كيف يدنِّس حكام مصر التاريخ؟

kll

يتضمن التعامل مع التاريخ بشكل عام نوعًا من المراعاة لطبيعته، فلا مجال لمحاولة بناء موقف سياسي بناءً على فرضيات تاريخية سابقة متداولة عن إحدى الشخصيات أو الشعوب أو الطوائف خارج الوطن، أو حتى أي مكون من المكونات الوطنية الداخلية، فالاستغلال السياسي للتاريخ الذي تعتمد عليه بعض الأنظمة الديكتاتورية والمنحرفة لرتق نقاط ضعفها من ناحية الرؤية والمشروع، أو تبريرًا لسياساتها العنيفة، ومحاولة بناء قوتها واستقرارها عبر القضاء على الآخر، هو أمر يسيء إلى هذه الأنظمة وإلى التاريخ.  

فهناك نوع من التشابه بين إهانة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان لذكرى فخر الدين باشا، الحاكم العثماني للمدينة المنورة خلال الحرب العالمية الأولى، وقرار السلطات المصرية بتغيير اسم شارع السلطان العثماني سليم الأول في حي الزيتون بالقاهرة، قبل عام، بعد وصفه بأنه “أول مستعمر للبلاد”، وهما الأمران اللذان أثارا انتقادات تركية وعربية واسعة، كون الحقائق التاريخية لا تنطوي على الاتهامات التي يكيلها الفريقان.    

ويبدو أن الدوافع السياسية، خاصة فيما يتعلق بالعداء الشديد بين الإمارات العربية المتحدة ومصر من جهة وتركيا من ناحية أخرى، كان وراء الحادثين، فوزير خارجية الإمارات غير معروف بخبرته ودرايته بالتاريخ العثماني والحرب العالمية الأولى، ولا ذكرى الفتح العثماني لمصر في القرن السادس عشر من القرب بما يكفي للتأثير على الهوية الوطنية المصرية.

ورغم أن الحالتين مختلفتين إلى حد ما، يمكننا أن نطلق على هذه المحاولات استخدامًا سياسيًا للتاريخ، وهو القيام بتدعيم الأيدولوجية المعاصرة، عبر البحث عن جذورها التاريخية في تراث هذه الجماهير، ومثل هذا الاستخدام للتّاريخ، قامت به العديد من الحركات والتنظيمات السياسيّة، كما تبنته بعض الدول، ومهما يكن من الطريقة التي يتم بها استخدام الحالة التاريخيّة، فإن هذا الاستخدام يرتبط بمسعى النظام أو المجموعة السياسية للارتباط بالضمير العام لجماهيرها المرتبط بدوره بتاريخها وتراثها الحضاري.

فخر الدين باشا الحاكم العثماني للمدينة المنورة خلال الحرب العالمية الأولى

استباحة الحاضر والتاريخ

تعمد بعض النظم والحركات السياسية إلى التعامل المتعسف مع التاريخ، من أجل تبرير إقامة حالة من المحاجزة بين الشعوب أو المكونات الجماهيرية، على أسس طائفية أو قومية أو حتى مناطقية، كتبرير لممارسة نوع من القمع والاضطهاد له، وهنا، يمكننا تسمية التعامل مع التاريخ استغلالاً سياسيًا له.

ففي حادثة فخري باشا، أعاد وزير الخارجية الإماراتي نشر تغريدة بذيئة ومهينة من شخص مجهول يُشتبه في أن له صلات بدولة الإمارات العربية المتحدة، في هذه الأثناء، تم الإعلان عن قيام محافظ القاهرة السابق عاطف عبد الحميد بتغيير اسم شارع سليم الأول بعد تحريضه من مؤرخ وأستاذ جامعي مصري.   

وبالنظر إلى ما تمر به مصر حاليًّا سيكون من الصعب على أي شخص أن يولي اهتمامًا كبيرًا لقرار النظام بتغيير اسم الشارع

ووفقًا للسلطات المحلية في العاصمة المصرية، استجاب المحافظ لتقرير لمحمد صبري الدالي، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة حلوان، الذي أشار إلى أن السلطان سليم الأول كان “أول مستعمر للبلد”، وأنه الشخص الذي أفقدها استقلالها وحوّلها إلى مجرد ولاية من ولايات الدولة العثمانية، إلى جانب قيامه بقتل آلاف المصريين خلال دفاعهم عنها وأعدم آخر سلطان مملوكى طومان باي، وحل الجيش المصري.

على نحو مغاير وبعيدًا عن الأجواء السياسية المتوترة بين البلدين على خلفية حق التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط، جادل أستاذ التاريخ بأن السلطان العثماني “لا يستحق أن يكون له شارع في القاهرة، أو أي مدينة مصرية أخرى في هذا الشأن، سُميت باسمه”، قبل المحافظ التوصية وأعلن – في عمل ديمقراطي نادر – أنه سيبدأ بالتشاور مع سكان الشارع لاختيار اسم آخر.   

