توافد الملايين إلى النصف الشمالي من الكرة الأرضية بحثًا عن الحلم الأمريكي والوعد بحياة أفضل، وكان العرب دائمًا هناك، وطرقوا أبوابها منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومع مرور السنوات والعقود، أصبحوا جزءًا من القصة التي تستطيع أن تقرأها على الملامح والوجوه، ومثل كل قصة، هناك صفحات وفصول، أما العنوان فلا يوجد ما يختزله سوى كلمة واحدة: ميشيغان.
وتروي هذه الولاية الأمريكية التي تعدّ معقلًا للمجتمعات العربية الأمريكية والمسلمة، فصولًا مهمة عن قصة العرب في الولايات المتحدة، فهي ليست كأي ولاية أمريكية أخرى، بل هي مركز للحياة الثقافية والاقتصادية والسياسية للأمريكيين العرب، وكما يصفها البعض “قبلة العرب وعاصمتهم في أمريكا” وكلمة السر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
تاريخ ورحلة العرب في ميشيغان
تعدّ ميشيغان واحدة من 10 ولايات أمريكية تضم أكثر من 80% من العرب والمسلمين الأمريكيين، ومن أبرزها نيويورك وكاليفورنيا وإلينوي ونيوجيرسي وتكساس، وبحسب مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، يختار المسلمون المناطق الحضرية والولايات ذات التنوع الثقافي الكبير، ويعيش حوالي واحد من كل 3 منهم في واحدة من أكبر 6 مناطق حضرية في البلاد، بحثًا عن فرص أفضل للعمل والتعليم والحرية الدينية، لكن كيف وصل هؤلاء إلى هناك؟
دخل المسلمون الأمريكيتين منذ بداية القرن الرابع عشر، بحسب بعض المصادر التاريخية، وشكّلوا نحو 15% من الأفارقة الذي نقلهم الإسبان قسرًا إلى أمريكا الشمالية، وبين عامي 1878 و1924 وصلت الدفعة الأكبر من المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط، خاصة من سوريا ولبنان، مدفوعة بنهضة صناعة السيارات التي استعانت بالمسلمين والأفارقة، وتحديدًا في ولاية ميشيغان، والتي اجتذبت مهاجرين من شتى أرجاء العالم، ووصلت الموجة الثانية بعد إعلان تأسيس “إسرائيل” عام 1948 والحروب المتلاحقة التي اشتعلت في الشرق الأوسط، والتي خلّفت أوضاعًا اقتصادية متردية.
واستقر المسلمون الأوائل في هايلاند بارك بالقرب من مصنع فورد حيث عمل العديد منهم، ووصل الفلسطينيون الأوائل بين عامي 1908 و1913، وكانوا مسلمين، وجاء العراقيون لأول مرة إلى الولاية بين عامي 1910 و1912، وأسّس اليمنيون وجودًا حقيقيًا في منطقة ديترويت بين عامي 1920 و1925، رغم وصول بعضهم إلى هناك في وقت مبكر من عام 1900.
لا تصنّف الإحصاءات الرسمية في الولايات الأمريكية العرب كجماعة عرقية أو مجموعة سكانية، وبالتالي لا توجد أرقام رسمية بالنسبة إلى العرب، لكن وفقًا للإحصاء الذي جرى عام 2020، فإن عدد الأمريكيين من أصول عربية فقط يقترب من 2.7 مليون شخص، وينظر إليهم على أنهم أقليات قادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهناك من يضيف إليهم أيضًا أقليات أخرى قادمة من الشرق الأوسط ممثلة في إيران و”إسرائيل”، ليرتفع إجمالي العدد في تلك الحالة إلى 3.5 ملايين شخص.
الجالية اللبنانية هي الأكبر ضمن الجاليات التي تقطن الولايات المتحدة من أصول عربية، ويتجاوز عدد أبنائها 680 ألف شخص، تليها الجالية المصرية التي تشكل حوالي 12% من الجالية العربية بعدد يقترب من 300 ألف شخص، بينما تسجّل الجاليات العراقية والسورية والفلسطينية والأردنية والمغربية أعدادًا لا تتجاوز 100 ألف شخص لكل جالية.
ونظرًا إلى عدم الاعتراف رسميًا بالأمريكيين العرب كأقلية فيدرالية، فمن الصعب تحديد عددهم الدقيق في ميشيغان التي تحسم الانتخابات فيها عادة بفارق صغير، لكن العدد يتراوح بين 450 ألفًا و600 ألف، وعلى عكس الاعتقاد السائد فإن ميشيغان ليست الولاية التي تضم أكبر عدد من الأمريكيين العرب.
