“مصر لن تقترض من صندوق النقد أو البنك الدولي”، كان هذا على ما يبدو أول نبأ اقتصادي يثلج صدر الشارع المصري الثائر بعد اندلاع انتفاضته التي عقد عليها معالم اقتصاد جديد متحرر في فروعه وجذوره من أي تبعية اقتصادية للقوى الكبرى في العالم.
هذا النبأ أعلنه وزير المالية المصري سمير رضوان في يونيو/حزيران 2011، هذا الوزير الذي كانت وزارته قد اُتهمت بالهرولة إلى المؤسسات المالية الدولية للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي للوفاء بالحاجات الاقتصادية والاجتماعية لأكثر الدول العربية سكانًا.
لكن لم يكن يتوقع المصريون أن تفتح دولتهم الثائرة الباب على مصراعيه للاقتراض من البنوك العالمية، لتعود إلى نفس السياسات الاقتصادية التي كان يتبناها نظام مبارك “المخلوع”، المتهمة بأنها مزقت النسيج الاقتصادي للطبقة الوسطى المصرية، وزادت الفقراء فقرًا والأثرياء ثراءً، وهو ما يتناقض مع مطلب العدالة الاجتماعية الذي يعد أحد أبرز ركائز الجمهورية الثورية الثانية للدولة المصرية.
إلا أن ما يجري في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليس بنشاز في التاريخ المصري، إذ يمكن تشبيهه في وجه من الأوجه، بحقبة الخديوي إسماعيل (18 من يناير 1863 – 26 من يونيو 1879)، الذي ارتبط في أذهان المصريين بالطغيان والفساد الذي أوقع البلاد في الهاوية، ولا يزال المصريون يذكرون عصره بالفقر والإفقار والدين والمرابين وارتهان الدولة المصرية، وهي التي تركها محمد علي دولة ذات اقتصاد قوي للغاية.
على خُطى الخديوي
ككل شيء في مصر، للديون قصة ذات جذور تاريخية، تبتعد حتى إلى ما قبل النظام الجمهوري، على مدار ما يزيد على قرنين من الزمان تبدلت وتحولت أحوال مصر فيها من دولة دائنة إلى دولة مدينة، ثم إلى دولة تعيش على المنح والقروض والمعونات الأجنبية، واختلفت قيمة القروض في حياة المصريين واستخدامها ومصادرها من عهد لعهد، باختلاف الحكومات المصرية منذ احتلال مصر وحتى استقلالها ثم دخولها في أزمات اقتصادية.
وفي الغالب كانت القروض هي مفتاح الدولة المصرية لتحقيق ما تصبو إليه من تطوير، وخاصة في ظل الأزمات الاقتصادية، حيث سعى كل من تولى المسؤولية إلى الاستعانة بها والاستدانة لتنفيذ مشروعاته الطموحة والعملاقة، بداية من عهد الخديوي إسماعيل وحتى الآن.
ابتدع إسماعيل صورًا لم يسبقه إليها حاكم مصري في الاستدانة من البنوك وبيوت المال الأوروبية واليهودية منها على السواء في فرنسا وبريطانيا لتحقيق مآربه
في الواقع، بدأ عهد القروض الأجنبية في مصر القرن التاسع عشر خلال حكم سعيد باشا (1854- 1863م)، فكانت هذه البداية نذير الكوارث المالية والأحداث السياسية التي أصابت البلاد في عهد أسلافه إسماعيل وتوفيق، حيث بدأ التوسع في الاقتراض من البنوك الأجنبية وبيوت المال والرهن العقاري من الوالي محمد سعيد باشا، ومن الفلاحين المصريين، حتى وصلت ديون مصر في نهاية عصر سعيد باشا إلى 11 مليون جنيه إسترليني.
وعلى العكس من جده (محمد على) ابتدع إسماعيل صورًا لم يسبقه إليها حاكم مصري في الاستدانة من البنوك وبيوت المال الأوروبية واليهودية منها على السواء في فرنسا وبريطانيا لتحقيق مآربه التي تنوعت بين المشروعات التنموية والتوسع العسكري في السودان والحبشة وإنفاقه على البذخ والأبهة والمتعة.