لم يكن القرار يثير أي نقاش عام خلال الأسابيع الأربع التي أعقبت إعلانه، لا في وسائل الإعلام ولا في الأوساط الأكاديمية، وبالنظر إلى ما تمر به مصر حاليًا، يمكن للمرء أن يفهم عدم اهتمام المصريين بهذه المسألة، ففي دولة تعيش تحت سيطرة حاكم عسكري، أمر باعتقال عشرات الآلاف من الأشخاص، وأطلق العنان لأجهزته الأمنية لاغتيال خصومه أو خطفهم، وهي دولة يعيش مواطنوها أوضاعًا اقتصادية كابوسية حتى فقدوا الأمل في المستقبل، سيكون من الصعب على أي شخص أن يولي اهتمامًا كبيرًا لقرار النظام بتغيير اسم الشارع.

التاريخ كأداة للأهداف السياسية

في معارك التاريخ وثوراته، تتغيّر مفاهيم الحكم وطبيعته، وكذلك تنعكس توجهاته الجديدة في أسماء المدن والشوارع وحتى في أسماء أحداث التاريخ، لذلك تستحق القضية بعض الاهتمام بالطريقة التي يتم بها استخدام التاريخ كأداة لتحقيق أهداف سياسية قصيرة الأجل.

جاء سليم الأول إلى مصر بصفته فاتحًا في ظروف صراع شرسة عن مستقبل الشرق الأوسط العربي الإسلامين وولدت الدولة العثمانية من أيديولوجية جهادية تطورت في البؤر الاستيطانية الحدودية، وكان دافعها الرئيسي في اتجاه الإمبراطورية البيزنطية والممالك غير الإسلامية في البلقان، وتجنبت الصراع مع الممالك الإسلامية في الهضبة الإيرانية والعراق وسوريا ومصر.

ومع ذلك، فإن ظهور الدولة الصفوية في إيران والتهديد الذي شكلته على العالم العثماني، سواء من حيث الجغرافيا السياسية أو الطائفية، أجبر سليم الأول، الذي حكم من 1512 إلى 1520، على مواجهة الأخطار في محيطه الإسلامي، فتعامل مع الصفويين أولاً، ولعله ربما لم يخض حربًا مع المماليك لولا تواطؤهم الواضح مع الصفويين.

لا ينظر الحكام إلى الأحداث التاريخية من منظور سياسي إلا في أوقات الأزمات

لم يتمكن المماليك من الثبات طويلاً أمام القوات العثمانية المتقدمة من الناحية التكتيكية والتقنية، لا في معركة مرج دابق شمال سوريا ولا على بوابات القاهرة في منطقة الرّهدانية، ومع ذلك، حتى بعد دخول سليم الأول وقواته إلى القاهرة، واصل طومان باي، آخر سلاطين المماليك، مهاجمة القوات العثمانية، واعتماد نوع من حرب العصابات، وهذا ما جعل الفتح العثماني لمصر – خاصةً في مرحلته الأولى – أكثر دموية على عكس الوضع في سوريا، حيث رحب العلماء وكبار الشخصيات بالولاية العثمانية.

ومع ذلك، لم يكن يُنظر إلى مصر في ذلك الوقت من خلال منظور القومية والهوية الوطنية، فخلال القرن الـ16 كان النظام العالمي يتشكل من أنظمة إمبراطورية أو سلطانية متعددة الأعراق والطوائف، وكانت الطبقات الحاكمة داخل هذه الدول الإمبراطورية أو السلطانية تتألف من نخب مهنية كما في الحالات العثمانية والمملوكية، أو من أتباع مكرسين كما في قضية الصفويين.  

لم يكن الفتح العثماني لمصر في جوهره حربًا بين السلطان وشعب مصر، بل بين الجيوش المهنية للعثمانيين والمماليك، ولم تكن غالبية القوات العثمانية من الأتراك، تمامًا كما لم يكن المماليك، مصريين، لا بالمعنى العرقي أو القومي الحديث.

كما لم يلعب سكان مصر المحليون دورًا فعالًا في الحرب، فأولئك الذين قُتلوا في الأيام الأولى من الغزو كانوا ضحايا للمعارك الشرسة التي اندلعت داخل القاهرة أو كانوا من بين الأعداد الصغيرة من المصريين الموالين للمماليك.