فوفقًا للمعهد العربي الأمريكي، فإن كاليفورنيا تضم أكبر عدد من المهاجرين العرب داخل حدودها، وبدلًا من ذلك يعيش في ميشيغان أكبر نسبة من الأمريكيين العرب في البلاد، وتصل إلى 3.07% مقارنة بولاية كاليفورنيا (1.87%)، ما يجعل ميشيغان أكثر ولايات الأمريكيين العرب تأثيرًا.
ومع أن نسبة الأمريكيين المسلمين وذوي الأصول العربية لا تصل إلى 2% من سكان أمريكا وفق أعلى التقديرات، فإن تأثيرهم السياسي قد يكون واضحًا في البلاد، لا سيما في الولايات المتأرجحة بين الحزبين، التي تعدّ ميشيغان واحدة منهم، وتقرر عادةً من سيكون الرئيس، فنسبة التصويت في الانتخابات بين المسلمين فيها تصل إلى 71%، وهي أعلى من المعدل الأمريكي العام للتصويت.
الوطن البديل للعرب
تروي بعض مدن ميشيغان قصة نجاح العرب في الولايات المتحدة، ومن بينها مدينة ديترويت، أكبر مدن الولاية الأمريكية وأكثرها شعبية، وموطن أحد أكبر وأقدم وأكثر المجتمعات العربية الأمريكية تنوعًا في الولايات المتحدة، وعاصمة صناعة السيارات في العالم في الخمسينيات، ومدينة المحركات كما عُرفت في ذلك الوقت، فقد انطلقت منها أشهر شركات تصنيع السيارات الأمريكية مثل فورد وجنرال موتورز وكرايسلر.
في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، اجتذبت هذه الشركات وغيرها الناس من كل مكان، وشهدت تدفقًا للعرب الباحثين عن عمل، وكان السوريون واللبنانيون أول العرب الأمريكيين الذين هاجروا إلى المدينة، حتى أصبح اليوم 54% من سكان المدينة من أصول عربية، وتتراوح التقديرات من 300 ألف إلى 350 ألف، غالبيتهم من الشرق الأوسط والعراق.
سبق ذلك أن طفت التوترات العرقية على السطح، ورفض البيض العمل مع السود، وانتقلوا من ديترويت إلى الضواحي، التي كان أبرزها مدينة ديربورن التي تعدّ، بخلاف ديترويت القريبة والتي تبعد 9 كيلومترات فقط، أكثر أمانًا وأكثر انتعاشًا اقتصاديًا من المدينة الأم المفلسة والمهجورة والتي يسودها العنف والجريمة.
هذه المدينة الواقعة في مقاطعة وين في الشمال الشرقي للولايات المتحدة يصفها البعض بـ”العاصمة العربية لأمريكا الشمالية”، حيث يشكّل العرب نسبة كبيرة من سكانها، وهي أول مدينة تسجّل بأنها ذات أكثرية عربية في الولايات المتحدة، فمن أصل عدد سكانها البالغ 110 آلاف نسمة، تعود أصول نحو 55% منهم إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بحسب تعداد أُجري في عام 2022.
ويعود تاريخ ديربورن إلى الاستعمار الفرنسي، فقد كانت في البداية مستعمرة للفرنسيين في عام 1786، ونشطت فيها الزراعة بسبب أراضيها الخصبة على طول نهري روج وسكتريل، وظلت المدينة ذات تأثير اجتماعي وسياسي محدود، وكانت ذات كثافة سكانية منخفضة، ولا يقطن فيها سوى الفلاحين.
لكن في عام 1927 شهدت تحولًا جذريًا في تاريخها، إذ اختارها المليونير هنري فورد لتأسيس مصنع شركة فورد للسيارات، وغيّر هنري -المعروف بسياساته العنصرية في توظيف غير الأمريكيين- قناعاته بهدف كسب المزيد من الأموال، فوظّف المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط، وتحديدًا سوريا وفلسطين واليمن، وبسبب ما لاحظه من إتقان العرب والتزامهم بالعمل، منحهم 5 دولارات في اليوم، وكانت تعدّ أجورًا سخية.
وبسبب مصنع فورد، توالت موجات الهجرة العربية خاصة من اليمنيين، وتحولت المدينة إلى مقر رئيسي لفورد، وأكبر موقع صناعي في العالم، ومع تزايد أعدادهم أسّس عرب ديربورن شبكة مجتمعية متكاملة شملت عشرات المخابز والمطاعم العربية الشهيرة، ومزيج حيوي وأساسي من المنظمات الخدمية والثقافية الأمريكية العربية.