كانت القيمة الأسمية للقروض الخارجية طويلة الأجل التي عقدها إسماعيل هي 53 مليون جنيه لم يتسلم منها بالفعل إلا 32 مليونًا، أي ما يقل عن القيمة الأسمية بمقدار 21 مليون جنيه، وهو ما يكاد يعادل المبلغ المبدد من قروض إسماعيل الخارجية، كانت خطيئة إسماعيل وفقًا لهذه الأرقام هي محض اللجوء إلى الاستدانة في ظل الشروط القاسية التي كانت تقدم بها القروض.
حفل افتتاح قناة السويس 1869
ويمكن قياس ذلك على حجم ما دخل الخزانة المصرية في السنتين الأوليين من حكم السيسي، الذي قدرته بعض المصادر بـ50 مليار دولار، لم تفد الاقتصاد الوطني في شيء، بل بُددت هذه الأموال على مشروع تفريعة قناة السويس الذي أدخل مصر منذ افتتاح هذه التفريعة في جملة من المشكلات الاقتصادية حيث فتحت الباب على مصراعيه للاقتراض من البنوك العالمية.
كان آخرها قرض صندوق النقد الدولي الذي يُقدّر بـ12 مليار دولار، وفرض على مصر مجموعة من الشروط المجحفة، جاء في مقدمتها تبني سياسات اقتصادية تقشفية وإلغاء دعم الدولة للمنتجات ورفع أسعار السلع والخدمات التي يعيش عليها الناس، وهو ما أدى إلى بيع القطاع العام وتشريد الآلاف من وظائفهم وتجميد الأجور وترك الفقراء نهبًا في يد السوق.
مهمة إفقار الشعب
كانت سنوات حكم إسماعيل لمصر سنوات شؤم وبلاء، ضاعت فيها البلاد في كومة من الفساد الإداري والمالي والسياسي، بسبب نزوات إسماعيل وعدم وجود كيان رقابي شعبي يحد من سياسته الفاسدة وإن حاول البرلمان الذي أوجده إسماعيل فعل ذلك، وتتجلى تلك الحقيقة مع كل حاكم مطلق أعطى لنفسه العنان في التصرف في ثروات البلاد دون أن يأبه لأنّات المصريين وآلامهم.
يُفتتح مشروع قناة السويس في عام 1869، وتبلغ كُلفة الحفل الأسطوري لافتتاح القناة أكثر من 1.5 مليون جنيه مصري، ما يعادل 6.5 مليار جنيه بحسابات الوقت الحالي، لترتفع ديون مصر في عهد الخديوي إسماعيل إلى 26 مليون جنيه ذهبي، أي ما يعادل 570 مليار جنيه مصري في وقتنا الحالي، لتصبح القناة مملوكة تمامًا للأجانب، وتتحول الدولة المصرية إلى مجرد ماكينة لتسديد الديون وفوائدها.
كل من السيسي وإسماعيل أوقعا مصر في مستنقع الديون الخارجية حيث اضطر كلاهما إلى رهن القرار السياسي لمجموعات سياسية غربية وإقليمية تتلاعب في اقتصاد مصر
كان إسماعيل في أشد أنواع الحالة الاقتصادية سوءًا يتفنن في ضروب الإسراف والبذخ، لذا استشرى داء الإسراف في الطبقة المصرية الحاكمة وعلى رأسها الخديوي، مما اضطر معظمهم إلى الاستدانة من المرابين والبنوك، ورهن الأملاك والعقار، ولذلك لم تحل سنة 1876، أي بعد 13 عامًا من حُكم الخديوي إسماعيل، إلا وبلغت القيمة الكلية للديون 91 مليون جنيه إسترليني، وهو مبلغ ضخم للغاية يدلل على مقدار الفاجعة التي حلت بالمصريين وأسقطتهم في مستنقع الارتهان الأجنبي.
