على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، انتقل المكتب بتغيّرات عديدة من ناحية الشكل والتصميم الداخلي، من المكاتب الخاصة إلى المفتوحة، وفي الآونة الأخيرة إلى عدم وجود مكتب على الإطلاق. وقد دفعت هذه التغيرات جميعها إلى ظهور العديد من الأبحاث والدراسات المتزايدة في كلٍّ من علميْ النفس البيئي والصناعيّ التي حاولت دراسة أثرها على الموظّفين من مختلف النواحي والجوانب.
وعلى الرغم من أنّ العديد من الأبحاث توصلت إلى أنّ مساحات العمل المشتركة يمكن أنْ تؤدّي إلى زيادة الإنتاجية والجوّ الإيجابيّ في العمل بتعزيزها للتواصل الاجتماعي والتعاون بين الزملاء، إلّا أنّ الكثير من الدراسات المغايرة لا تزال تُثبت يومًا بعد يوم أنّ هذا جميعه غير دقيق البتة.
المكاتب المفتوحة غالبًا ما تؤدّي إلى تشتيت انتباه الموظّف وانعدام خصوصيته سواء الشخصية أو المهنية، ما يؤدي إلى عدم رضاه عن عمله وأدائه
لكنّ إقناع أرباب العمل والمدراء في وقتنا هذا بضرورة العودة إلى المكاتب المغلقة قد بات مستحيلًا، فالأمر مختلف قليلًا من زاويتهم تبعًا لأنهّم يفضّلون المكاتب المفتوحة نظرًا للعديد من المزايا والخصائص الإيجابية التي تقدّمها وتتيحها لهم. فإلى جانب توفيرها للنفقات واستغلالها للمساحات المتاحة بشكلٍ أفضل بكثير؛ يمكّن هذا النوع من المكاتب فرصة مراقبة العاملين عن قُرب، وتجنّب الأوقات التي قد يهدرونها أو يضيّعونها أو أيّ تسيّبٍ قد يحدث في العمل في حال كانت لهم مكاتبهم المغلقة والخاصة.
المكاتب المفتوحة.. سلبيّاتها أكثر من إيجابيّاتها
مع مبالغة صغيرة، تشبه المكاتب المفتوحة فكرة البانوبتيكون، السجن الذي قام بتصميمه الفيلسوف الإنكليزي والمنظر الاجتماعي جيريمي بنثام في عام 1785، وتقوم فكرته على إمكانية مراقبة جميع السجناء دون أنْ يكونوا قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا. وقد استخدم عددٌ من المفكّرين والفلاسفة مثل ميشيل فوكو وتشومسكي وزيجمونت بومان والروائي البريطاني جورج أورويل الفكرة في أعمالهم لاحقًا.
تركّز الدراسات الحديثة على أنّ الحاجة إلى التركيز والعمل الفرديّ آخذة في التزايد في الوقت الحالي؛ فالمكاتب المفتوحة غالبًا ما تؤدّي إلى تشتيت انتباه الموظّف ما يؤدي إلى عدم رضاه عن عمله وأدائه كما أثبتت إحدى الدراسات، ويرجع السبب أساسًا إلى انعدام الخصوصية سواء الشخصية أو المهنية. نصف المشاركين في الدراسة أعربوا عن عدم ارتياحهم من افتقادهم للخصوصية، كما أعرب ما بين بين 20٪ و 40٪ منهم عن مواجهتهم المشكلة نفسها في الخصوصية البصرية، لأن من يجلس أمامهم أو إلى جوارهم يستطيع رؤية كل ما يفعلونه: ما تأكله وما تشربه وطريقة جلوسك والموقع الذي تقرأ فيه والأغنية التي تستمع إليها، وهكذا.
تؤدي بيئات العمل المفتوحة إلى الانسحاب الاجتماعي وخلق شعور بعدم الثقة بين الموظّفين ناتج عن انعدام الخصوصية
وتبين الأبحاث أنه عندما لا يستطيع الموظفون التركيز، فإنهم يميلون إلى التواصل بشكل أقل. لدرجة أنهم قد يصبحون غير مبالين لزملائهم في العمل. أشارت إحدى الدراسات إلى أنّ بيئات العمل المفتوحة لا تؤدي بالضرورة إلى تحسين العلاقات الاجتماعية بين الزملاء، بل على العكس من ذلك فهي قد تؤدي إلى الانسحاب الاجتماعي وخلق شعور بعدم الثقة بينهم ناتج عن فكرة المراقبة. وأشارت الدراسة نفسها أنّ الموظّفين يميلون عادة إلى استخدام سمّاعات الرأس أو الأذنين لمنع احتكاكهم مع زملائهم في المكتب.
مكان ثالث للعمل: لماذا يجب الخروج من جدران المكاتب التقليدية؟
لا يعدّ التوجّه نحو الخروج من المكتب والعمل خارج نطاقه جديدًا أبدًا، فقد بدأ عام 1989 عندما صاغ عالم الاجتماعي الأمريكي راي أولدينبرغ رسميًا مصطلح “المكان الثالث” الذي قدّم من خلاله فلسفته المطوّرة حول مكان العمل الأنسب لتطوير الأعمال وتفعيل المشاركة الاجتماعية وتكوين علاقة عاطفية مع مكان العمل المستقل عن المنزل أو المكان الأول ومكان العمل أو المكان الثاني.
