بعد ساعات قليلة من الصفعة التي تلقاها دونالد ترامب من مجلس الشيوخ الأمريكي، إثر موافقته وبغالبية كبيرة (72-24) على تعديلٍ ينتقد قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا وأفغانستان، ألقى الرئيس الأمريكي اليوم الأربعاء أمام جلسة مشتركة للكونغرس، خطاب “حالة الاتحاد” السنوي.
الخطاب الذي استعجل ترامب إلقاءه قبل أن تتمكن نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي من تقديمه كما تجري العادة في هذه المناسبة، تناول عددًا من القضايا التي تهم الشارع الأمريكي، على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، على رأسها تحسين المؤشر العام للاقتصاد والمستوى المعيشي للمواطنين الأمريكيين، موضحًا أن خريطة الطريق للبيت الأبيض خلال العام المقبل هي جدول أعمال للشعب الأمريكي كله، مشددًا على أن التركيز سيكون على توفير الوظائف والتجارة والبنية التحتية وأسعار الدواء والهجرة.
يأتي خطاب ترامب هذا العام وسط حالة من الانقسام البين بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن عدد من الملفات في مقدمتها الهجرة غير الشرعية وبناء الجدار العازل مع المكسيك، هذا في الوقت الذي يواجه فيه الرئيس الأمريكي معارضة شديدة تجاه بعض سياساته حتى من داخل صفوف الحزب الذي ينتمي إليه.
حقوق المرأة
في إطار استخدام المرأة لأزياء بعينها كنافذة لإيصال رسالة سياسية محددة، ارتدت عشرات البرلمانيات في الكونغرس ملابيس بيضاء اثناء خطاب حالة الاتحاد، الذي يعتبر حدثاً سياسيا مهما يحظى بمتابعة الملايين من الأمريكيين ومن ثم سرعة انتشار الرسالة إلى قطاع أكبر من المواطنين، وحسب ما نشرته صحيفة “ذي إندبندنت” البريطانية، أن ذلك رمز للتضامن.
الهدف من وراء هذا التقليد بحسب النائبة لويس فرانكل (ديمقراطية من فلوريدا) التي دعت النساء من جانبي الممر الحزبي لارتداء الملابس البيضاء كان رسالة تأكيد على عدم التراجع عن الحقوق المكتسبة للمرأة، إضافة إلى تكريم رائدات العمل النسائي وسنرسل، بحسب تغريدة لها على حسابها على موقع “تويتر”.
فرانكل التي تعمل رئيسة مجموعة العمل النسائية الديمقراطية في مجلس النواب أضافت ” أن ارتداء اللون الأبيض جاء للتعبير عن وحدة وتضامن في مواجهة أي محاولات من جانب إدارة ترامب لإحباط التقدم الذي حققته النساء منذ القرن الماضي”، مشددة على ضرورة تعزيز السياسات التي من شأنها تمكين الفتيات والنساء من تحقيق إمكاناتهن
يذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها المرأة إلى ارتداء الزي الأبيض، ففي عام 2017، ارتدت العديد من النساء الديمقراطيات اللون الأبيض، على اعتبار أنه اللون الرسمي للحراك الذي يطالب بحق المرأة في التصويت، كما نزلت به النساء في الشوارع للمطالبة بحقهن الإنتخابي، وللمطالبة بحقوقهن في بداية القرن العشرين.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، ارتدت عضوة الكونجرس الأمريكي، أليكاسندريا كورتيز، اللون الأبيض في حفل أداء اليمين، والتي أوضحت في تغريدة على موقع تويتر: “لقد ارتديت اليوم اللون الأبيض لتكريم النساء اللاتي مهدن الطريق أمامي، ولجميع النساء اللاتي لم يأتين بعد”.
وفي 2016 ارتدت المرشحة الرئاسية السابقة، هيلاري كلينتون، نفس اللون، عند قبول الترشيح للحزب الديمقراطي، كما تم ملاحظة ارتداءها في وقت لاحق فستانًا طويلاً أبيضًا اللون في حفل تنصيب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب في عام 2017، ويُذكر أنه خلال الأيام الأخيرة التي سبقت الانتخابات الرئاسية لعام 2016، ارتدت السيدات الراغبات في التصويت وأفراد الحركة النسائية، اللون ذاته، مستخدمين هاشتاج WearWhiteToVote# للاحتفال بهذه المناسبة.