توسع الخديو إسماعيل أكثر في الاقتراض والإنفاق ببذخ شديد حتى انتهى عصره بديون وصلت إلى 126 مليون جنيه إسترليني، وهو رقم ضخم جدًا بحسابات تلك الفترة، وفي عام 1876م أفلست مصر وأصبحت غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، وتم تعيين مراقبين أجانب في الحكومة المصرية لمراقبة الإيرادات والمصروفات للحكومة المصرية، لضمان سداد الديون التي اقترضتها الحكومة المصرية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882.
ويصف السياسي والمؤرخ البريطاني ألفريد بلنت في كتابه “التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر” حال المصريين في السنوات الأخيرة من حكم إسماعيل، وما جرته عليهم سياسته المالية ومديونياته التي تحمّلها المصريون قائلاً: “كان الفلاحون في ذلك الوقت في أشد حالات الضنك، والمجاعة على أبواب الفلاحين، وكان من الأمور النادرة في تلك الأيام أن يرى الإنسان شخصًا في الحقول وعلى رأسه عمامة أو على ظهره شيء أكثر من قميص، وحتى في ضواحي القاهرة وبالأكثر في الفيوم، وغصّت مدن الأرياف في أيام الأسواق بالنساء اللاتي أتين لبيع ملابسهن وحُليهن الفضية للمُرابين الأروام لأن جامعي الضرائب كانوا في قراهن والكرباج مُشهر في أيديهم، فابتعن مصوغاتهن الزهيدة وأصغين إلى قصصهن واشتركنا معهن في استنزال اللعنات على الحكومة التي جعلتهن عرايا”.
تبدو تلك الحالة من الفقر المدقع الذي أصاب المصريين في سنوات حكم إسماعيل مخيمة على عصر السيسي، فمحدودو الدخل يزداد وضعهم سوءًا ويزداد حجم تلك الفئة، حيث تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن 1.5 مليون أسرة سقطت تحت خط الفقر في 2015 فقط، وارتفعت نسبة الفقراء إلى 27.8% عام 2015، مقابل 26.3% في 2013، كما أنه مع كبر حجم تلك الطبقة وارتفاع الأسعار بشكل جنوني يفوق عدة مرات مستوى الزيادة في الأجور، فإن تلك الطبقة تتجه بمرور الوقت من درجة الفقر إلى مستوى الفقر المدقع.
ولأن مقابل كل قرض تمنحه مؤسسة مالية دولية هناك دائمًا شروط عادة ما تكون مجحفة، وتكاد تكون محفوظة عن ظهر قلب، يعيش المواطن المصري اليوم ذات الأزمة التي عاشها سلفه في عصر الخديوي إسماعيل، فكل من السيسي وإسماعيل أوقعا مصر في مستنقع الديون الخارجية حيث اضطر كلاهما إلى رهن القرار السياسي لمجموعات سياسية غربية وإقليمية تتلاعب في اقتصاد مصر ومن ثم أمنها الاجتماعي، وكلاهما انخفضت شعبيتهما بسبب تلك الحالة الاقتصادية البائسة التي عاشها المصريون.
شهية الاستدانة
ليس سرًا الثمن الباهظ الذي تدفعه عادة الدولة التي تلجأ إلى صندوق النقد الدولي وشروطه القاسية، شروطًا فجرت في بلدان عديدة مظاهرات وحركات احتجاجية، ورغم أن الدين العام لمصر تجاوز 100% من ناتجها المحلي، فإن محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر أكد أكثر من مرة أن مستويات الدين الخارجي وخدمته لا تدعو للقلق على الإطلاق.
يترتب على هذا الدَّين فوائد تجاوزت سقف 20 مليار دولار، وكلما زاد الدين زادت الفوائد وتآكلت الزيادة في الإنتاج المحلي وزاد الفقر
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وفي خطوة وُصفت بأنها ضربة موجعة لمحدودي الدخل، اضطرت مصر إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي الذي فرض حزمة من الشروط نظير تقديم القرض على دفعات تنتهي آخرها في منتصف عام 2019، هذه الشروط التي تم تنفيذ أغلبها حتى الآن هي تعويم سعر الجنيه المصري، وإلغاء دعم الكهرباء والمحروقات، ورفع الدعم عن السلع والخدمات، وزيادة الحصيلة الضريبية للحد من الاقتراض الداخلي، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وخفض عدد العاملين بها.
