدة من أفضل الطرق لفهم العلاج النفسي هي إمّا قراءة تجارب المعالِجين النفسييّن المشهورين، أو من خلال القراءة أو الاستماع للأشخاص الذين خاضوا التجربة.
وعلى الرغم من اختلاف مناهج ومدارس العلاج النفسيّ في بعض الآليات والأساليب، إلّا أنّ ثمّة عدد كبير منها يُعطي للكلام والحديث الأهمية الكبرى في سيرورة العلاج والشفاء. ولفهم وجهات النظر المختلفة حول آلية وكيفية العلاج بالكلام، نحتاج بدايةً للتفكير باللغة بشكلٍ عام، والتي يمكن النظر إليها على أنها نظام اتصال ديناميكي ومتطوّر يستخدم مجموعة من الرموز ذات المعنى المشترك والتي تساعد بدورها على التواصل مع الآخرين، وتشكيل العلاقات الاجتماعية والحفاظ عليها، وغيرها من الوظائف الأخرى الضرورية لبقاء الإنسان.
يعتمد العلاج بالكلام على الفكرة الأساسية القائلة بأنّ التحّدث عن الأشياء التي تزعجك يمكن له أن يساعد في توضيحها ووضعها في نصابها
على الجانب الآخر الأكثر ظلمةً للغة، تعمل الكلمات أيضًا على إخفاء المعاني بدلًا من توضيحها، وتعقيد العلاقات بدلًا من تسهيلها، وزيادة المسافة بينك وبين الآخرين بدلًا من تسهيل القرب والاتّصال، والتضليل بدلًا من خلق التفاهم والحفاظ على العلاقات وتطويرها بما يساعد على البقاء ويحافظ على مستوىً جيّد من الصحة العقلية والنفسية للشخص نفسه وعلاقاته.
كيف تطوّر العلاج بالكلام؟
يعتمد العلاج بالكلام، أو كما يُعرف بشكلٍ عام بالعلاج النفسيّ، على الفكرة الأساسية القائلة بأنّ التحّدث عن الأشياء التي تزعجك يمكن له أن يساعد في توضيحها ووضعها في نصابها. إذ يمنحك العلاج مساحةً آمنة للتحدّث بحرّية عن مشاعرك وأفكارك وتجاربك ومخاوفك وصدماتك ومشاكلك وغيرها الكثير من الجوانب. ويعتقد أنصار العلاج بالكلام أنّ الاضطرابات العقلية والمشاكل النفسية تستند إلى حدٍّ كبير على ردود الأفعال تجاه بيئة الشخص. لذلك، يمكن معالجتها من خلال التحدّث والنقاش.
وبالتالي، فالمعالِج الجيّد لا يستمع لك فقط، بل يجب عليه أنْ يكون قادرًا على مساعدتك في تحديد طبيعة مشاكلك وأصلها وشدّتها. إذ تعتمد الجلسات، لا سيّما الأولى منها، على طرح المعالِج للعديد من الأسئلة الأساسية والمهمّة التي تساعد مريضه في التحدّث عن الأسباب التي جاءت به إلى العيادة.
تعتمد الجلسات العلاجية على طرح المعالِج للعديد من الأسئلة الأساسية والمهمّة التي تساعد مريضه في التحدّث والكلام
وعلى اختلاف أنواع العلاج النفسيّ التي يتّبعها المعالجون أو قد يجمعون بينها ويمزجون بين أساليبها المختلفة، يبقى التركيز بشكلٍ كبيرٍ للغاية على الكلام والحديث أكثر من الأفعال والسلوكيّات، فقد تقضي جلساتك لمناقشة تجاربك والتحدّث عن مخاوفك على سبيل المثال حتى تستطيع ويستطيع معالِجك مساعدتك في فهم الأسباب الجذرية لما يحدث معك بشكلٍ أفضل.
تقوم فكرة التداعي الحرّ عند فرويد على أنْ يسترسل المريض في قول أيّ شيء يخطر على باله دون إخفاء أيّ تفاصيل ودون تدخّل أو توجيه من المعالِج
بطبيعة الحال، عرف فرويد مبكّرًا قوّة الكلمات ودورها المهمّ والأساسيّ في العلاج النفسيّ؛ حيث بدأه بين عامي 1880 و 1882 مع مريضته الأكثر شهرة في تاريخ التحليل النفسي برثا بابنهايم والتي عُرفت باسم “أنا أو”. لاحقًا، طوّر فرويد آلية العلاج من خلال تشجيع مرضاه على الحديث بحريّة دون التنويم المغناطيسي، وهي العملية التي عُرفت باسم التداعي الحرّ “free association”.