We're wearing suffragette white at #JointSession as a pledge to fight for women's #reprorights, #equalpay, #paidleave & more #WomenWearWhite pic.twitter.com/Ni1EBnwlfD
— Katherine Clark (@WhipKClark) February 28, 2017
معجزة اقتصادية
استهل ترامب خطابه بالتطرق إلى الشأن الداخلي كونه الأهم بالنسبة لقطاع كبير من الشعب الأمريكي، مؤكدًا على الطفرة الاقتصادية التي شهدتها بلاده منذ تنصيبه رئيسًا لها، قائلاً “اقتصادنا يحسدنا عليه العالم، وجيشنا هو الأقوى على وجه الأرض، وأمريكا تفوز في كل يوم”.
الرئيس الأمريكي وصف ما حققه على المستوى الاقتصادي بأنها “معجزة” تحدث في الولايات المتحدة، وأن “الأشياء الوحيدة التي يمكن أن توقفها هي الحروب الحمقاء أو السياسة أو التحقيقات السخيفة والمنحازة”، في إشارة مباشرة منه إلى التحقيقات في التدخل الروسي بانتخابات الرئاسة الأمريكية.
كما دعا في خطابه إلى نبذ سياسة الانتقام واعتماد روح التوافق من أجل المصلحة العامة، معلنًا استعداده العمل من أجل تحقيق انفراجات تاريخية للأمريكيين، وقال: “الانتصار لا يعني الفوز لحزبنا ولكن الانتصار هو الفوز لبلادنا”.
جدير بالذكر أن ترامب نجح في السنة الأولى لولايته في تحقيق نسبة كبيرة من الوعود الاقتصادية التي قطعها على نفسه، إذ تعهد بتحقيق نمو اقتصادي يتجاوز الـ3% وهو ما بدأ الاقتصاد الأمريكي بتحقيقه فعليًا خلال الأرباع الأخيرة بعد أن سجل نموًا بنحو 3.1% و3.2% خلال الربعين الثاني والثالث من 2017 على التوالي على الرغم من أن التوقعات للعام ككل تشير إلى نمو الاقتصاد بنحو 2.5%، وعلى مستوى تخفيض معدل البطالة، فقد نجح في خفضها مع نهاية ديسمبر الماضي إلى 4.1% مقارنة بـ4.8% عندما تسلم مقاليد الأمور.
الشرق الأوسط التحدي الأكبر
“أحد أعقد التحديات التي نواجهها هي في الشرق الأوسط”، بهذه العبارة كشف ترامب عن ملامح السياسة الأمريكية الجديدة تجاه ملفات الشرق الأوسط التي باتت تؤرق البيت الأبيض بصورة كبيرة، نظرًا لارتباطها الوثيق بالمصالح الأمريكية في المنطقة وحلفائها.
عاود الرئيس الأمريكي في خطابه التأكيد على الموقف من طهران، منتقدًا ما أسماه “النظام الراديكالي في إيران” متعهدًا بألا تحصل مطلقًا على أسلحة نووية، وقال إن الإيرانيين يفعلون “أمورًا سيئة”، متهمًا الحكومة في طهران بأنها معادية للسامية، في محاولة لتبرير قرار انسحابه من الاتفاق النووي الموقع في 2015.
أما فيما يتعلق بالملف الأفغاني الذي يواجه فيه ترامب معارضة شديدة من مجلس الشيوخ ومن داخل حزبه جراء ما أثير بشأن عزمه سحب قوات بلاده من هناك في إطار صفقة سياسية مع حركة طالبان لوقف النزاع المستمر منذ 17 عامًا، فقال إن إدارته تجري محادثات بناءة مع جماعات في أفغانستان بينها طالبان، وإنها ستتمكن من خفض القوات الأمريكية هناك، والتركيز على مكافحة الإرهاب إذا حققت تقدمًا.
“التسامح بحق الهجرة غير الشرعية ليس رحمة بل قسوة، وعشرات الآلاف من الأمريكيين الأبرياء يقتلون بسبب المخدرات الفتاكة التي تعبر الحدود وتغرق المدن” ترامب
يذكر أنه في الـ20 من يناير الماضي وبعد ستة أيام من المحادثات التي استضافتها قطر بين المبعوث الأمريكي الخاص لأفغانستان زلماي خليل زاد، وأعضاء المكتب السياسي لحركة “طالبان”، توصل الطرفان إلى مسودة اتفاق سلام أولية تنص على انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان في غضون 18 شهرًا من توقيع الاتفاق.
مبعوث السلام الأمريكي أعرب عن تفاؤله حيال التوصل إلى اتفاق سريع وهو ما علق عليه ترامب في خطاب اليوم بقوله: “لا نعرف إن كنا سنتوصل لاتفاق، لكننا نعرف أنه بعد عقدين من الحرب، حان الوقت لكن نحاول على الأقل السعي من أجل السلام”.
