“تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن” يعكس هذا التعبير الشعبي الإنساني قدرًا كبيرًا من الأزمة الحاليّة في إيران، فعلى عكس ما كان متوقعًا، لم تلق الأداة المالية التي استحدثها الاتحاد الأوروبي لدعم التبادل التِجاري مع إيران: Instrument in Support of Trade Exchange (Instex) القَبول الملائم والترحيب اللازم شعبيًا، وتسبب في حالةٍ من الاضطراب في أوساط الساسة والأكاديميين هناك، ما بين مؤيدٍ ومعارض، وسط تساؤلاتٍ عن مستقبل الاتفاق النووي مع أوروبا، الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية ممثلةً في الرئيس ترامب قد نقضته في مايو/آيار 2018 الماضي.
القناة المالية الجديدة التي أقرها الثلاثي الأوروبي الكبير (إنجلترا وفرنسا وألمانيا)، الخميس الماضي 1 من يناير/كانون الثاني 2019، وعاودوا التأكيد عليه أول أمس الإثنين، تأتي وفاءً بالعهد الأوروبي الذي تبلور في بيان الرد على انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي “ومكافأة” على التزامها ببنود الاتفاق، كما ورد في أكثر من 13 تقريرًا من تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رغم انسحاب الطرف الأمريكي وفرضه عقوباتٍ اقتصادية قاسية على طهران بدءًا من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وفقًا لما قالته فريدريكا موغيريني، مفوضة الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي.
وتسعى أوروبا من خلال هذه القناة المالية التي يديرها مصرفٌ ألمانيٌ كبير، وتتخذ من باريس مقرًا لها، وتشرف عليها بريطانيا، إلى حماية الشركات الأوروبية الراغبة في العمل مع طهران، وحفظ المصالح الاقتصادية الإيرانية في إطار الاتفاق النووي، وتسهيل نقل العائدات المالية من الصادرات النفطية الإيرانية إلى أوروبا، والسماح لإيران بالدفع مقابل مشترياتها التقليدية من الدول الأوروبية، بحسب ما صرح مسؤول إيراني رفيع.
قلل محللون إيرانيون وأكاديميون ورجال دولة من شأن هذه الخطوة، معربين عن استيائهم الشديد من ترحيب بعض المسؤولين الإيرانيين بهذه ”الصفقة المحدودة”
وقال السفير الإيراني في لندن وأحد المفاوضين الإيرانيين في الاتفاق النووي حميد بعيدي نجاد، في سلسلة تغريدات كتبها على موقع “تويتر” أن أوروبا سوف تبدأ بتصدير طيف واسع من “السلع غير المشمولة بالحظر” إلى طهران ومنها المواد الغذائية مثل: الذرة وفول الصويا ومنتجات الألبان والحليب المجفف والخضراوات والفواكه، والمنتجات الطبية مثل الأدوية والأدوات المستخدمة داخل المستشفيات والأدوات الجراحية الدقيقة، منوهًا أن السوق الإيرانية، رغم محاولات الاكتفاء الذاتي، لا تزال في حاجة إلى هذه المنتجات، حيث تنفق إيران ما يعادل 7.8 مليار يورو سنويًا لاستيراد هذه البضائع.
ورغم ذلك، قلل محللون إيرانيون وأكاديميون ورجال دولة من شأن هذه الخطوة، معربين عن استيائهم الشديد من ترحيب بعض المسؤولين الإيرانيين بهذه ”الصفقة المحدودة”، فقالت كاميليا انتخابي فرد الكاتبة الإيرانية، في مقالة لها بـCNN العربية إن أوروبا نجحت – بتمريرها هذه الأداة – في إبقاء إيران ملتزمةً بالاتفاق النووي وبنوده من ناحية، ونجحت في إرسال رسالة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب مفادها أن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية قد لا تتطابق مع مصالح الاتحاد الأوروبي، بينما لم تحظ طهران بأكثر من “مساعدات إنسانية” تتعلق بقطاعي الغذاء والدواء لم تكن مشمولة بالحظر أصلاً، ولم تستطع إنعاش قطاع النفط الذي انهارت عائداته بعد العقوبات الأمريكية.
مسلطةً الضوء على مشهد طوابير المواطنين الإيرانيين الذين اصطفوا مددًا طويلة في جو شديد البرودة من أجل الحصول على كيلوغرامين من اللحم المستورد المجمد لكل أسرة (كان الرئيس الإيراني روحاني قد صرح في وقت قريب أن البلاد تعاني من أزمة اقتصادية لم تشهدها منذ 40 عامًا بسبب العقوبات الأمريكية، وبحسب تقارير آسيوية فإن صادرات النفط الإيراني إلى كوريا واليابان والصين والهند، قد تراجعت بنسبة 21% عن العام الماضي، رغم أن هذه الدول لا يشملها الحظر أصلاً).
شروط مسبقة وابتزاز أوروبي
وفي نفس السياق الرافض للأداة المالية الأوروبية، استهجن رئيس السلطة القضائية الإيراني آملي لاريجاني ما أسمّاه “شروط أوروبا المسبقة” لتمرير هذه القناة المالية، حيث يلزم إيران للاستفادة بالآلية أن توقع على اتفاقية مجموعة العمل الدولية (FATF) وهي اتفاقية دولية لمكافحة غسيل الأموال ودعم وتمويل الإرهاب.
