أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هامش العشاء السنوي أمام المجلس التنسيقي للمنظمات الأرمنية في فرنسا، أمس الثلاثاء، باعتبار الرابع والعشرين من أبريل/نيسان يوما وطنيا لإحياء ذكرى ما سماه ” الإبادة الأرمنية”، في خطوة أثارت الكثير من الجدل لاسيما وأن هذه القضية تثير خلافا حادًا بين تركيا وعدد من الدول الأوروبية طيلة العقود الماضية.
ماكرون بهذا الإعلان الذي يأتي في وقت تشهد فيه شوارع بلاده موجات غاضبة من السترات الصفراء التي تطالب برحيله، قد وفًى بوعده الانتخابي الذي قطعه على نفسه بوضع قتل الأرمن بين عامي 1915 و1917، التي اعترفت بها فرنسا في 2001 على الروزنامة الرسمية الفرنسية.
القرار أثار استياء أنقرة التي قالت في بيان للمتحدث باسم الرئاسة التركية إنها ” تدين بشدة قرار الرئيس الفرنسي إعلان 24 أبريل يوما لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن “، وأضافت أن هذه المسألة “أثارت خلافات بين تركيا ودول بالاتحاد الأوروبي”
يذكر أن تركيا تقر بمقتل كثيرين من الأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية خلال اشتباكات مع القوات العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى لكنها في الوقت ذاته ترفض وصف ما حدث بـ “الإبادة الجماعية” المتعمدة كما تعزف بعض وسائل الإعلام الأوروبية، وتشكك في تقديرات أعداد القتلى وتنفي أن تكون أعمال القتل ممنهجة.
مسألة خلافية
تعد مسألة الإبادة الأرمنية بين عامي 1915و1917 من المسائل الخلافية بين تركيًا وأوروبا، إذ تزعم أرمينيا إبادة ما يقرب من مليون ونصف المليون أرميني على يد الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، بينما ترفض أنقرة تلك المزاعم، في الوقت الذي تواجه فيه ضغوطا من الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية للاعتراف بحرب الإبادة ضد الأرمن.
تركيا تتشبث بموقفها الرافض للادعاءات الأرمينية كذلك الاعتراف بتلك المذابح، كما أنها ترفض المطالب الأرمنية بفتح الحدود المغلقة بين البلدين منذ العام 1993 وتعرقل عملية تطبيع العلاقات بينهما، حسبما أشار البروفسور أمر الله إيشلر نائب رئيس الوزراء التركي السابق والنائب في البرلمان التركي عن حزب العدالة والتنمية.
أمر الله وخلال استضافته في برنامج “بلا حدود” المقدمة على شاشة “الجزيرة” نفى وقوع أي إبادة من قبل الأتراك ضد الأرمن، مفجرًا مفاجأة من العيار الثقيل بقوله إن الأرمن هم من قاموا بمجازر ضد الأتراك والمسلمين بصفة عامة على الأراضي التركية خاصة في الأناضول شرق تركيا وفي الجنوب الشرقي للبلاد.
مستشار رئيس الوزراء التركي الأسبق كشف أنه في بداية الأمر كان الإدعاء بمقتل عشرين ألفا فقط من الأرمن وذلك عام 1918، ارتفع مع مرور الوقت وصولا إلى مليون ونصف، موضحًا أن عدد جميع الأرمن المتواجدين في الدولة العثمانية في هذه الفترة كان قرابة مليون و285 ألفا و535 شخصا حسبما تشير الإحصائيات.
ما سبق أن كتبته ووصفت فيه أحوال الأرمن، كان دعاية حرب، لأن السلطات العثمانية قد وجدت الأرمن العثمانيين يمثلون الطابور الخامس لقوات الحلفاء فقررت ترحيلهم بعيدًا عن مناطق القتال.. المؤرخ البريطاني «أرنولد توينبي»
وأضاف أنه بعد الحرب الروسية التركية عام 1878، بدأ الأرمن يشكلون اللجان والمنظمات الإرهابية التي تقوم بأعمال عنف ضد الدولة العثمانية للحصول على الاستقلال في عدد من المناطق، لافتًا إلى محاولة انفصالية وقعت في نفس العام على إثرها أسسوا جمعية الصليب الأسود في مدينة وان ثم جمعية المدافعين عن الوطن في سنة 1881 في مدينة أرضروم.
