ترجمة حفصة جودة
في يوم من الأيام في سوريا، كان هناك ديكتاتور شرير انتفض الشعب ضده، لكنه قمعهم بوحشية واندلعت الحرب، هذه هي إحدى إصدارات الصراع السوري التي تم تصديرها بشكل واسع على الساحة الدولية في مجدها المبسط غير المشروط، ولحسن الحظ فإن ترياق هذا الاختزال الخادع موجود ومن ضمنه المجموعة الجديدة بعنوان “سوريا: من الاستقلال الوطني للحرب بالوكالة”.
حرر هذا الكتاب ليندا مطر من جامعة سنغافورة الوطنية وعلي قدري من كلية الاقتصاد بلندن، حيث شرحا في المقدمة بعنوان “سوريا وسط الإعصار الإمبريالي” أن الهدف من هذا الكتاب هو تقديم تحليل واسع النطاق لما حدث في سوريا من زوايا مختلفة من الأطياف السياسية.
انتقادات مهمة
من الواضح أن هذا الكتاب لن يعجب المصفقين الغربيين المعارضين للأسد الذين يدينون أي شخص آخر يحاول لوم أطراف أخرى على الصراع، لكن المساهمين في الكتاب كذلك يقدمون نقدًا بارزًا للأسد وسياساته ودوره الشامل في هذا الإعصار.
يقول قدرى ومطر إنه بعد أن تحررت سوريا من قبضة الاستعمار عام 1946 حققت تقدمًا ملحوظًا في محو الأمية والرعاية الصحية ومجالات أخرى، كما أن سياستها الاشتراكية في إصلاح الأراضي وإعادة توزيعها صححت أخطاء قرون من عدم المساواة وساهمت في مواءمة وتيرة التنمية الاقتصادية لسنوات قادمة.
جنود سوريون شمال شرق منبج
بعد ذلك سقط الاتحاد السوفيتي وبدأ عصر الليبرالية الجديدة “النيوليبرالية” وخففت سوريا من قبضتها الاشتراكية وسعت لدخول عالم الأسواق الحرة، هذه الخطوة – في أواخر 2010 – دمرت النموذج الاقتصادي الذي كان يوفر الاحتياجات الأساسية من خلال موارد وقدرات السوق المحلية، وتنازلت سوريا لصالح تجار الكومبرادور المتنافسين (طبقة برجوازية تتحالف مع رأس المال الأجنبي لتحقق مصالحها) الذين يسعون لتفكيك البلاد وبيعها كخردة معدنية.
هجوم إمبريالي
كانت الليبرالية الجديدة عنيفة في 2006 و2007 تحت حكم الأسد الذي تولى السلطة بعد والده حافظ الأسد عام 2000 الذي أشرف على رفع سقف الأسعار عن الضروريات وسحب الإعانات الحكومية وقام بإجراءات عقابية أخرى، فغذت الاضطرابات الاقتصادية الاضطرابات السياسية، لكن كيف شكل ذلك هجومًا إمبرياليًا على سوريا؟
يقول مطر وقدري إن السوريين المسؤولين عن التخلي عن الضمانات الاقتصادية والسياسية للأمة يمثلون في المقام الأول الأمة السورية وهم مسؤولون عن الخضوع البرجوازي للطبقة الإمبريالية التي يرأسها رأس المال الأمريكي.
من الناحية الأيدولوجية فهم يشكلون قوى خارجية تهدد سوريا لصالح رأس المال الأمريكي الذي تشكل صناعة السلاح أحد أعمدته وتزدهر في وجود أشكال من الهجوم والدمار المادي.
في فصلها بعنوان: “إطار الاقتصاد الكلي في سوريا ما قبل الصراع” تقول مطر إن الحكومة السورية اعترفت قبل عقد من الثورة بوجود مشكلات اجتماعية خطيرة تحتاج لتعامل سريع، ومع ذلك لم تتمكن سوريا من الهروب من هيمنة الأجندة النيوليبرالية الغربية التي تنصح الدول النامية بالموافقة على الاتفاقات الاقتصادية السائدة، مما يعني تعزيز التباين الفاحش وعدم المساواة تحت غطاء التنمية.
قلق اجتماعي اقتصادي
تؤكد مطر أنه رغم ذلك فإن النخبة السورية الحاكمة لم يتم إجبارها على هذا النظام المالي الدولي، هذا التفاوت كان لصالح النخبة، فسياسات الاقتصاد الكلي توجه مواردها للقطاعات غير المنتجة، وبينما خفضت الحكومة الإنفاق على التعليم والصحة، ارتفعت معدلات الفقر والبطالة.
تم تمكين المعارضة بكل أنواع المؤامرات الخارجية بما في ذلك تدفق المال والسلاح من دول الخليج (حلفاء أمريكا) التي دعمت المقاتلين
تؤكد مطر وجهة نظرها بأن النضال الوطني في سوريا لا يواجه فقط الرجعية الإسلامية التي تدعمها الإمبريالية بل يواجه أيضًا هيمنة الإمبراطورية الأمريكية، لذا فإعادة بناء القوة الاقتصادية في سوريا تتطلب التخلي عن العقيدة النيوليبرالية.