وتحتضن المدينة اليوم أقدم وأكبر مسجد وأكثرها نفوذًا في أمريكا الشمالية، وهي من المدن الأمريكية القليلة التي يسمح فيها بإذاعة الآذان عبر مكبرات الصوت، وتضم المدينة أيضًا المتحف العربي الأمريكي الذي يوثق الهجرات العربية إلى البلاد.
ومثّل عام 2021 نقلة نوعية في تأثير العرب السياسي المتنامي، إذ انتخبت المدينة أول عمدة عربي من أصل لبناني هو عبد الله حمود، الشاب الثلاثيني الذي انتهج سياسة تعزيز الحضور الاجتماعي للعرب، ومن أبرز قراراته جعل عيدَي المسلمين عطلة مدفوعة الأجر لموظفي البلدية.
ورغم هذا الثقل العربي في المدينة، كان عرب ديربورن في قلب العاصفة العنصرية، وفي مرمى السياسيين ووسائل الإعلام المناهضة للعرب والمسلمين، على سبيل المثال وصف مقال مثير للجدل في صحيفة “وول ستريت جورنال” في فبراير/ شباط 2024، المدينة بـ”عاصمة الجهاد”، واتّهم بشكل مباشر سكان المدينة بارتكاب جرائم تتعلق بالإرهاب، ووصف ما يحدث فيها بـ”قضية أمن قومي” تؤثر في جميع الأمريكيين.
لم يكن هذا هجومًا عابرًا، فقد شيطن حلفاء ترامب من اليمين المتطرف ديربورن لسنوات بروايات كاذبة عن تبني المدينة للشريعة الإسلامية، والمناطق المحظورة التي لا يمكن للسلطات الوصول إليها، وأصبحت المدينة في مرمى انتقادات وهجمات ممنهجة من شخصيات يمينية أو مؤيدة لـ”إسرائيل” بسبب مظاهراتها المنددة بالحرب على غزة، ورفض سكانها، وعلى رأسهم العمدة المسلم، استقبال فريق بايدن في حملته الانتخابية بسبب سياساته الداعمة لـ”إسرائيل” وموقفه من العدوان على غزة.
ورغم هذه التحديات العنصرية، تبقى حدود ديربورن المدينة ثابتة ولا تتغير، لكنها كعاصمة للعرب الأمريكيين تتوسع باضطراد مع انتشارهم بشكل مكثف في المدن المجاورة مثل ديربورن هايتس، التي باتت مع مدن أخرى مجاورة مكانًا للسكن والعمل والحياة لآلاف من العرب الأمريكيين، وقد أدّى هذا السعي إلى التركز في مناطق معيّنة إلى ازدهار سوق العقارات وارتفاع أسعار المساكن، في وقت يتسم فيه السوق العقاري عمومًا بالركود.
سياسيًا، تبقى ديربورن على رأس ما يسمّى “حزام الصدأ”، وهو مصطلح يشير إلى الولايات المتأرجحة التي تمثل واحدة من أهم ساحات المعركة في الانتخابات الأمريكية، ويعدّ الفوز ببعضها أمرًا بالغ الأهمية للوصول إلى البيت الأبيض، ويسعى المرشحون الرئاسيون إلى كسب ودّ ناخبيها أولًا، خاصة أن الأمريكيين ذوي الأصول عربية يمثلون نصف عدد المسجلين للتصويت في الانتخابات العامة.
ومنذ سنوات، لعب أعضاء الدائرة الانتخابية العربية والمسلمة في ديربورن دورًا فعّالًا في التطورات حول انتخابات 2024، فعلى سبيل المثال يُنظر إلى هذه المدينة الآن على نطاق واسع على أنها مركز ما يعرف بحركات “اتركوا هاريس” و”غير ملتزم”، التي استطاعت جمع أصوات 100 ألف ناخب في ميشيغان المتأرجحة، وتشمل مطالبها الرئيسية وقف إطلاق النار في غزة ولبنان، إلى جانب حظر المساعدات الأمريكية والأسلحة المتجهة إلى “إسرائيل”.