أما فيما يتعلق بالموقف التركي حيال هذه المسألة، أشار إلى أنه في عام 1919 طلبت الدولة العثمانية آنذاك من الدول الأوروبية تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، بعد ذلك في سنة 1921 أعاد مصطفى كمال أتاتورك نفس الطلب، وفي 2005 طلبت الحكومة التركية تشكيل لجنة تاريخية لتقصي هذه الحقائق وهذه الادعاءات..
وفي هذا العام – 2005- أرسل رئيس الوزراء التركي خطابا رسميا لرئيس الوزراء الأرمني لتشكيل لجنة تقصي الحقائق، لجنة مشتركة يشترك فيها العلماء من الأتراك ومن الأرمن ومن عدد من الدول الأخرى، لأن هذه القضية قضية تاريخية حلها في يد المؤرخين والعلماء والأكاديميين، وذلك عن طريق البحث في أرشيفات الدولة العثمانية لمعرفة ما حدث بالتفصيل.
وأختتم آمر الله حديثه بأن الحل لن يكون إلا في فتح تحقيق عاجل في هذه المسألة، فهم يدعون ونحن نرفض، الحل عن طريق لجنة تقصي الحقائق فقط، المؤرخون يبحثون ثم يعلنون النتيجة، وتابع :نحن كتركيا مستعدون لقبول النتيجة مهما كانت النتيجة، لكن هل الأرمن أصحاب الادعاءات مستعدون لقبول النتيجة أيضًا؟
تركيا تعترف بالألم
“معاناة الأرمن حقيقة لا يمكن إنكارها، لقد اقتُلع الآلاف من الأبرياء من بيوتهم، وتم إرسالهم إلى سوريا وأجزاء أخرى من الإمبراطورية العثمانية، وفقد الكثيرون حياتهم أو حياة ذويهم، لسنوات عديدة كان من المحرمات أن نعترف بهذه الحقيقة في تركيا، لكن الأمور تغيرت عن ذي قبل”.. بهذه الكلمات استهل إبراهيم كالين، كبير مستشاري الرئيس التركي والناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية مقاله الذي عنون له بـ ” الأتراك والأرمن والذكريات المختلفة لـ 24 أبريل”
كالين في مقاله الذي ترجمه “نون بوست” أضاف إلى انه في أبريل 1915، أسفر الهجوم الروسي على الحدود الشرقية لتركيا بالتعاون مع وحدات الطاشناق الأرمنية عن سقوط العديد من المدن بما في ذلك مدينة “فان” المهمة إستراتيجيًا بالقرب من الحدود الروسية” ، مضيفًا أنه ومن أجل منع انهيار الجبهة الشرقية، قررت لجنة حكومة الاتحاد والترقي أن تقوم بنقل أعداد كبيرة من الأرمن كإجراء لمكافحة التمرد.
كما أشار إلى أنه وفي 2014 أعترف الرئيس رجب طيب أردوغان، والذي كان رئيس الوزراء في العام الماضي، بالألم الذي تعرض له الأرمن، كما أعرب عن تعازيه لأبنائهم وأحفادهم، موضحًا أن ما حدث لم يكن مذبحة جماعية كما يروج لها البعض من السبعينات، كونها تفتقد لعنصرين أساسيين: أدلة تاريخية وسند قانوني. ادعاء بابا الفاتيكان والبرلمان الأوروبي بأن عملية “القتل الجماعي للأرمن يعتبر أول إبادة جماعية في القرن العشرين” يراد له أن يقدم لنا على أنه حقيقة واقعة بدون أي عودة للأرشيفات والمخطوطات أو الأدلة القانونية والتاريخية.