في فصل آخر من الكتاب يقدم نبيل مرزوق الباحث في المركز السوري لأبحاث السياسات في دمشق واختصاصي تخطيط إستراتيجي وطني سابق في الخطة الخماسية رقم 11 في سوريا (2011-2015) تفاصيل إضافية عن التأثير الضار للنيوليبرالية في سوريا، فمع تحريض المؤسسات المالية الدولية وضعت الحكومة السورية الاقتصاد في طريق إعاقة التنمية مما وسع فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء وتسبب في زيادة التوتر الاقتصادي الاجتماعي.
ورغم أن مرزوق يخجل من انتقاد الحكومة، فإنه قال إن اللوم الرئيسي للعنف الحاليّ يقع على عاتق القوى الإمبريالية التي تنتهز فرصة ضعف سوريا لتدمير المجتمع.
رد فعل الغرب
في فصل آخر يتحدث ريموند هينبوش أستاذ العلاقات الدولية وسياسات الشرق الأوسط بجامعة سانت أندريس في إسكتلندا ومؤسس مركز الدراسات السورية عن السياق التاريخي المهم لأي دراسة عن الأزمة السورية: وهو فرض الإمبريالية الغربية على نظام دول المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى مما خلق دولًا فاشلة.
يستمر بحث هينبوش عن الخطأ الذي حدث في سوريا لمعالجة العوامل المعاصرة المختلفة التي ساعدت في عزل قطاعات من الشعب السوري عن الحكومة، ويتراوح ذلك بين إهمال النظام لجمهور الناخبين الريفي واختراق الإسلاميين للريف، ثم موجة الجفاف الشديدة في أواخر عام 2000 التي تزامنت مع خفض الحكومة لإعانات الريف.
وأكد هينبوش أن الرد الغربي على الصراع كان سببًا رئيسيًا في إطالة أمده، فالمعارضة السورية التي توقعت التدخل الأجنبي ظلت ملتزمة بدعم المعارضة ورفض جهود وسطاء الأمم المتحدة للوصول إلى تسوية.
تم تمكين المعارضة بكل أنواع المؤامرات الخارجية بما في ذلك تدفق المال والسلاح من دول الخليج (حلفاء أمريكا) التي دعمت المقاتلين، بالإضافة إلى توفير ملاذ آمن في تركيا التي تسمح بعبور المقاتلين الأجانب وساهمت في تنظيم قوات مناهضة للحكومة، وبالتالي تدخل من الناحية الأخرى إيران وحزب الله وروسيا مما منع انتصار المعارضة ووصلنا إلى نتيجة مسدودة حتى عام 2017.
إصلاحات الرعاية الصحية
في الفصل الذي يتحدث عن الاقتصاد السياسي للصحة العامة في سوريا، يستعرض عالم الاجتماع في كلية وولفسون بجامعة أوكسفورد كاستوري سين الاستغلال التجاري للقطاع الصحي في سوريا قبل الحرب الذي يثبته برنامج تحديث القطاع الصحي الذي قاده الاتحاد الأوروبي عام 2003.
وبمجرد أن قدمت سوريا رعاية صحية مجانية قوية للعامة، تعرضت لضغط من الاتحاد الأوروبي ووكالة التنمية الألمانية للتصديق على إصلاحات صديقة للسوق لأن الرعاية الصحية المجانية بالكامل أمر قمعي وبربري، وكما هو متوقع تم خصخصة القطاع الصحي سريعًا وأصبحت الرعاية الطبية مكلفة جدًا لمعظم السوريين.
مريض سوري جاء للعلاج في مستشفى حلب
في فصل آخر بعنوان “الاقتصاد السياسي في سوريا: الأبعاد المحلية والدولية” وضع عالم الاجتماع بجامعة كورنويل ماكس آجل التنمية السورية في سياق تاريخي حيث يسود عالم الشمال وهو العامل الحاسم في نتائح التنمية.
فعلى سبيل المثال كشف آجل عن استمرار سوريا لتحويل الإنفاق في الميزانية من الاستثمار للدفاع وأنها ليست مجرد ظاهرة بل هي رد فعل سوري على الجغرافيا السياسية العالمية وعلاقة الولايات المتحدة الخاصة بـ”إسرائيل”.
الصورة الكبرى
يقدم آجل صورة أكبر وأهم لتقييم الجفاف المدمر الذي ينحصر في رد فعل الحكومة السورية على الكارثة، ويشرح أنه فقط من داخل صورة التغير المناخي الذي تسبب فيه العالم الشمالي يمكننا أن نبدأ في فهم الأزمة السورية، وكما يقول آجل فانبعثات ثاني أكسيد الكربون التي تسببت في الجفاف هي نفسها عملية عالمية متأصلة في نمط إنتاج الشمال العالمي.
لذا ما الذي ينتظر سوريا بعد مسارها من الاستقلال السياسي للحرب بالوكالة؟ وفي خاتمة الكتاب يشير قدري ومطر إلى أن دولة بهذا القدر القليل من السيادة هي لعنة إمبريالية، واقترحا أنه لإعادة بناء دولة قوية يجب إعادة بناء الوحدة الوطنية للسوريين، لكن من الصعب إعادة بناء أمة وسط الإعصار.
المصدر: ميدل إيست آي