كما أعطت أوروبا لنفسها الحق في التفاوض بشأن برنامج إيران لتطوير الصواريخ (أصدر الاتحاد الأوروبي، أول أمس الإثنين، بيانًا وُصف بـ”النادر” عبر فيه عن قلقه إيذاء أنشطة إيران الصاروخية التي تزايدت وتيرتها في الاحتفالات بذكرى مرور 40 عامًا على الثورة، دعا إيران خلاله بالتوقف عنها، وقال إن هذه الأنشطة تعمق الارتياب وتساهم في زعزعة الاستقرار الإقليمي)، وطالب نائب رئيس مجلس الشورى – البرلمان – الإيراني، علي مظهري، وزارة الخارجية الإيرانية بالرد بشكل مناسب على هذا التدخل، إذ لا ينبغي في رأيه ربط الموضوعين ببعض.
مؤيدو القناة المالية الجديدة تباينت آراؤهم عن سبب التأييد، ولكنها لم تخرج بشكل عام عن إطار أهمية التوقيت ورمزية القرار وضرورة عدم التسرع في تقييم القناة
وحذر الأكاديمي الإيراني محمد غولي يوسفي القيادة الإيرانية من “وضع البيض في سلة واحدة”، فأوروبا، كما قال، لا يمكنها أن تحل محل الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها تعتمد عليها سياسيًا واقتصاديًا، واقترح أن يتم التفاوض مع أمريكا مباشرةً ما دام مبدأ التفاوض مع الغرب قائمًا بشكل عام، داعيًا السلطة في بلاده إلى تغليب مصلحة الشعب الإيراني الذي يدفع فاتورة ثورية بلاده.
حجج المؤيدين
أما مؤيدو القناة المالية الجديدة، فقد تباينت آراؤهم عن سبب التأييد، ولكنها لم تخرج بشكل عام عن إطار أهمية التوقيت ورمزية القرار وضرورة عدم التسرع في تقييم القناة، فاعتبر حشمت الله فلاحت رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية، أن إعلان الثلاثي الأكبر في أوروبا عن القناة المالية الجديدة “انتصار سياسي ودولي يخلق أرضًا لفشل اجتماع وارسو، ويضمن جانبًا من مصالحها الاقتصادية”، خاصة مع تزامنه التقريبي مع التقرير الصادر من المخابرات الأمريكية بخصوص أنشطة إيران وكوريا الشمالية، الذي قالت فيه الوكالة لمجلس الشيوخ “إيران ملتزمة ببنود الاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب، ولم تقدم على صنع قنبلة نووية”.
وتجتمع نحو 70 دولة في العاصمة البولندية وارسو، منتصف الشهر الحاليّ فبراير/شباط، برعاية أمريكية بولندية، لمناقشة قضايا الشرق الأوسط بوجه عام وإيران بوجه خاص في مؤتمر يُنتظر منه توجيه إجراءات ورسائل سياسية تزيد حصارها الاقتصادي وتعمق عزلتها الدولية.
أصدرت الخارجية الإيرانية أمس الثلاثاء بيانًا طويلاً، طالبت فيه أوروبا بتسريع تنفيذ الآلية “لتشمل باقي الأنشطة الاقتصادية” واستحقاقات الاتفاق النووي
وفيما يخص عدم التسرع في تقييم الآلية، أكد سيد عباس عراقجي أن هذه الآلية مجرد “خطوة أولى” ضمن حزمة وعود تعهد بها الأوروبيون لإيران، مشيرًا أن هذا الإنجاز الذي استغرق إتمامه 9 أشهر يتيح معاملاتٍ مالية واسعة تشمل الاستيراد والتصدير والاستلام المالي والتحويل، وآن الآلية موجهة ومصممة أساسًا للسلع المشمولة بالحظر، ولكن البداية بالسلع غير المشمولة بالحظر تهدف إلى تجربة نظام الاستلام والتسديد وبلورته بشكل أمثل، مبشرًا بـ”دول أخرى” ستسلك نفس السبيل.
سيد عباس عراقجي
وكانت سويسرا قد أعلنت في وقتٍ سابق استعدادها للدخول في قناة مالية مشتركة مع طهران، تتيح لها تصدير معدات طبية ومنتجات غذائية، تمثل أكثر من 60% من الصادرات السويسرية لإيران، دون الوقوع في فخ العقوبات الأمريكية.
فيما رأى بعض المحللين الأكثر تفاؤلاً أن حالة هروب الشركات الكبيرة من التعامل مع إيران بفضل العقوبات الأمريكية، قد تقابل بتشجيع الشركات الصغيرة – الأكثر قدرة ومرونة على التفلت من العقوبات – على الاستثمار في إيران، بفضل القنوات المالية الأوروبية، لا سيما إذا ما تمت هذه التعاملات المالية دون استخدام الدولار الأمريكي.
وأصدرت الخارجية الإيرانية أمس الثلاثاء بيانًا طويلاً، طالبت فيه أوروبا بتسريع تنفيذ الآلية “لتشمل باقي الأنشطة الاقتصادية” واستحقاقات الاتفاق النووي، مشيرةً إلى رفضها الربط بين الآلية الجديدة والانضمام لمجموعة العمل الدولية، وأكدت أن برنامجها الصاروخي لأغراض محلية، ولم تصدر الخارجية الأمريكية أي بيانات تعليقًا على الحدث، باستثناء بيان سفيرها في ألمانيا بأنه لا يتوقع أن تؤثر الآلية الجديدة على حملة واشنطن لممارسة أقصى ضغط اقتصادي على إيران، محذرًا من عقوبات تشمل عدم التعامل مع النظام المصرفي الأمريكي والشركات الأمريكية، على الكيانات التي تخرق الحظر الأمريكي.