وحتى حملة ترامب ونائبه جيه دي فانس حاولت مؤخرًا استمالة الناخبين الأمريكيين من أصل عربي في ديربورن، ودعت إلى اجتماعات كثيرة قبل أيام مع عدة شخصيات هامة، وزار ترامب المدينة بالفعل في دورة الانتخابات هذه، مع التركيز على عدم الرضا عن مواقف الحزب الديمقراطي بشأن غزة ولبنان، لكنها سعت أيضًا إلى الاستفادة من المواقف المحافظة اجتماعيًا للعديد من الأمريكيين من أصل عربي من الجيلَين الأول والثاني.
وبين ديربون وديترويت ومدن ميشيغان الأخرى، يقدر عدد الناخبين الأمريكيين العرب المسجلين في الولاية، والذين أصبحت أعدادهم أكبر وأكثر أهمية، بحوالي 392 ألفًا، وفق بيانات المعهد العربي الأمريكي، وهو أكبر حضور عربي بين الولايات الأمريكية التي يصل إجمالي الأمريكيون العرب الذين يحق لهم التصويت إلى مليوني ناخب، ما يجعل الكتلة العربية عاملًا حاسمًا كان له تأثير حاسم في توجيه نتائج الانتخابات الأخيرة، وتغيير هوية الرئيس الجديد للولايات المتحدة.
العودة إلى الجمهوريين.. لماذا هذه المرة؟
لمعرفة مدى تأثير الأمريكيين العرب في السياسة الأمريكية، لا سيما الانتخابات الرئاسية، علينا العودة إلى عام 1984، عندما كان عدد سكان أمريكا من أصول عربية يقدر بحوالي مليونين، وكان حاكم ولايتي نيوهامبشير وأوريغون من أصول عربية، بالإضافة إلى عضوين في مجلس الشيوخ و3 أعضاء في مجلس النواب.
في ذلك العام، شهدت الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة منافسة محتدمة، وشهدت أيضًا أول ظهور للأمريكيين العرب ككتلة انتخابية يسعى المرشحون لكسب ودّها، فقد عيّن المرشح جيسي جاكسون منسقة خاصة للتواصل مع الأمريكيين العرب.
في المقابل، أعلنت مجموعات تمثل المجتمع العربي تأييدها لجاكسون، وهاجمت الرابطة الوطنية للأمريكيين العرب منافسي جاكسون البارزين، غاري هارت وولتر مونديل، بسبب مواقفهما المؤيدة لـ”إسرائيل”، وفي النهاية ربح جاكسون أصوات 4 ولايات فقط، وذهبت بطاقة الترشح الديمقراطية لمونديل الذي خسر السباق الرئاسي أمام المرشح الجمهوري رونالد ريغان.
وتشير الأرقام إلى أن الناخب المسلم يتجنّب التحزب والتأييد المطلق لتيار واحد في الولايات المتحدة، ولا يحدد موقفه على أساس قضية واحدة فقط، بل يسعى دائمًا لأن يكون صوته في خدمة القضايا والقيم التي يتبناها.
في انتخابات عام 2000 مثلًا، سعى المرشح الجمهوري جورج بوش الابن للفوز بأصوات ولايات متأرجحة مثل ميشيغان التي صوتت للمرشح الديمقراطي بيل كلينتون بين عامي 1992 و1996، فقرر حينها الاجتماع بقادة المجتمع الأمريكي العربي في الولاية لاستمالة أصواتهم، ورحّبوا به وبمساعديه في حملته بأذرع مفتوحة، وكانت تلك أول مرة يجتمع فيها مرشح رئاسي بممثلين عن الأمريكيين العرب لكسب تأييدهم.
في نهاية المطاف، خسر بوش ولاية ميشيغان لكنه فاز بتأييد الأمريكيين من أصل عربي، ثم فاز بانتخابات الرئاسة، وحسب استطلاع للرأي، فقد حصد أصوات 72% من الناخبين ذوي الأصول العربي، وذلك لأنه كان حريصًا على لقاء قادة الجاليات الإسلامية والعربية، ولأن منافسه الديمقراطي حينها آل جور كان من أشد داعمي “إسرائيل”، ويعدُ بتقديم تنازلات تاريخية للاحتلال.
لكن سياسات الجمهوريين في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر في العام التالي، والتي دفع ثمنها الأكبر مسلمو أمريكا، ثم دعم العديد من المشرعين الجمهوريين للحروب في العراق وأفغانستان، لم تبقَ أصوات الأمريكيين العرب طويلًا في كفّة الجمهوريين، بعد استغلال الديمقراطيين لاستيائهم من مواقف بوش وحزبه الجمهوري المتعددة حول هذه الأحداث.
