يعد كتاب “ديوان لغات الترك” لمؤلفه محمود بن حسين بن محمد الكاشغري، أول وأهم جسور التواصل الثقافي بين العرب والأتراك، فهو أول موسوعة عربية تهدف إلى التعريف بلغة الأتراك على اختلاف لهجاتهم، إلى جانب التعريف بثقافة قبائل الأتراك وتاريخهم وعاداتهم.
ولد محمود بن حسين الكاشغري في القرن الحادي عشر، بمدينة “كاشغار” في تركستان الشرقية، لإحدى الأسر الحاكمة، وكانت كاشغار عاصمة الدولة “القراخانية” آنذاك، تلقَّى في طفولته مبادئ العلوم الاجتماعية والطبيعية على حد سواء، كما أتقن العربية والفارسية واهتم بعلوم اللغة حتى أصبح من أبرز اللغويين في ذلك العصر، لم يعرف المؤرخون سنة ميلاده ووفاته على وجه التحديد، لعدم وجود الكثير من الأخبار عن حياته إلا في بعض آثاره.
حتى يومنا هذا، لا يوجد مرجع واحد يحمل نفس أهمية “ديوان لغات الترك”، من حيث تناوله للتفاصيل بالأمثلة على كل الفروق بين اللهجات التركية ومرادفها في العربية، لأن الكاشغري كان يتقن جميع هذه اللهجات، ويعد أول من استخدم المنهج المقارن بين اللغات قبل ظهور علم اللغة المقارن بمئات السني
لكننا بالنظر إلى سنوات كتابة “ديوان لغات الترك”، 1070 و1074، يمكننا تخمين أنه ولد تقريبًا في أوائل القرن الحادي عشر، ويعد كتابه هذا من أبرز الكتب ليس فقط في حقل العلوم اللغوية، لكنه يتضمن أيضًا ملامح الحياة الاجتماعية لقبائل الأتراك آنذاك، حيث زار الكاشغري جميع القبائل التركية من أجل كتابة هذا الكتاب، وكان العالم التركي آنذاك يمتد من حدود الصين حتى حدود الدولة البيزنطية، بهدف معرفة لسانهم وتدوين الفروق اللغوية بين لهجة وأخرى.
فبعد قبول قبائل الأتراك للإسلام، بدأت العلاقة بينهم وبين الحضارة الإسلامية، وجاءت اللغة العربية بطبيعة الحال مع هذه الحضارة، وكما شعر الأتراك بالحاجة إلى تعلُّم العربية، كان للعرب أيضًا نفس الشغف بمعرفة لغة هذه القبائل التي دخلت حديثًا إلى الإسلام، وقد قال الكاشغري نفسه عن ذلك: “لكي تستطيع أن تشرح للتركي مقصودك، ولكي تستمليه ما من سبيل أمامك إلا أن تعرف لغته وتخاطبه بها”.
محمود بن حسين بن محمد الكاشغري
ولأجل ذلك وضع الكاشغري كتابه المشار إليه، بعد رحلة طويلة بين القبائل التركية، استغرقت نحو 15 عامًا من البحث والسفر، عاش خلالها بين قبائل الأوغوز والتركمان والكارلوك والأيجور والكيرجيز، لسنوات طويلة، يدوّن الكلمات ويكتب المقابل لها بلهجات تركية أخرى، ثم ترجمتها بالعربية، بالإضافة إلى شرحه القواعد اللغوية وأسباب وضع بعض الإضافات لهذه الكلمة أو تلك، وهو ما جعل كتابه ليس قاموسًا فقط، لكنه أيضًا يعد أول مرجع في قواعد اللغة التركية.
يعتبر هذا الكتاب بالنسبة للغويين حتى اليوم، من بين أهم المراجع في معرفة اللهجات التركية، حيث يتضمن الكتاب نحو 7500 مادة لغوية، ويعتمد عليه العرب والترك والفرس في معرفة اللهجات التركية
بدأ الكاشغري في كتابة هذا الكتاب بمسقط رأسه وأتمّه في بغداد، وحتى يومنا هذا، لا يوجد مرجع واحد يحمل نفس أهمية “ديوان لغات الترك”، من حيث تناوله للتفاصيل بالأمثلة على كل الفروق بين اللهجات التركية ومرادفها في العربية، لأن الكاشغري كان يتقن جميع هذه اللهجات، وهو يعد أول من استخدم المنهج المقارن بين اللغات قبل ظهور علم اللغة المقارن بمئات السنين.
لا يخلو الكتاب أيضًا من إشارات إلى مستجدات الحياة وقتها، من حيث علوم الطب والزراعة والأشغال اليدوية، ولهذا يعد مرجعًا مهما لدراسة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الدولة القراخانية، كما يتضمن الكتاب أيضًا مفهوم السلطة وشؤون الدولة والشؤون العسكرية والإستراتيجية.
وإلى جانب كون “ديوان لغات الترك” أول قاموس بالعربية في هذا المجال، فإنه يسلط الضوء أيضًا على حياة قبائل الأتراك الاجتماعية وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم، ومراسم الولادة والزواج والموت لديهم، وثقافة الطعام وما إلى ذلك، بالإضافة إلى أن الكتاب يتضمن أيضًا الأمثال والحكايات الشعبية والأشعار، حتى يعده بعض المختصين أول أنطولوجيا شعرية في العالم التركي.
في مقدمة كتابه ذكر الكاشغري أن الكتاب يتضمن ثمانية فصول، وكل فصل ينقسم إلى قسمين: اسم وفعل، وفي الصفحات الأخيرة، وضع الكاشغري خرائط توضح أماكن زياراته للقبائل التركية، ولهذا السبب، فإن الكتاب يعد أيضًا من الزاوية الجغرافية، أول كتاب يضم خرائط للعالم التركي آنذاك.
ظل كتاب “ديوان لغات الترك” مفقودًا لمئات السنين، حتى عُثر عليه عام 1914، وتم طباعته في ثلاث مجلدات آنذاك في إسطنبول، وقام اللغوي التركي باسيم آتالاي بترجمته إلى التركية بين عامي 1939 و1943 في المجمع اللغوي التركي
بعد الانتهاء من كتابة “ديوان لغة الترك” عرضه الكاشغري على الخليفة العباسي أبو القاسم عبد الله في بغداد وكافأه الخليفة على إنجازه، ويعتبر هذا الكتاب بالنسبة للغويين حتى اليوم، من بين أهم المراجع في معرفة اللهجات التركية، حيث يتضمن الكتاب نحو 7500 مادة لغوية، ويعتمد عليه العرب والترك والفرس في معرفة اللهجات التركية.
ظل كتاب “ديوان لغات الترك” مفقودًا لمئات السنين، حتى عُثر عليه عام 1914، وتم طباعته في ثلاث مجلدات آنذاك في إسطنبول، وقام اللغوي التركي باسيم آتالاي بترجمته إلى التركية بين عامي 1939 و1943 في المجمع اللغوي التركي، وفي عام 1928، نشر المستشرق الألماني كارل بروكمان أجزاء من الكتاب، ثم اختار منه مجموعة من القصائد والأمثال ونشرها في كتيب صغير.
نُشرت بعد ذلك عدة ترجمات للكتاب إلى لغات أخرى بعد ذلك، كالألمانية والروسية والصينية والأوزبكية، ويوجد منه اليوم نسخة واحدة أصلية بالعربية، في المكتبة الوطنية بإسطنبول.