جدار المكسيك
رغم المعارضة الشديدة لبناء جدار المكسيك الذي أصيبت بسببه الحكومة الأمريكية بالشلل التام لعدة أيام، عاود ترامب التأكيد على أنه “سيتم بناء” جدار على الحدود مع المكسيك، مرجعًا ذلك إلى أنه سيضمن أمن أمريكا من موجات الهجرة غير الشرعية التي تتم عبر تلك الحدود.
وأضاف: “بكلّ بساطة، الجدران تنفع والجدران تُنقذ أرواحًا، لذا، دعونا نعمل معًا على تسوية، ولنتوصّل إلى اتفاق يجعل أمريكا آمنة حقًّا”، معددًا مميزاته قائلاً “إنه جدار ذكي وإستراتيجي وليس مجرد جدار خرساني”، مشددًا على أن التسامح بحق الهجرة غير الشرعية ليس رحمة بل قسوة، وعشرات الآلاف من الأمريكيين الأبرياء يقتلون بسبب المخدرات الفتاكة التي تعبر الحدود وتغرق المدن، على حد قوله.
جدير بالذكر أن الإدارة الأمريكية كانت قد دخلت في حالة إغلاق جزئي بعد فشل المشرعين في التوصل إلى اتفاق بشأن الميزانية المخصصة لبناء جدار المكسيك، في ظل إصرار ترامب على أن تشمل 5 مليارات دولار على الأقل لبناء الجدار وهو ما اعترض عليه الكونغرس، ما تسبب في وقف التوقيع على الميزانية ومن ثم حُجب تمويل نحو رُبع المؤسسات الاتحادية الأمريكية العاملة ما أصاب الشارع بحالة من الشلل.
عناصر من الجيش الأمريكي على الحدود المكسيكية لوقف الهجرة
الحرب التجارية مع الصين
خلال الأشهر القليلة الماضية اندلعت ما أطلق عليه الحرب التجارية بين أمريكا والصين، تلك الحرب التي على إثرها فرض كل طرف رسومًا جمركية كبيرة على منتجات الطرف الآخر، ما تسبب في إحداث حالة من الخلل النسبي في منظومة الاقتصاد العالمي، الأمر الذي دفع الجانبان إلى إحياء المسار التفاوضي للوصول إلى حلول وسط تقي من مغبة التعرض لكوارث اقتصادية كبيرة.
وبشأن هذا المسار التفاوضي قال ترامب إنها تمضي قدمًا من أجل اتفاق تجاري، وتعهد بحماية الوظائف الأمريكية، وقال: “سرقة الوظائف والثروة قد انتهت” في إشارة إلى الصين، ملقيًا باللوم على الإدارات السابقة في السماح بحدوث “هذه الظاهرة”، محذرًا من أنّه لن يعود بإمكانها “سرقة الوظائف والثروة الأمريكية”، مطالبًا بـ”تغييرات هيكليّة” من بكين لإنهاء ممارساتها التجارية “غير العادلة”.
وأضاف الرئيس الأمريكي في خطابه: “أكن الكثير من الاحترام للرئيس (الصيني) شي جين بينغ، ونحن نعمل على اتّفاق تجاري جديد مع الصين، لكنه يجب أن يتضمن تغييرات هيكلية حقيقية لإنهاء الممارسات التجارية غير العادلة، وخفض العجز المزمن لدينا، وحماية الوظائف الأمريكية”.
الرئيس الأمريكي أثنى على علاقته بالرئيس الكوري، ملفتًا إلى أن جهود مرونته مع جهود الوساطة الأمريكية حالت دون وقوع حرب في كوريا الشمالية
شبه الجزيرة الكورية
وعلى مسار أزمة شبه الجزيرة الكورية قال ترامب إنه سيلتقي الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يومَي 27 و28 من فبراير/شباط في فيتنام، لمواصلة المفاوضات المتعلقة بنزع الأسلحة النووية لكوريا الشمالية، مضيفًا أمام الكونغرس: “في إطار دبلوماسيتنا الجريئة، نُواصل جهدنا التاريخي من أجل السلام في شبه الجزيرة الكورية”.
الرئيس الأمريكي أثنى على علاقته بالرئيس الكوري ملفتًا إلى أن جهود مرونته مع جهود الوساطة الأمريكية حالت دون وقوع حرب في كوريا الشمالية، ملمحًا إلى استمرار واشنطن في سياستها تجاه هذا الملف في محاولة التوصل إلى نقاط مشتركة يمكن من خلالها تدشين صفحة جديدة من التوافق والتنسيق.
