قبل عامين فقط، وقف نائب رئيس قطاع هندسة البرمجيات في شركة أبل، كريغ فيديريغي، في مؤتمر أبل السنوي لعرض المنتجات الجديدة، وعندما وصل إلى “أيفون اكس” مسك الهاتف وحدق إليه، ففتح قفل الجهاز دون بصمة إصبع أو إدخال كلمة المرور، وعقب دهشة الجمهور بهذا التطور التكنولوجي، انهالت الأسئلة حول ما إذا كان يمكن فتح الهاتف في الظلام وكيفية تخزين بيانات هذه التقنية واحتمالية مشاركتها أو بيعها مع الحكومات لأغراض معينة.
ومنذ ذاك الوقت، لم تهدأ النقاشات المتكررة بين منظمات حقوق الإنسان وخبراء الأمن السيبراني وبين شركات التكنولوجيا مثل جوجل وأمازون ومايكروسوفت التي أعلنت مؤخرًا عن عزمها لبيع هذه التقنية للحكومات والسلطات الأمنية بسبب مبادئ الخصوصية والأمن.
ما الذي دفع شركات التكنولوجيا إلى بيع بيانات بصمة الوجه إلى الحكومات؟
لطالما راقبت مؤسسات حقوق الإنسان وخبراء الخصوصية شركات التقنية ووضعت أدواتهم وخدماتهم محط للتدقيق والمناقشة، ومن أهم ما طالبت به على مر السنوات الأخيرة هو احترام خصوصية المستخدم وعدم استغلال بياناته لأغراض تجارية أو سياسية، إلا أن السلطات الأمنية نجحت في استمالة شركات التقنية الكبرى إلى صفها وسخرت أدواتها لتقوية وحماية منظومتها.
ترى المنظمات الحقوقية أن هذه التقنية أداة جديدة لاستهداف المعارضين السياسيين والمهاجرين وأن أولئك الذين اعتادوا على بصمة الوجه سيكونوا أكثر عرضة للتعرف الأنظمة على وجوههم
إذ أشارت شركة “مايكروسوفت” العملاقة مؤخرًا أنها تؤيد فكرة مشاركة البيانات مع الحكومات والتعاون معها بهذا الشأن على اعتبار أنها تساعد في الاستخدامات الطبية كتلك التي ينفذها المعهد القومي لأبحاث الجينوم البشري للتعرف على الوجه لتشخيص متلازمة “دي جورج”، عدا عن أنها ساعدت بالفعل في تعقب أماكن نحو 5 آلاف طفل مفقود.
في الجهة المقابلة، ترى المنظمات الحقوقية أن هذه التقنية أداة جديدة لاستهداف المعارضين السياسيين والمهاجرين وأن أولئك الذين اعتادوا على بصمة الوجه بدلًا من الطرق التقليدية سيكونوا أكثر عرضة للتعرف الأنظمة على وجوههم، ما يعني أنهم يتمتعون بمعايير أقل من الخصوصية والأمن، وللحد من هذا التهديد، تحالفت أكثر من 90 جماعة مدنية ومنظمة حقوق لحث هذه الشركات على وقف بيع بيانات الوجوه لمراكز الشرطة والدوائر الحكومية.
تلقت مايكروسوفت انتقادات بسبب تعاونها مع إدارة الهجرة في تعقب حركة المهاجرين، فما كان من الشركة إلا أن تصدر بياناً في اليوم التالي يصف هذه السياسة بـ”القاسية” و”المسيئة”.
إلى جانب ذلك، تطالب بالتوقف عن تقديم الخدمات السحابية لشركة “بلانتير” التي قامت سابقًا بتوفير معلومات لوكالة الجمارك وحماية الحدود الأمريكية للمساعدة في تتبع المهاجرين، وذلك ضمن الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي دعا إلى إنشاء قاعدة بيانات إجبارية لتعقب المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية، علمًا أن هذه التكنولوجيا قد تساهم في زيادة أشكال التحيز ضد الأقليات وتمارس عليهم أنواع مختلفة من التمييز والقمع.
فحين فرضت الولايات المتحدة سياسة الهجرة التي تتبعها إدارة ترامب والتي فصلت الأطفال عن عائلاتهم عندما عبروا الحدود الأمريكية بطريقة غير شرعية، تلقت مايكروسوفت انتقادات بسبب تعاونها مع إدارة الهجرة في تعقب حركة المهاجرين، فما كان من الشركة إلا أن تصدر بياناً في اليوم التالي يصف هذه السياسة بـ”القاسية” و”المسيئة”.