كذلك لم يدافع المماليك عن مصر واستقلالها، ولم يدافعوا عن هويتها الوطنية وسيادتها، بالنسبة للمماليك كانت مصر عملية استحواذ، وبمجرد مصادقة السلطات الجديدة على امتيازاتهم، استأنفوا دورهم السابق واستمروا في حكم مصر باسم السلطنة العثمانية، إن أفلت هذا التاريخ من حاكم مصر، فكيف أفلت من الأستاذ الجامعي؟

السلطان سليم الأول في إحدى معاركه عام 1516

أكثر ما يبعث على الدهشة، هو أن سليم الأول ليس الفاتح الوحيد في مصر الذي يحمل اسمه أحد الشوارع أو نصب تذكاري في مدينة مصرية كبرى، فهناك شارعان في منطقتين بالقاهرة يحملان اسم الإمبراطور الفارسي “قمبيز” الذي غزا مصر واستولى عليها في القرن الـ6 قبل الميلاد، وهناك أيضًا شارع في الاسكندرية يحمل اسم الإسكندر الأكبر، الفاتح المقدوني لمصر الذي وضع حدًا لعصرها الفرعوني، بل إن اسم المدينة مشتق من اسمه.

على العكس من ذلك، لا ينظر الحكام إلى الأحداث التاريخية من منظور سياسي إلا في أوقات الأزمات، فهناك شارع بارز مجاور لجامع الأزهر يحمل اسم القائد جوهر الصقلي، الذي سيطر على مصر نيابة عن الفاطميين، كما أن أول المساجد في مصر وأكبرها هو مسجد عمرو بن العاص، الفاتح العربي المسلم لمصر، كذلك يحمل ثالث المساجد في مصر اسم ابن طولون، الحاكم العسكري العباسي ذي الجذور التركية، كما محمد علي، الذي يوصف أحيانًا بأنه مؤسس مصر الحديثة، لم يكن مصريًا، ولم يكن كذلك أي من حكام مصر منذ نهاية العصر الفرعوني حتى انقلاب يوليو/تموز 1952، هل يجب إزالة كل هذه الأسماء؟

هؤلاء هم الأشخاص الذين صاغوا تاريخ مصر وشكلوا تراثها وميزوا معالمها عبر القرون، حقيقة أنهم لم يكونوا أصلاً مصريين، والسؤال لماذا اختاروا المجيء إلى مصر؟ يجب أن يكون هذا بالفعل وظيفة المؤرخين وموضوع ندوات التاريخ، ومع ذلك، فإن إزالة أسمائهم والاعتقاد بأن تغيير أسماء الشوارع سيغير التاريخ ليس سوى تدبير ساذج ووحشي.

التأثير على سرد التاريخ

لم تعد تسمية الشوارع لتعريف الأماكن فقط، وإنما تعبر عن توجهات الأنظمة السياسية وعادة ما تستخدم في الأزمات الكبرى بين الدول، ويزخر التاريخ السياسي بالكثير من الوقائع التي أقدمت فيها السلطات المصرية على اتباع آلية “تغيير أسماء الشوارع”، وهو بحسب وصف المحللين “مكائد”.  

ففي واقعة أخرى، عمد محافظ الجيزة اللواء محمد كمال الدالي إلى تغيير اسم شارع ومسجد بمنطقة المساكن في حي بولاق الدكرور كان يحمل اسم “آل حمد”، العائلة الحاكمة في قطر، بدعوى تقدم الأهالي عدة طلبات لرفضهم “دعم الدوحة للإرهاب وإيوائها لعناصر تنظيم الإخوان المطلوبين للعدالة في مصر”، بحسب ما نشرته الصحف المصرية.

في عهد الرئيس ذي الخلفية العسكرية عبد الفتاح السيسي شهد تغيير أسماء بعض الشوارع إلى أسماء تحمل شهداء الشرطة والجيش في مصر

كما أن تغيير أسماء شوارع من الحكومات المصرية المتعاقبة ليس جديدًا، وهو سلاح استخدمته حكومات دول نكاية بحكومات دول أخرى، ففي خمسينيات القرن الماضي، ونكاية ببريطانيا، أطلق الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر اسم رئيس الوزراء الإيراني المعارض لبريطانيا محمد مصدّق على شارع رئيسي بحي الدقي.

وتتجلى محاولات تزييف التاريخ أكثر في سعي الأنظمة السياسية لتثبيت أواصر حكمها، ففي مصر، سرعان ما استولت الجمهورية على إنجازات الملكية، حيث شهدت فترة الخمسينيات، وبالتحديد منذ قيام حركة “الضباط الأحرار”، تغييرًا لبعض أسماء الشوارع والميادين في مصر من أجل محو تاريخ النظام الملكي، والبدء في ظهور شعارات النظام الجمهوري وأهدافه.