دعاية حرب
في مقال تحت عنوان ” تاريخ ملفق: لماذا يجب أن نعيد النظر في مذابح الأرمن؟” تطرق الكاتب الصحفي أحمد عبد الوهاب الشرقاوي إلى عدد من الشهادات الحية الموثقة على حقيقة الدوافع الأوروبية وراء تبني فكرة حدوث إبادة جماعية للأرمن على أيدي العثمانيين.
الكاتب كشف أن ما حدث لا يعدوا كونه دعاية حرب لا أكثر، وهو ما أكده المؤرخ البريطاني المعروف «أرنولد توينبي» (1889-1975)، في رسالته التي كتبها لوالدته في 22 يونيو/ حزيران 1912 بأنه يرغب «رؤية الأتراك يطردون من أوروبا، لأنهم طغاة مستبدون، ولأنهم أيضًا كسالى وأغبياء» ثم بعد بداية الحرب كتب لوالدته في رسالة أخرى: «لن نهدأ حتى تكون النهاية، لن نترك قطعة من تركيا إلا شظايا»
ماكرون بهذا الإعلان ربما يعمق الخلافات بين البلدين خاصة في ظل تباين وجهات النظر حيال العديد من القضايا الإقليمية والدولية.
وفي مذكراته «معارفي» الصادرة بالإنجليزية في لندن سنة 1967 أماط «توينبي» اللثام بشكل كامل عن حقيقة المخطط قائلا: ما سبق أن كتبته ووصفت فيه أحوال الأرمن، كان دعاية حرب، لأن السلطات العثمانية قد وجدت الأرمن العثمانيين يمثلون الطابور الخامس لقوات الحلفاء فقررت ترحيلهم بعيدًا عن مناطق القتال، وأن هذا الإجراء هو إجراء أمني مشروع تتخذه غيرها من الدول في مثل هذه الظروف.
يذكر أن المؤرخ الإنجليزي كان قد أصدر كتابا في لندن عام 1932 بعنوان «المسألة الغربية في اليونان وتركيا» ذكر فيه أن ما كتب عن التنديد بأحداث سنة 1915 في الدولة العثمانية ضد الأرمن هو دعاية حرب تشوبها المبالغة، وهي الحقيقة التي أعاد تأكيدها بعد 25عامًا من كتابه الأول.
تباين في الأراء بشأن أعداد قتلى الأرمن في الحرب العالمية الأولى
العلاقات التركية الفرنسية إلى أين؟
الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين في بيانه المندد بهذه الخطوة رفض ما أسماه ” محاولات ماكرون الذي يواجه مشاكل سياسية في بلاده، تحويل وقائع تاريخية إلى قضية سياسية لإنقاذ الوضع”، حيث أن توقيت الإعلان عن هذا القرار الذي تزامن مع تصاعد التيار المعارض لسياسات الرئيس الفرنسي أثار حالة من التساؤل.
البعض ذهب في تفسير خطوة ماكرون بأنها محاولة لاستعادة جزءًا من شعبيته التي تراجعت بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة وذلك عبر العزف على وعود قديمة يغازل من خلالها أرمينيا وبعض دول أوروبا التي كان لها السبق في هذا المضمار، مستغلا في ذلك الأحداث التاريخية المثيرة للجدل وتوظيفها سياسيًا.
الرئيس الفرنسي ورغم تصريحاته بأنه أبلغ الرئيس التركي طيب أردوغان بالقرار مسبقا، مشددًا على رغبته في أن يبقي حوارا مفتوحا مع تركيا في ظل وجود بعض نقاط الاتفاق المشتركة كضرورة الانتقال السياسي في سوريا، إلا أنه بهذا الإعلان ربما يعمق الخلافات بين البلدين خاصة في ظل تباين وجهات النظر حيال العديد من القضايا الإقليمية والدولية.
لم تكن فرنسا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي اعترفت بمذابح الأرمن، فقد سبقتها في ذلك هولندا في 2018 ومن قبلها ألمانيا في 2015، ما ساهم بشكل كبير في توتر العلاقات بين تركيا وتلك الدول، في الوقت الذي يسعى فيه الطرفان إلى إصلاح العلاقات بعد موجة الخلافات التي شهدتها السنوات الأخيرة.