في الجهة المقابلة، يرى المؤيدون أنها أداة مهمة لتحديد المجرمين، لكن خبراء الحريات المدنية قد حذروا من أنها يمكن أن تقوم بمراقبة جماعية مما يعوق قدرة الناس على الانضمام إلى الاحتجاجات السياسية أو ممارسة نشاطاتهم اليومية بحرية تامة.
برر رئيس شركة مايكروسوفت التعاون بين الحكومة وشركته عبر مقارنة التكنولوجيا بمنتجات مثل الأدوية والسيارات التي لا بد أن تخضع لرقابة شديدة خوفًا من التبعات الاجتماعية للإمكانيات التكنولوجية واحتمالية إساءة استخدامها
على سبيل المثال استخدمت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية خدمة “إعادة التعريف” للتعرف على الحاضرين في حفل الزفاف الملكي للأمير هاري. مع العلم أن شركة فيسبوك تعرضت سابقًا لشكوى في هذا الخصوص لأنها استخدمت هذه الخاصية دون الحصول على إذن المستخدمين، وهو ما يحظره قانون حماية البيانات الصادر عن الاتحاد الأوروبي.
في هذا السياق يحاول برادفورد سميث، رئيس شركة مايكروسوفت تبرير التعاون بين الحكومة وشركته عبر مقارنة التكنولوجيا بمنتجات مثل الأدوية والسيارات التي لا بد أن تخضع لرقابة شديدة خوفًا من التبعات الاجتماعية للإمكانيات التكنولوجية واحتمالية إساءة استخدامها، مضيفًا: “نحن نعيش في أمة من القوانين والحكومة بحاجة إلى لعب دور مهم في تنظيم تكنولوجيا التعرف على الوجه”، مشيرًا إلى القلق من هذا التحالف ولكنه يعاود استدراك نفسه قائلًا: “ولكن ذلك أفضل من عالم خال من المعايير القانونية”.
تأتي هذه الطواعية والمطالبة بالتنظيم الحكومي للمنتجات التكنولوجية من السيد سميث في الوقت الذي يواجه فيه وادي السيليكون انتقادات شديدة في الأشهرة الأخيرة بسبب دوره في نشر معلومات مضللة خلال انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2016 واستغلال بيانات المستخدمين الشخصية لتأثير على مواقفهم وتغير آرائهم وذلك ما دفع العديد من الشركات التكنولوجية إلى الانفتاح على التعاون مع الحكومات. علمًا أنه يتم بيع هذه البرامج من قبل مايكروسوفت وأمازون للمستهلكين الافتراضيين.
وهذا جزء من الاقتصاد الجديد الذي تحدثت عنه شوشانا زوبوف من كلية هارفرد لإدارة أعمال في كتابها “عصر رأسمالية الرقابة”، والذي أشارت إليه كيت أونيل عندما كتبت على حسابها في تويتر: “إن البشر هم أغنى مصادر البيانات لغالبية شركات التكنولوجيا الناشئة في العالم. علينا معرفة ذلك والمضي في استخدامها بحذر وحكمة”، وذلك بعد أن انتقدت تحدي الـ”عشر سنوات” الذي انتشر مؤخرًا على فيسبوك والذي لم يكن سوى حيلة أخرى لتدريب خوارزميات تمييز الوجوه على التقدم في العمر وتحديد الأعمار، بحسب قولها.
في نهاية المطاف، قد لا تكون بصمة الوجه تختلف كثيرًا عن بصمة الإصبع ولكنه من المؤكد أشبه للمستحيل أن يتجنب المستخدمين المراقبة المستهدفة والمستمرة، فمنذ اللحظة التي نقرر فيها أن نتفاعل مع هذا العالم الافتراضي فإننا بطريقة أو بأخرى نساعد شركات التكنولوجيا والجهات المعنية في تتبع سلوكياتنا الرقمية وتحديد هويتنا وصورتنا، والتي هي أكثر الأمور خصوصية وحميمية بالنسبة إلينا من أي شيء آخر، ولكنها مع ذلك قد تغدو جزء من الإجراءات القانونية.