كانت النتيجة أن بدأت الحركة بتغيير أسماء الشوارع والميادين، وكانت البداية مع تغيير اسم ميدان “الإسماعيلية” إلى ميدان “التحرير” في يناير/كانون الثاني 1953، في أثناء احتفالات حركة الضباط بمرور 6 أشهر على قيام الحركة وتأسيس “هيئة التحرير”، وعلى الرغم من أن الميدان أطلق عليه اسم ميدان “السادات” بعد ذلك، بما في ذلك محطة المترو التي ما زالت تحمل اسمه، فإنه ظل يُعرف بميدان التحرير.   

وترتب على ذلك تغيير الحركة الكثير من أسماء الشوارع والميادين بعد ميدان التحرير، مثل شارع “الملك فؤاد” الذي أصبح يحمل اسم شارع “26 يوليو”، نسبة إلى اليوم الذي خرج فيه الملك فاروق من مصر، وأصبح “شارع الجمهورية” بدلًا من شارع “إبراهيم باشا”، في إشارة واضحة إلى جعل ملامح المدينة تتشكّل وفقًا للنظام، إذ يرمز تغيير اسم الشارع إلى تحول مصر من النظام الملكي إلى الجمهوري.

كما حملت أسماء الشوارع بعد قيام الحركة أسماء لزعماء وشخصيات أثّرت في تاريخ مصر، مثل تغيير شارع “سليمان باشا” إلى شارع “طلعت حرب”، وشارع “عماد الدين” إلى شارع الزعيم “محمد فريد”، ثم شارع الملك “فاروق” الذي تغير إلى شارع “الجيش”، أضف إلى ذلك إطلاق “صلاح سالم”، العضو في حركة الضباط الأحرار، اسمه على أكبر شارع في العاصمة وهو شارع “صلاح سالم”، الذي يبدأ من منطقة الدراسة مرورًا بالعباسية حتى مصر الجديدة.

وشبيه بما حدث بعد قيام حركة الضباط الأحرار، بدأ عهد المخلوع مبارك في تغيير بعض أسماء الشوارع في محافظات مصر واستبدالها بأسماء زعماء ومشاهير، بالإضافة إلى إطلاق اسم مبارك وقرينته على بعض المنشآت والأماكن العامة مثل محطة “مبارك” في مترو الأنفاق، التي تغيرت بعد عزله إلى محطة “الشهداء” نسبة إلى شهداء ثورة 25 من يناير.

نستنتج من وراء تغير الاسم أنه ربما يعود إلى محو “مذبحة رابعة” من الذاكرة، أضف إلى ذلك أن هشام بركات هو الذي أصدر تصريح النيابة العامة للشرطة والجيش بفض اعتصامي “رابعة والنهضة” عام 2013

 لكن في عهد الرئيس ذي الخلفية العسكرية عبد الفتاح السيسي شهد تغيير أسماء بعض الشوارع إلى أسماء تحمل شهداء الشرطة والجيش في مصر، ولعل التغير الأبرز في هذه الفترة كان تغيير اسم ميدان “رابعة العدوية” إلى ميدان النائب العام هشام بركات، وذلك بعد شهر من تعرضه للاغتيال عام 2015.

ورغم مرور أكثر من 3 سنوات على تركيب اللوحات المعدنية الخاصة بالاسم، فإن المصريين ما زالوا يطلقون الاسم القديم على الميدان، ونستنتج من وراء تغير الاسم أنه ربما يعود إلى محو “مذبحة رابعة” من الذاكرة، أضف إلى ذلك أن هشام بركات هو الذي أصدر تصريح النيابة العامة للشرطة والجيش بفض اعتصامي “رابعة والنهضة” عام 2013.

ولم يكتفِ النظام السياسي المصري الحاليّ بتزييف معظم الحقائق والتاريخ في أعقاب انقلاب الثالث من يوليو/تموز، بتشويه تاريخ ثورة 25 من يناير، بل عمد إلى حذف أجزاء مهمة من التراث الإسلامي من المناهج التعليمية، في مقدمتها حذف موضوع صلاح الدين الأيوبي من منهج اللغة العربية للصف الثالث الابتدائي، بزعم تضمنه لنصوص تحرّض على العنف وعلى الأقباط، في حين أن الدرس المحذوف لا يتضمن سوى وقائع تاريخية مجمع عليها من المؤرخين كافة.

والخلاصة كما يقول أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة الأمريكية محمد رحيل إن منح أسماء جديدة للشوارع والأماكن العامة بعد أي تغيير سياسي يحدث لأسباب عدة؛ أبرزها مسح وسيلة من وسائل محو التاريخ وتصفية النظام القديم نفسيًا ومعنويًا وإعلان بدء مرحلة جديدة، وهو عادة أهم خطوة لأي نظام جديد لترسيخ قواعده في أذهان العامة عبر إعادة تسمية الشوارع والميادين.