وباختصار، تقوم فكرة التداعي الحرّ عند فرويد على أنْ يسترسل المريض في قول أيّ شيء يخطر على باله دون إخفاء أيّ تفاصيل مهما كانت تافهة أو مؤلمة أو مثيرة للخجل أو العار، ودون تدخّل أو توجيه من المعالِج أو المستمِع. لكن قد يكون أهمّ ما في آلية العلاج هذه هي العلاقة العلاجية التي تنشأ بين المريض والمعالِج، حيث تستدعي من كليهما الانخراط الكامل في العلاج دون أنْ يركّزا على مجموعة من الأعراض أو التشخيصات دون غيرها، الأمر الذي يؤدّي إلى تغييرٍ وعلاجٍ أعمق وأبقى.
العلاج النفسيّ عند روجرز قائم على كلام المريض أو المتعالِج نفسه؛ فهو الذي يعرف آلامه وأزماته والاتجاهات التي يجب أنْ يسلكها والمشاكل التي يجب أنْ يحسمها والقرارات التي عليه حسمها.
لاحقًا، طوّر عالم النفس الأمريكي كارل روجرز فهمه لأهمية الكلام في العلاج النفسيّ، فركّز على أهمية إيجاد “الصوت الداخلي” الذي يسمح للشخص بمعرفة ما إذا كانت التجربة تتماشى مع ذاته وحقيقته الذاتية، مشيرًا إلى أنّ التجربة هي الطريقة الأهمّ التي يفهم فيها الشخص نفسه وعالمه الخارجيّ. وبالتالي، العلاج النفسيّ عند روجرز قائم على كلام المريض أو المتعالِج نفسه؛ فهو الذي يعرف آلامه وأزماته والاتجاهات التي يجب أنْ يسلكها والمشاكل التي يجب أنْ يحسمها والقرارات التي عليه حسمها.
أمّا العلاجات الحديثة، كالعلاج السلوكيّ المعرفيّ، فتركّز أكثر على استكشاف المخاوف اليومية والمفاهيم المنطقية للمشكلات ومن ثمّ الحديث عنها وليس على رغبات أو محركات اللاوعي. لكن أهمّ ما في هذا النوع من العلاج هو تركيزه على ما يقوله المريض أو المتعالِج لذاته ليغيّر سلوكيّاته وتصرفاته.
هل يمكن للكلام أنْ يكون ضارًّا في العلاج؟
يعترف الباحثون بأن الدواء يظل مهمًا ولكن يجب أن يستخدم كعلاج ثانويّ إلى جانب الأساليب الأخرى، لكنّ هذا لا يمنع بتاتًا من أنّ العلاج بالكلام قد يكون ضارًّا في بعض الأحيان أو يحمل بين طيّاته بضع سلبيّات قد تزيد من حالة المريض سوءًا. وفي حين أن الآثار الجانبية للأدوية ومضادات الاكتئاب قد تكون فسيولوجية بشكل عام، فإنّ التأثيرات السلبية للعلاج بالكلام واستخدامه الخاطئ يؤثّر أكثر على النفسيّة. فقد تعرّض المريض للشعور باللوم الذاتي أو العجز أو التعقيد أو قد يصبح أكثر تمركزًا حول ذاته، أو معتمدًا على معالِجه وطبيبه في الكلام والحديث أكثر من اللازم.
فعالية الكلام ودوره في الشفاء تعتمد بشكلٍ كبير على خبرة المعالِج وبراعته في إدارة جلسات العلاج
يصنّف أحد التقارير البحثية المعالِجين النفسيّين في اعتمادهم على آلية الكلام إلى عدّة أنواع بعضها سلبيّ تمامًا؛ كأنْ يفتقد المعالِج للتعاطف أو الاحترام، أو أنْ يكون مشغولًا فيُبدي عدم اكتراثه بالمريض أثناء حديثه، ما يزيد من شعور المريض بالوِحدة والغربة لعدم شعوره بتفاعل المعالِج معه. وهناك المعالِج المسيطر الذي يقوم بتوجيه مريضه في الكلام ويتدخّل في حديثه، ونهايةً هناك المعالِج الذي يفتقد أساسًا للخبرة والمصداقية وما إلى ذلك.
ما يعني أنّ فعالية الكلام ودوره في الشفاء تعتمد أيضًا وبشكلٍ كبير على خبرة المعالِج وبراعته في إدارة جلسات العلاج دون أنْ يؤدي ذلك لأيّ ضررٍ أو سلبيّة على المريض وتقدّمه العلاجيّ. تمامًا كما تعتمد على ثقة المريض بمعالِجه وشعوره بالأمان في العلاقة الثنائية معه، بحيث يستطيع البوح له بما يجول في عقله دون أيّ خوفٍ أو تردّد.