يعد الأدب الروسي أحد أغنى آداب العالم حيث ساهم بشكل كبير في ثراء تاريخ الثقافة الفنية للإنسانية، وقد عكست أعمال مبدعيه التجربة الحياتية للشعب الروسي: أخلاقه وفلسفته ونظرته إلى الوجود والعالم في جميع أطواره التاريخية، وقد قدم الأدب الروسي للبشرية عدداً كبيراً من العباقرة مثل نيكولاي غوغول، فيودور ديستويفسكي، ليو تولستوي، أنطون تشيخوف ومكسيم غوركي.
وحين نتأمل طبيعة الأدب الروسي نجد أنه انصهر في بوتقة المجتمع بشكل كبير إذ شكل منبراً لمناقشة قضايا المجتمع الروسي السياسية والثقافية وساهم الأدباء والشعراء الروس في القرن التاسع عشر مثل تولتسوي وديستوفسكي وبوشكين في تشكيل الشخصية الروسية كما ساهموا أيضاً في الارتقاء بالوعي المجتمعي وتشكيل الوعي الثوري، ولم يقتصر أثر الأدب الروسي على مجتمعه وإنما امتد اثره إلى جميع بلاد العالم.
تأثر الأدب الروسي بالثقافة العربية والإسلامية
في مجال الفن والأدب، التباعد الجغرافي لا يمنع التلاقي فبين روسيا الواقعة في الشرق الأقصى وبين العرب القاطنين في شرق المتوسط وجنوبه تقارب الأدبين الروسي والعربي إنسانياً وفكرياً؛ فعلى سبيل المثال تأثر الشاعر والروائي الروسي الشهير ألكسندر بوشكين تأثراً عميقاً بالثقافتين العربية والإسلامية وتحديداً القرآن الكريم حيث كتب قصيدتاه الشهيرتان “محاكاة القرآن” عام 1824 و”الرسول” عام 1826 كما سحرت ليالي ألف ليلة وليلة لب بوشكين وهام عشقاً بالقصائد التي كتبها الشاعر البريطاني اللورد بايرون عن الشرق.
الأديب الروسي الشهير ليو تولستوي فتأثره بالثقافة العربية كان بشكل أعمق: فقد ألف كتاباً أسماه “حكم النبي محمد” وذلك رداً على جماعات المبشرين في قازان الذين صوروا الدين الإسلامي على غير حقيقته
وفي قصائده تحدث بوشكين عن مدن عربية لم يزرها قط حيث يقول:
“حدّثني يا غصن فلسطين
في أيِّ مكان نَمَوتَ وأزهرت؟
وأيُّ ربواتٍ ووهادٍ ازدانت بِكْ؟
هل لاطفَتكَ أشِّعة الشّرق قرب مياه الأردن الصافية؟”
أما الأديب الروسي الشهير ليو تولستوي فتأثره بالثقافة العربية كان بشكل أعمق: فقد ألف كتاباً أسماه “حكم النبي محمد” وذلك رداً على جماعات المبشرين في قازان الذين صوروا الدين الإسلامي على غير حقيقته، وعليه قدم تولستوي الدليل والحجة والبرهان حيث اختار مجموعة من الأحاديث الشريفة وأوردها في كتابه معلقاً بأن محمد هو مؤسس الديانة الإسلامية التي يدين بها الكثير من البشر وهو شخص جدير بالاحترام والتقدير.
بدأ تأثر الأدب العربي بنظيره الروسي بعد اندلاع الثورة البلشفية وما تمخضت عنه من صياغة واضحة للواقعية الاشتراكية
التحق تولستوي بقسم اللغات الشرقية “العربية والتركية” بجامعة كازان الروسية إذ كان يود ان يصبح دبلوماسياً في المنطقة العربية غير أنه رسب في السنة الأولى ولم يُكمل دراسته، كما أن المجموعة الكاملة لأدب تولستوي تضم 40 كتاباً يخص التراث العربي، وفي عمر الثانية عشر قرأ الكاتب الروسي مكسيم غوركي “ألف ليلة وليلة” وهو ما أثر كثيراً في تكوين وعيه المبكر بالأدب والثقافة العربية.
كيف أثر الأدب الروسي على الأدب العربي
بدأ تأثر الأدب العربي بنظيره الروسي بعد اندلاع الثورة البلشفية وما تمخضت عنه من صياغة واضحة للواقعية الاشتراكية، فبعد الثورة نظر أدباء العرب للأديب الروسي نظرة إجلال وتقدير بسبب انحيازه للفقراء ووقفوه إلى جانب الفلاحين والشعور بمعاناتهم هذا فضلاً عن الانتصار للقيم الإنسانية والتوغل في عمق الوجود البشري.
وفي الثلاثينات ازدهرت حركة الترجمة عن الروسية حيث توفرت ترجمات كثيرة لأعمال كبار كتاب روسيا مثل تولستوي ودستويفسكي تشيخوف وتورجينيف ومكسيم غوركي صاحب رواية “الأم” الشهيرة التي أضحت نموذجاً للواقعية الاجتماعية وألقت الضوء على الدور الذي من الممكن أن يلعبه الأدب في مواجهة الظلم الاجتماعي إذ كان الكتاب العرب مطلعين آنذاك على الحراك السياسي والثقافي الروسي.