ويأتي هذا وسط تخوفات أن ينتهي الحال بمصر كما حدث خلال فترة حكم الخديوي اسماعيل، فقد قام السيسي بأولى خطوات إسماعيل بعد أن تنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، مقابل أموال السعودية، تمامًا كما فعل الخديوي إسماعيل لتسديد فاتورة الديون بإهدار استقلال الدولة الذي نالته على يد جده محمد علي في عام 1807 بسبب الإنفاق المسرف وترسيخ الاعتماد على المساعدات الخارجية، فاضطر لبيع أسهم مِصر في قناة السويس عام 1875 لتغطية العجز في ميزانيته.
وعندما تبين أن ذلك لم يكن كافيًا لوقف النزيف المالي، أنشأ الدائنون الأوروبيون لجنة لضمان السداد، وبحلول عام 1877، كان أكثر من 60% من إيرادات مِصر مكرسة لخدمة هذا الدَّيْن، وفي عام 1882، تولى البريطانيون السيطرة على البلاد لحماية استثماراتهم.
وتؤكد البيانات الرسمية أن حجم الديَّن تضاعف 5 مرات منذ 2011، وزاد بشكل كبير في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي منذ مجيئه عام 2014، ورغم المنح التي تلقاها الاقتصاد المصري من دول الخليج العربي وقُدرت بنحو 30 مليار دولار، ارتفعت الديون الأجنبية، وبحسب تقرير البنك المركزي عن شهر مارس/آذار 2016، ارتفعت ديون مصر الداخلية إلى أكثر من 2.5 تريليون جنيه مصري في منتصف عام 2016، ومعها ارتفعت الديون الخارجية لتصل إلى أرقام غير مسبوقة (53 مليار دولار) نتيجة الإسراف في قبول الودائع والقروض.
فبخلاف اتفاق الإدارة المصرية على قرض روسي إنشاء المحطة النووية المصرية بقيمة 25 مليار دولار، والاتفاق العسكري غير المعلوم بدقة، و64 مليار جنيه أهدرت في شق تفريعة جديدة لقناة السويس، ارتفع حجم الديون الخارجية إلى أكثر من 70 مليار دولار أمريكي، ولا تووقف الإدارة المصرية عن تلقي المزيد مليارات الدولارات في شكل قروض كل يوم، ليصل في النهاية حجم الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية إلى أقل من 18 مليار دولار معظمها من الودائع، مما لا يكفي أكثر من 3 أشهر لسد حاجات مصر من الواردات.
اجتماع السيسي مع بعثة صندوق النقد
وفي العام التالي، تجاوز إجمالي الدين العام الخارجي والداخلي من حيث القيمة الإنتاج المحلي الإجمالي للبلاد، منها قرابة 80 مليار دولار ديونًا خارجية بعدما كانت 46.1 مليار دولار عام 2014؛ أي أنه وخلال 3 أعوام فقط تضاعف الدين الخارجي بنسبة ارتفاع قياسية أوصلت مصر إلى حد الخطر وفق تحذيرات الخبراء.
هذا ما تقوله الأرقام، فقد يترتب على هذا الدَّين فوائد تجاوزت سقف 20 مليار دولار، وكلما زاد الدين زادت الفوائد وتآكلت الزيادة في الإنتاج المحلي وزاد الفقر، وهذا يعني أن مصر أوغلت فعلاً في أرض مجهولة، وفق ترجمته خبراء لأرقام واقع البلاد الاقتصادي، واقع من خصائصه أنه يؤثر على جميع المستويات ويرخي بظلاله الثقيلة على شتى النواحي الاجتماعية والأمنية والسياسية.
وفي تقرير نشره مركز كارنيغي للأبحاث، تحت عنون “التحديات أمام الاقتصاد المصري”، يرى برندان ميجان أن واحدة من أخطر العقبات التي تواجه هذا الاقتصاد تتمثل في التراكم السريع للديون، لا سيما الديون بالعملات الأجنبية، فوفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، سوف يبلغ مجموع معدل الديون إلى إجمالي الناتج المحلي في مصر، الذي يشمل الديون بالعملة المحلية والعملات الأجنبية على السواء، 101.2% بحلول أواخر العام 2017.