قضاء بعض الوقت بعيدًا عن المكتب في مكان عمل مشترك يمكن أن يثير أفكارًا جديدة ويحفّز إبداع الموظّفين ومرونتهم
وبشكلٍ عام، يمكن للمكان الثالث أنْ يكون في بيئات مختلفة، مثل المساجد والكنائس والمقاهي والنوادي والمكتبات أو الحدائق العامة، وغيرها الكثير من الأماكن التي مكّنت العاملين من العمل خارج حدود بيوتهم وجدران المكاتب المعتادة. ما يعني أنّ ثقافة المكان الثالث وفّرت وفرة في الخيارات المتاحة للعمل أكثر من أيّ وقتٍ سابق في التاريخ.
حديثًا، تستحوذ مساحات العمل المشتركة أو ما يُعرف بمصطلح coworking space، والتي يمكن تعريفها بأنها مساحات عمل قائمة على العضوية حيث تعمل مجموعات متنوعة من العاملين المستقلين والعاملين عن بُعد وغيرهم معًا في بيئة مشتركة. ووفقًا لمجلة هارفارد بزنس ريفيو، فإنّ الأشخاص الذين يعملون في هذه المساحات عادةً ما يسجّلون إنتاجيةً أعلى مقارنةً من غيرهم ممّن يعملون في المكاتب التقليدية.
ويُرجع التقرير ذلك لعدّة أسباب واحدة منها أنّ الشخص يشعر أكثر بقيمة عمله وهويّته أكثر في المساحة المشتركة. فعلى عكس المكتب التقليدي، تتكون مساحات العمل الجماعي من أعضاء يعملون لمجموعة من الشركات والمشاريع المختلفة. ونظرًا لعدم وجود منافسة مباشرة أو سياسة داخلية محدّدة، فهم لا يشعرون بأن عليهم أنْ يلتزموا بشخصية أو دور عمليّ معيّن، كما يساعد ذلك في أن يجعل هوية العمل الخاصة أقوى.
قد يكون من اللازم إعطاء الموظّفين المساحة الخاصة للعمل بعيدًا عن القيود والقواعد المتزمّتة وستكون النتيجة إنتاجيةً أعلى وشعورًا أكبر بالالتزام تجاه مؤسساتهم ورضاهم عن أدائهم
كما يُشير التقرير إلى أنّ المساحات المشتركة تساعد العاملين والموظّفين على التخلّص أو الحدّ من الروتين القاتل الذي تُمليه عليهم المكاتب التقليدية، وقواعد الدوام التي تقيّد استقلاليّتهم وحريّتهم ونشاطاتهم وأعمالهم. عوضًا عن أنّ هذا النوع من المكاتب يعزّز تواصلهم الاجتماعيّ مع الآخرين بطريقة غير قسرية أو إجبارية، حيث يكون بإمكانهم اختيار متى وكيف يتفاعلون مع الآخرين. التقرير نفسه يُشير إلى أنّ الموظّفين يتفاعلون بصورة أقلّ مع زملائهم في المكاتب التقليدية.
وبالتالي، ينصح التقرير أنْ تكون المساحات المشتركة والجماعية جزءًا من استراتيجية الشركات التقليدية، نظرًا لحقيقة إسهامها في ازدهار الأعمال والإنتاجية وتحسين نفسية الموظّفين وتعزيز رضاهم الوظيفيّ وتواصلهم الاجتماعيّ مع زملائهم في المهنة ومع الآخرين من حولهم في المجتمع.
عوضًا عن أنّ قضاء بعض الوقت بعيدًا عن المكتب في مكان عمل مشترك يمكن أن يثير أفكارًا جديدة ويحفّز إبداع الموظّفين ومرونتهم في العمل، وهذا كلّه يُساعدهم في صياغة أعمالهم بطرق تعطيهم الغاية والمعنى والشعور بالاستقلالية والنجاعة الذاتية. وبالمحصلة، قد يكون بالفعل من اللازم إعطاء الموظّفين المساحة الخاصة للعمل بعيدًا عن القيود والقواعد المتزمّتة التي لا طائل منها أو فائدة، وستكون النتيجة إنتاجيةً وطاقةً أعلى وشعورًا أكبر بالالتزام تجاه مؤسساتهم ورضاهم عن أدائهم ممّا لو أمضوا أيّامهم جميعًا بين جدران المكاتب التقليدية.
وبالنهاية، فالمساحات المشتركة والمفتوحة للعمل قد أثبتت فعاليتها ونجاحها وفقًا للعديد من الدراسات والأبحاث، خاصة للأعمال القائمة على استخدام التكنولوجيا والإنترنت، لكن يبقى أمامنا سؤالان مهمّان هنا: هل سيقتنع أصحاب الشركات وأرباب العمل بنتائج هذه الدراسات والأبحاث ليبدؤوا فعليًّا بخلق بيئة عمل أفضل لموظّفيهم؟
ليأخذنا هذا السؤال لسؤالٍ آخر وهو ما هي نوع الوظائف والمهن التي تستطيع بالفعل التحرّر من قيود المكاتب المفتوحة والتقليدية والخروج لأماكن ثالثة ومساحات مشتركة؟ وعلى أيّة حال، حتى لو لم تستطع توفير ذلك، قد يكون أمامها الكثير من الخيارات التي تستطيع من خلالها تجنّب الدوام الروتينيّ والروح القاتمة للمكاتب التقليدية، فالمساحات المشتركة ليس الحلّ الوحيد بكلّ تأكيد.