في سبتمبر الماضي، قال الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي-إن، إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، طلبا منه أن يعمل كوسيط بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، وهما يعملان من أجل التفاوض على نزع السلاح النووي لشبه الجزيرة الكورية، موضحًا أنه سيضطلع بالدور حتى تتمكن الولايات المتحدة وكوريا الشمالية من “إجراء حوار واتصال أكثر نشاطًا”.
ترامب وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون
انقلاب فينزويلا
أما فيما يتعلق بالأزمة الفنزويلية فقد أكد ترامب دعمه وتأييده لما أسماها “الحكومة الشرعية” لفنزويلا وبرئيسها الجديد خوان غوايدو رئيس البرلمان، قائلاً: “نقف إلى جانب الشعب الفنزويلي في سعيه للحرية وندين السياسات الوحشية لنظام مادورو”، مشددًا على رفضه للاشتراكية الفنزويلية وانزعاجه من تبنيها في بلاده، مؤكدًا “الليلة نجدد عزمنا على أن أمريكا لن تكون أبدًا دولة اشتراكية”.
بعد ساعات قليلة من الانقلاب اعتبر ترامب البرلمان الفنزويلي برئاسة غوايدو “الفرع الشرعي الوحيد لحكومة انتخبها الشعب الفنزويلي وفق الأصول”، مضيفًا في بيان له أن “الجمعية الوطنية أعلنت مادورو غير شرعي، ومنصب الرئاسة بالتالي فارغًا”، وتابع: “شعب فنزويلا وقف بشجاعة ضد مادورو ونظامه وطالب بالحرية وسيادة القانون، سأستمر في استخدام كل ثقل السلطة الاقتصادية والدبلوماسية للولايات المتحدة للدفع باتجاه إعادة الديمقراطية الفنزويلية”، على حد قوله.
ومنذ انتخاب مادورو رئيسًا للبلاد للمرة الثانية في مايو 2018 وأمريكا وعدد من الدول الأخرى سواء في أوروبا أم أمريكا اللاتينية المعروفة ضمن “مجموعة ليما” تسعى إلى تحريض الشعب الفنزويلي ضد رئيسه بعدما رفضت نتائج الانتخابات الأخيرة، وصلت إلى حد التلويح بالقيام بعمل عسكري صريح.
وبحسب البند الثالث من المادة الثانية من الدستور الأمريكي يقوم الرئيس بإطلاع الكونغرس “من وقت لآخر” على ما يجري
ماذا يعني خطاب حالة الاتحاد؟
خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه ترامب اليوم هو واجب دستوري وتقليد رئاسي أمريكي عريق، يلقي خلاله رئيس البلاد خطابًا سنويًا أمام مجلسيْ الكونغرس يستعرض فيه حالة الولايات المتحدة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويقترح جدول أعمال تشريعي للسنة المقبلة، إضافة إلى شرح مقاربته الشخصية للشعب الأمريكي.
بدأ هذا التقليد عام 1790 عندما ألقى أول رئيس الولايات المتحدة، جورج واشنطن “رسالته السنوية” أمام الكونغرس في مدينة نيويورك التي كانت آنذاك عاصمة مؤقتة للبلاد، ثم تبعه في ذلك خلفه جون آدمز، لكن توماس جيفرسون الذي يعد الرئيس الثالث للبلاد عارض هذا التقليد، معتبرًا أنه يتسم بطابع شبيه بالأنظمة الملكية ولا يليق بديمقراطية جديدة، واستبدله بإرسال رسالة خطية سنوية إلى الكونغرس بدلاً من المثول أمامه، وهو الأمر الذي اتبعه الرؤساء اللاحقون طوال أكثر من قرن.
وبحسب البند الثالث من المادة الثانية من الدستور الأمريكي يطلع الرئيس الكونغرس “من وقت لآخر” على ما يجري، غير أن غياب التفاصيل المتعلقة بكيفية عملية الإطلاع فقد استقر التقليد على إلقاء خطاب من الرئيس بشكل سنوي بمقر الكونغرس “الكابيتول” في جلسة تجمع إدارة البيت الأبيض ومجلسي النواب والشيوخ في حضور قضاة المحكمة العليا.
وبينما يواجه الرئيس الأمريكي ضغوطًا شديدة من المعارضين والمؤيدين على حد سواء، فقد كشف عبر هذا الخطاب ملامح سياسة بلاده الخارجية خلال الفترة المقبلة، مختتمًا حديثه بالدعوة إلى نبذ سياسة الانتقام واعتماد روح التوافق من أجل المصلحة العامة، معلنًا استعداده العمل من أجل تحقيق انفراجات تاريخية للأمريكيين.