كشف وزير المالية محمد معيط أن فوائد وأقساط الديون تناهز نحو 800 مليار جنيه (45.2 مليار دولار) في موازنة العام المالي 2018-2019، بواقع 541 مليار جنيه فوائد، و246 مليار جنيه أقساط مستحقة السداد
ومع مرور الوقت تتفاقم أزمة الديون، حيث أظهرت بيانات وزارة المالية المصرية أن فوائد الديون والأقساط المستحقة تلتهم أكثر من 80% من الإيرادات العامة للدولة خلال العام المالي الحاليّ، وهي النسبة الأعلى في تاريخ الموازنات المصرية، بعد أن تسببت عمليات الاقتراض الواسعة خلال السنوات الأربعة الماضية في الوصول بالدين العام إلى ما يقرب من 3 أضعاف ما قبل تلك السنوات.
وكشف وزير المالية، محمد معيط، عن أن فوائد وأقساط الديون تناهز نحو 800 مليار جنيه (45.2 مليار دولار) في موازنة العام المالي 2018-2019، بواقع 541 مليار جنيه فوائد، و246 مليار جنيه أقساط مستحقة السداد، وإذا استمر الدين الخارجي بنفس متوسط معدل الزيادة السنوية الأخيرة، فإنه في خلال ثلاث سنوات أو أقل سيتجاوز الدين الخارجي 100 مليار دولار.
هكذا كانت ثقافة الاقتراض والاستهلاك نمطًا تربى عليه الحاكمان، فضلاً عن انعدام الرقابة المجتمعية على تصرفات الحاكم، فقد استغل كل منهما فساد الطبقة البيروقراطية بالرشوة والهدايا ليحقق مآربه كحاكم مطلق لمصر، وكان لهذا الأمر أثره الوخيم على مستقبل الحياة السياسية والأوضاع الاقتصادية للمصريين لا سيما مع وجود طبقة من المنتفعين والمأجورين من أفاقي الديون، الذين أعملوا الحيلة والخداع فأغنتهم البلاد، وفتحت عليهم خيراتها على حساب فلاحيها المعدمين وموظفيها الفقراء.
تحتاج مصر إذًا إلى أقل من سد عالٍ ينجيها من الغرق في الديون واجتياحها من جانب طوفانات تراكم المشكلات الاقتصادية، وتحتاج البلاد إلى الشفافية والإجابات الواضحة والتوقف عن توظيف الاقتصاد في حفلات الاستعراض السياسي وكشف حساب عما يرد من مساعدات ووجهات إنفاقها وإلى أين تذهب البلاد وسط كل هذا، وفي المحصلة ما الذي تحقق ولم يتحقق من وعود السيسي منذ انقلابه؟ أسئلة مشروعة تطرح في بلد لم ينفض بعد غبار ثورة كان أحد شعاراتها “عيش حرية عدالة اجتماعية”.
ومع سياسات الرأسمالية المتوحشة التي يتباها النظام المصري الحالي واعتقاده أن السياسات النقدية وحدها يمكن أن تحل المشكلات الاقتصادية ومع إنهاء دعم الطاقة وارتفاع الضرائب التي يدفعها المستهلك مباشرة وتحرير سعر صرف الجنيه، تظهر أزمة مستحيلة الحل على الوجوه، فتنهار الطبقة الوسطى، ويُدفن الجنيه المصري، وتُولد من رُفاته طبقات مصرية جيدية؛ طبقة في الأعلى تحكم مصر ومستعدة لقتل بقية الشعب من أجل أن تحافظ على مستوى رفاهيتها، وطبقة في الأدنى أشبة بـ”الكشري” المصري؛ خليط من كل العصور والثقافات والأفكار، طبقة تُباع ولا تُشترى، وفي ميزان الحضارات تساوي صفرًا، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره، تعددت الأسباب والموت واحد.