ففي كتابه “فجر القصة المصرية” ذكر الأديب المصري يحيى حقي أن القاص المصري محمود طاهر لاشين قد تأثر بالأدب الروسي إلى الحد الذي جعله قام بنقلة نوعية كبيرة في القصة القصيرة المصرية والسرد القصصي بشكل عام إذ ابعتد عن النموذج التقليدي لكتابة القصة القصيرة القائم على الإغراق في استخدام المحسنات البديعية والزركشات اللغوية ليقرر الالتحام بالمجتمع ومشكلاته.
انطلاقاً من واقعية تشيخوف الأدبية كان لابد لكتاباته أن تعكس الأوضاع السياسية والثقافية والمجتمعية بصورة واسعة وعميقة ودقيقة للمجتمع الروسي
وفي روايته “شرق المتوسط” تأثر الأديب السعودي عبد الرحمن المنيف برواية “ذكريات من بيت الأموات” لعملاق الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي؛ إذ يتحدث ديستويفكسي في روايته التي تندرج ضمن أدب السجون عن التعذيب الجسدي للمعارضين السياسيين، وقد قرأ أحد الضباط الروس هذه الرواية وتأثر بها تأثراً شديدة إلى الدرجة التي دفعته إلى الكتابة إلى الإمبراطور الروسي حيث يرجوه أن يلغي التعذيب الجسدي الذي وصفه ديستويفسكي في روايته وبعد سنة انتهت اللجنة التي شكلها الإمبراطور الروسي إلى قرار بإلغاء التعذيب في السجون الروسية وذلك خلال عام 1863، جدير بالذكر أن منيف ذكر هذه الرواية بالاسم في عمله الأدبي “شرق المتوسط”، وبعد 25 عاماً من نشر الرواية كتب منيف “كنت اظن ان الإشارة الى ما يحدث في تلك السجون كفيل بأن يقضي عليها” قاصداً تكرار الموقف الروسي ولكن ذلك لم يحدث.
يوسف أدريس.. أنطون تشيخوف العرب
ببراعة منقطعة النظير كان الأب الروحي للقصة القصيرة في العالم أنطون تشيخوف يجسد الواقع إليه يعود الفضل في ارتفاع نبرة الواقعية في الأدب العالمي: فعلى سبيل المثال ومن خلال مسرحيته الشهيرة “الشيقات الثلاث” يغوص بنا تشيخوف داخل حياة هؤلاء الشقيقات الذين وعبر أفعالهم الروتينية اليومية البسيطة مثل التنظيف وتحضير العشاء والتحدث إلى الهاتف ينقلون لنا ثقل الحياة بواقعيتها وتفاصيلها، فمسرحية تشيخوف لم تكن تحمل حبكة درامية ولا حدث طارئ سيغير مسار الأحداث إذ أن بطل الحياة هنا هو عادية الأحداث: الأحاديث والذكريات والحزن والغضب.
صنع الأديب المصري الشهير يوسف إدريس مدرسة أدبية خاصة به سار فيها بدقة متناهية على خُطى الأديب الروسي الشهير أنطون تشيخوف
وانطلاقاً من واقعية تشيخوف الأدبية كان لابد لكتاباته أن تعكس الأوضاع السياسية والثقافية والمجتمعية بصورة واسعة وعميقة ودقيقة للمجتمع الروسي، وكان مضمون مؤلفاته يرتكز على النقد المرير والساخر لنمط الحياة الروسية والمظاهر المجتمعية السلبية المرافقة له، وعلى الرغم من أن أبطال تشخوف يدركون فداحة الواقع ويحلمون بتغييره إلا أنهم يعجزون عن ذلك.
الأديب المصري يوسف أدريس
صنع الأديب المصري الشهير يوسف إدريس مدرسة أدبية خاصة به سار فيها بدقة متناهية على خُطى الأديب الروسي الشهير أنطون تشيخوف: ففي كتاباته عمد إدريس إلى تدمير التابوهات وزلزلة المألوف وتشريح جميع قطاعات الشعب المصري، والاقتراب إلى حد كبير من مجتمع القرية المصري وتجسيد حياة البسطاء وما يعانون منه في المجتمع.
يوسف إدريس نفسه ذكر أنه تأثر بشدة بأدب تشيخوف؛ ففي حوار أجراه مع غالي شكري لصالح مجلة الحوار في ديسمبر/كانون الأول 1965 ذكر إدريس ““لقد خضت مع تشيخوف بالذات تجربة، فعلا، ذلك يعنى أنك عندما تقرأ تشيخوف، فإنك تصبح شئت أم أبيتت شيخوفيا، ولهذا، فعندما حاولت الكتابة بعد قراءتى لأعماله، أحسست أن رؤيته قد فرضت نفسها عليّ، ولكن برهافة إلى حد أننى كنت الوحيد الذى لاحظ ذلك، وطالما أن الأصالة تستند على الرؤى الأصيلة، كان على أن أناضل لأحرر نفسى من السيطرة القاهرة التى فرضتها رؤيته وأفكاره على أعمالى، لقد كانت معركة شرسة ومريرة كلفتنى عاما كاملا تقريبا هو عام 1955“
وعلى غرار أبطال تشيخوف لم يكن أبطال يوسف إدريس أيضاً بالقوة الكافية لتغيير الواقع الاجتماعي: فعلى سبيل المثال وفي رواية “الحرام” عجزت عزيزة التي تعرضت للاغتصاب عن الدفاع عن نفسها وقد أسفر هذا الاغتصاب عن حملها وهنا بدأت معاناتها الجحيمية مع المجتمع حتى ماتت في النهاية كطرف خاسر ضد المجتمع الذي يدين الضحية ولا يدين الجاني.