على اختلاف أنواع المشاكل النفسية التي قد يمرّ بها الإنسان في مراحل حياته المختلفة، يبقى البشر يختبرون عددًا معيّنًا من المشاكل التي يشتركون بها فيما بينهم ويطرحون الأسئلة الدائمة والمكرّرة فيما يتعلّق بها، وعادةً ما يُخطئ الناس والمتخصّصين في تعريف تلك المشاكل والتعامل معها ومعرفة أسبابها وأصولها؛ كأنْ يرجعوها جميعًا إلى أساس فرديّ بحت أو بيولوجيّ أو وراثيّ.
وفي المقابل، يرى علماء النفس الوجوديّون أنّ جميع المشاكل النفسية والصراعات الداخلية التي يمكن للشخص أن يمرّ بها تنحصر في أربع قضايا أساسية ومشتركة: هي الموت وانعدام الجدوى والعزلة والحرية، وهي المواضيع التي نادرًا ما تُفضي بالشخص منّا إلى عيادة الطبيب النفسي نظرًا لأنّنا نعتقد أنّ كلًّا من علم وطب النفس لا يهتمّان بها، أو أنّنا لا نعرف كيف يمكن لنا أنْ نصوغها ونتحدّث عنها لمن أمامنا.
قلق الوجود والبحث عن معنى
ترجع جذور العلاج الوجوديّ إلى الفلسفة الوجودية، وهي حركة ثقافية انتشرت بين الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين ونشأت على يد الفيلسوف والأديب الفرنسي جان بول سارتر الذي رأى أنّ “البشر محكومون بأنْ يكونوا أحرارًا”، أي أنّهم قادرون بشكلٍ مستمرّ على اختيار ذواتهم وتقرير إرادتهم، الأمر الذي يترتّب عليه مسؤوليّتهم لاتخاذ قرارٍ ما في كلّ لحظة من حياتهم على عكس الحيوانات الأخرى.
يرى علماء النفس الوجوديّون أنّ جميع المشاكل النفسية والصراعات الداخلية التي يمكن للشخص أن يمرّ بها تنحصر في أربع قضايا أساسية ومشتركة: هي الموت وانعدام المعنى والعزلة والحرية
بتعبيرٍ آخر، يمكن تعريف الفلسفة الوجودية بأنّها الشكل الثقافي الذي يركّز على قضايا الوجود الإنسانيّ وقيمة الفرد من خلال البحث في قضايا مثل الذاتية والحريّة الذاتية والاختيار الفرديّ، وهي المواضيع التي ركّز عليها عددٌ من الأطباء النفسيّين بعد فترة الحرب العالميّة الثانية؛ أبرزهم فيكتور فرانكل الذي ألّف كتاب “الإنسان يبحث عن معنى” وصاغ فيه المبادئ الأساسية للعلاج بالمعنى القائم على افتراض أنّ معنى وجود الإنسان هو أمر قابل للاكتشاف من قِبَل الفرد الذي يملك إرادته ويستخدمها في السعي إلى إدراك معنى وجوده.
في عام 1980، عرّف المعالج النفسيّ الأمريكي إرفين يالوم بتعاونه مع رولو ماي في كتابهما “مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي Existential Psychotherapy” القضايا الأربع الأساسية للحالة الإنسانية؛ وهي الموت والمعنى والعزلة والحرية، والتي أصبحت المبادئ الأساسية للعلاج الوجودي النفسيّ.
مراجعة كرتونية لكتاب “الإنسان يبحث عن معنى” للطبيب النفسيّ فيكتور فرانكل
كما يؤكّد كلٌّ من الطبيبين في كتابهما على أنّ سعي الإنسان لتحقيق المعنى والمغزى من الحياة والوجود يخلق بشكلٍ طبيعيّ التوتّر والقلق لا الاتّزان والسكينة. ويعتبران أنّ مشاعر القلق هذه، أي القلق الوجوديّ، علامة من علامات الصحة النفسيّة نظرًا لأنّنا بحاجة ماسّة وشديدة إلى السعي والكدح في سبيل إيجاد هدفٍ ما يستحق أنْ نعيش من أجله ومعنىً يُعيننا على البقاء والثبات والاستمرار في الحياة.
وبشكلٍ عام، يؤكد العلاج الوجودي على الطبيعة الناشئة والمتناقضة للتجربة الإنسانية ويساعد في العثور على إجاباتٍ للأسئلة حول الوجود البشريّ وما يعنيه حقًّا أنْ يكون الإنسان إنسانًا، وهي أسئلة عادةً ما تكون من قبيل من أنا؟ أو ما هو هدفي في الحياة؟ أو هل أنا حرّ في قراراتي أم مسيّر؟ أو لماذا يحدث كلّ هذا معي أنا تحديدًا؟، وغيرها الكثير.