منذ ذلك الحين، شكّلت ولاية ميشيغان -وبالتالي ديربورن- عادة ساحة لمعركة سياسية في كل موسم انتخابي، لكنها كانت تقليديًا واحدة من معاقل الديمقراطيين، وبحسب استطلاعات الرأي ذهبت أصوات الأمريكيين العرب إلى المرشح الديمقراطي جون كيري في عام 2004 بنسبة 85%، وبنسبة 90% لباراك أوباما في عام 2008، ثم جاء انتخاب دونالد ترامب في عام 2016 ليشكّل مفاجأة لكثيرين.
حاول ترامب جذب الناخبين في المنطقة من ذوي الياقات الزرقاء، كما كانوا يسمون نسبة إلى ملابس العمل التي توحّدهم، ونجح بالفعل في تحويل ولاءات الناخبين، وتمكن من الفوز بأصوات ولاية ميشيغان التي كانت على مدى 5 دورات انتخابية تصوت لصالح الديمقراطيين، لكنها شهدت تحولًا لافتًا أسهم في صعود ترامب إلى البيت الأبيض للمرة الأولى، وتلقت منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون 60% فقط من أصوات الأمريكيين العرب.
لكن الأمور تغيرت في انتخابات عام 2020 التي يقال إن للمسلمين مساهمة كبيرة في عودة الديمقراطيين بقيادة جو بايدن، الذي تفوّق على ترامب بين الأمريكيين العرب بنسبة 59 إلى 35%، وفي ميشيغان التي صوّت فيها 206 آلاف أمريكي مسلم أو من أصول عربية، كان نصيب بايدن نحو 155 ألف صوت، وهذا يعني الفوز بالولاية بفارق يقارب 150 ألف صوت، وهو فارق كبير مقارنة بالـ 10 آلاف صوّت التي رجّحت كفّة ترامب في عام 2016.
مرة أخرى، أثبت العرب أن صوتهم مؤثرًا في هذه الولاية الحاسمة التي تمتلك 15 صوتًا في المجمع الانتخابي، وكانت آخر الولايات التي أضافها ترامب إلى حصيلة انتصاراته الانتخابية، ليرفع حصيلة أصواته في المجمع الانتخابي إلى 295 صوتًا بعد فرز 99% من بطاقات الاقتراع في الولاية.
وبحسب النتائج المعلنة، فاز ترامب بفارق نحو 90 ألف صوت في الولاية، وحصل على 2.79 مليون صوت بنسبة 49.8% من إجمالي الأصوات، بينما حصلت هاريس على 2.71 مليون صوت بنسبة 48.3%، وذهب 2% من الأصوات، أي نحو 110 آلاف صوت في الولاية، إلى مرشحين آخرين في مقدمتهم زعيمة حزب الخضر جيل ستاين، التي دعت إلى وقف الحرب على غزة ووقف المساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل”.
وبنظرة أعمق في هذه النتائج، مقارنة بانتخابات عام 2020، يبدو أن الديمقراطيين خسروا أصواتًا كبيرة في عدة مقاطعات، وفي منطقة ديترويت بشكل خاص، حيث يعيش أكبر تجمع للناخبين من أصول عربية.
وفي مقاطعة وين، أهم وأكبر المقاطعات التي يعيش فيها تكتل كبير من الناخبين ذوي الأصول العربية، يبدو أن الديمقراطيين خسروا نحو آلاف الأصوات، وفي ديربورن، وهي أكبر مدن مقاطعة وين، صوّت 47% من الناخبين لصالح دونالد ترامب، بينما حصلت هاريس على 28% من الأصوات، وذهب 22% من الناخبين لجيل ستاين.
وهناك العديد من الأسباب التي تفسّر تحريك البوصلة نحو الجمهوريين هذه المرة بعد سنوات من ميل الأمريكيين العرب إلى التصويت للديمقراطيين، أولها مواقف الحزب من القضايا الاجتماعية، فرغم أن ثمة نقاط متفق عليها مع الجمهوريين، مثل قضايا الإجهاض والحفاظ على قيم الأسرة، لكن نقاط الخلاف أكبر بكثير، وأبرزها الدفاع عن حقوق الأقليات ومناهضة العنصرية وضرورة إيجاد حلول عادلة لقضايا الشرق الأوسط.
وهنا نتحدث عن ورقة فريدة من نوعها في هذه الانتخابات، وهي الحرب على غزة، التي كانت الورقة الانتخابية الأولى التي حددت قرار 66% من الناخبين المسلمين في انتخابات 2024، وفق دراسة مشتركة لثلاثة من كبار مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، بينها معهد السياسات الاجتماعية والتفاهم.
ويشعر الناخبون الأمريكيون العرب بعدم الرضا بشكل متزايد عن المواقف التي اتخذتها إدارة بايدن والديمقراطيين بشكل عام والحملة الانتخابية لنائبته كامالا هاريس، فيما يتعلق بالدعم المطلق لـ”إسرائيل” في حربها المستمرة على غزة، وما قد تحمله من آثار على السياسة الخارجية الأمريكية، جنبًا إلى جنب مع التوسع الأخير للصراع المستمر في لبنان.
خلقت هذه الهوة بين الأمريكيين العرب والحزب الديمقراطي مساحة لترامب لاستغلالها، ومع ذلك لم يقدم الجمهوريون وترامب موقفًا أكثر طمأنينة بشأن الحرب في غزة، في حين يرى ترامب أن سياسات بايدن الضعيفة هي السبب وراء هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ويعلن دعمه لاستمرار الحرب في غزة في انسجام غير محدود مع موقف نتنياهو.
لكن هذا لم يمنعه من التعهُّد في خطاب النصر بإنهاء الحروب في العالم، ووعد بـ”السلام” في الشرق الأوسط مع القليل من التفاصيل حول كيفية تحقيقه، وحتى تفاصيل أقل حول ما إذا كان سيغير النهج المؤيد بشدة لـ”إسرائيل” الذي اتبعه في ولايته الأولى.
وفي انتخابات متقاربة، بدا أن حملة إعادة انتخاب ترامب عملت بشكل جيد في الولايات المتأرجحة التي تشهد عادةً معارك انتخابية، لكسب دعم الناخبين الأمريكيين المسلمين والعرب المستائين من الديمقراطيين، فقد اختار إحدى ضواحي ديترويت لتكون محطة التجمع الانتخابي الأخير الذي امتد حتى ساعات الصباح الأولى، وهذا يتناقض مع موقفه السابق قبل 8 سنوات، عندما ألقى خطابات مناهضة للمسلمين بشكل متكرر، وطرح فكرة إنشاء سجلّ وطني للمسلمين، وحظر السفر من العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة.
ومع ذلك، حصل ترامب هذه المرة على تأييد من أمثال عامر غالب، وهو ديمقراطي من أصول يمنية ورئيس بلدية هامترامك بولاية ميشيغان، ومعقل آخر للمسلمين الأمريكيين والمدينة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة في البلاد، وظهر الاثنان معًا في فعاليات الحملة، كما عرض إمام المركز الإسلامي في ديترويت عمران صالحة، وهو شخصية فلسطينية بارزة، تأييده لترامب أيضًا، رغم أنه تراجع عن ذلك بعد فترة وجيزة “احترامًا لمجتمعه”.
وقبل انطلاق انتخابات عام 2024، أظهر أحدث استطلاع للناخب الأمريكي العرب تقدمًا طفيفًا لصالح ترامب، لكن في الوقت ذاته أعلنت إحدى أقدم المنظمات التي تمثل الأمريكيين العرب، وهي اللجنة العربية الأمريكية للعمل السياسي، لأول مرة منذ تأسيسها أنها لن تدعم المرشحة الديمقراطية أو المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة.
في الوقت نفسه، أعلن رئيس بلدية ديربورن عبد الله حمود، أنه لن يؤيد أي مرشح لدورة الانتخابات لعام 2024، ومع ذلك أيدت مجموعة مختلفة من زعماء المجتمع العربي الأمريكي داخل المدينة هاريس، مع التأكيد على خيبة أملهم في مواقف إدارة بايدن بشأن الحرب في غزة والتصعيد في لبنان، مضيفين أنهم يعتقدون أن إدارة ترامب الثانية من المرجح أن يكون لها عواقب “وخيمة” على الصعيد المحلي وعلى الساحة العالمية.
ربما أشارت مثل هذه المواقف المتباينة إلى الانقسام العميق بين العرب والمسلمين بشأن دعم هاريس وترامب في المنافسة الرئاسية الضيقة هذا العام، كما تقول صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، لكن تظل ولاية ميشيغان نقطة ساخنة للحملات الانتخابية في كل موسم انتخابي، وتظل الفئة السكانية التي تقطنها نموذجًا ناجحًا للاندماج والحفاظ على هوية أبنائها في المجتمعات الأجنبية دون ذوبان قيمها وعاداتها.