الاكتئاب الوجوديّ: وجهٌ آخر للاكتئاب
ما لا يعرفه الكثير من الناس أنّ خبراء الصحة النفسية غالبًا ما يصنّفون الاكتئاب إلى أنواع مختلفة، مثل الاكتئاب السريري والاكتئاب البيولوجي والاكتئاب الظرفيّ أو المرتبط بحالةٍ أو ظرفٍ معيّن والاكتئاب الموسميّ، وهناك الاكتئاب الوجوديّ الذي يحدث عندما يجد الشخص نفسه وجهًا لوجه مع القضايا والأسئلة المتعلّقة بالحياة والموت والحرية ومعنى الوجود.
يمكن وصف الاكتئاب الوجودي بأنّه شعورٌ فريد باليأس الناتج عن الشعور بأنّ حياتنا بكلّ ما فيها من جوانب وأشياء وأشخاص وأحداث قد تكون في الواقع بلا معنى وبدون أيّة جدوى
فعلى سبيل المثال، قد يسأل ذلك الشخص نفسه بشكلٍ يوميّ عن الهدف من وجوده، هل أنْ يمضي 9 ساعات من يومه في العمل؟ أو أنْ يُنشئ عائلة فقط؟ وما القرارات التي عليه اتخاذها وتلك التي عليه تجنّبها وكيف يمضي الوقت به سريعًا دون أنْ يحقّق أيّ إنجازٍ أو شيءٍ يُذكر، وغيرها الكثير من الأسئلة التي تحمل في طيّاتها قلقًا وتوتّرًا تختلف درجاتهما بين الفينة والأخرى.
وإلى جانب تلك الأسئلة، يمرّ المصاب بالاكتئاب الوجوديّ بحالة استياء شديد من المجتمع والشعور بالوحدة المُزمنة والانفصال عن الآخرين، والاعتقاد بأنّ معظم الأشياء في الحياة هي بالأساس أشياء “غير مجدية” أو “لا معنى لها”، كما يفقد قدرته على الاستمتاع بأيّ شيءٍ حوله. ومن شعوره بعدم الجدوى وفقدان المعنى يمكن للانتحار أنْ يصبح خيارًا مُتاحًا ودارجًا يمكن التفكير فيه في أيّ وقتٍ كان.
يحدث الاكتئاب الوجودي بعد حدثٍ يشعر الشخص أن الأساس الذي بنيت عليه حياته آخذ في الانهيار ما يؤدي إلى التشكيك في معنى وجوده
وبكلماتٍ أخرى، يمكن وصف الاكتئاب الوجودي بأنّه شعورٌ فريد باليأس الناتج عن الشعور بأنّ حياتنا بكلّ ما فيها من جوانب وأشياء وأشخاص وأحداث قد تكون في الواقع بلا معنى وبدون أيّة جدوى. وقد يحدث هذا النوع من الاكتئاب بسبب حدثٍ معيّن في حياة الشخص مثل موت قريبٍ أو فقدان حبيبٍ أو طلاقٍ أو وظيفة، وهي أحداثٌ تٌشعر الشخص أن الأساس الذي بنيت عليه حياته آخذٌ في الانهيار، ما يمكن أن يؤدي إلى التشكيك في معنى وجوده. وعلى الطرف المقابل، يمكن للاكتئاب الوجودي أنْ يحدث بدون أيّ حدثٍ معيّن نهائيًا، حيث يكون متراكمًا حاضرًا في أيّ لحظة.
يسعى المعالجون النفسيّون إلى التعامل مع الاكتئاب الوجوديّ لدى مرضاهم على أنه نقطة الانطلاق لاستكشاف معنىً ما والتصالح مع طبيعة الحياة بما فيها من علاقات وعمل ومجتمعات وتطوّرات تكنولوجية وتغيّرات سياسية واقتصادية وما إلى ذلك، تمامًا كما يحاولون إعادة اتصال الشخص بذاته ونفسه ومحاولة فهمها دون أيّ اعتمادٍ على الأدوية أو مضادات الاكتئاب المعروفة. وبهذه الطريقة، يعتبر كلٌّ من الاكتئاب والقلق الوجودي رحلةً أو وعيًا وتجربة ضرورية تزوّدك بالوعي بحرياتك الخاصة وأنّك ستفشل في بعض الأحيان في إيجاد المعنى وأنّنا معرّضون للموت في نهاية المطاف لكنّ هذا لا يمنع أبدًا من الاستمرار في السعي والكدح لتحقيق جدوى ما في حياتك.