تعد تركيا من أغنى الدول بالأقليات العرقية، فهي تجمع بين قوميات مختلفة تعيش تحت مبدأ الوحدة العرقية التي أقرها مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك في البلاد من خلال اتفاقية لوزان الثانية نظرًا لدورهم المهم في البنية الاجتماعية والتاريخ العثماني والتركي، ومن أبرز هذه المجموعات هم الشركس الذين تم تهجير نحو مليوني نسمة منهم عقب استيلاء روسيا القيصرية على منطقة القوقاز في القرن ال19.
من هم الشركس؟ وكيف أتوا إلى الدولة العثمانية؟
يقول الروائي والمؤرخ الشركسي محي الدين قندور أن بعد 35 سنة من الدراسات المستمرة تم إثبات أصول الشعب الشركسي المنحدرة من الإمبراطورية الحيثية، وهم منقسمين إلى قسمين مختلفين جدًا، من الناحية التاريخية والاجتماعية وليس القومية، فالقسم الأول هم شراكسة الشرق الذين ينتمون إلى قبرطاي الكبرى والصغرى والموالين لروسيا، والقسم الآخر ينتمي إلى مناطق شمال جبال القوقاز وسواحل البحر الأسود.
عند سقوط الدولة البيزنطية اعتنق الشركس الدين الإسلام على يد العرب والأتراك واتبعوا المذهب السني الحنفي
جاءت تسمية الشركس من اسم “كركس” أو “سرست” الذي لقب به قدماء اليونان إحدى قبائل الشركس، وهذا اللقب جاء تحديدًا من جيرانهم الفرس ويعني الرجال الأربعة وذلك لأنه ورد في الكتابة العربية القديمة لأن “جهار” و”جار” بمعنى أربعة و”كس” بمعنى رجال، ويتألفون من الأديغة والوبخ والأبخاز، وذلك وفقًا لكتاب “الوطن في أدب الشراكسة” لإيمان بقاعي.
في بداية الأمر فتحوا الأبواب أمام المبشرين بالمسيحية من اليونان ونشروا هؤلاء الدين المسيحي وبنوا الكنائس وأدخلوا الكثير من الرهبان إلى أن انتشرت المسيحية في البلاد في القرن السادس، ولكن عند سقوط الدولة البيزنطية حولوا إلى الإسلام على يد العرب والأتراك إلى انتهى الحكم الإسلامي في بلادهم مع بداية الحروب الصليبية وقضاء الاتحاد السوفيتي في عهد ستالين على رجال الدين الإسلاميين والمساجد.
ونتيجة لذلك، أصاب الشعب الشركسي الكثير من التشتيت والفراغ فيما يخص هويتهم الدينية، ولكن عندما انهار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 بدأ العديد منهم بالعودة إلى الدين الإسلامي والآن هم مسلمون ويتبعون المذهب الحنفي. وبحسب المصادر التاريخية، فإنهم قومًا “حافظوا على قوميتهم وجنسيتهم، فلم يختلط بدمهم دم آخر ولم يدس في عرقهم عرق أجنبي رغم تقلب الفاتحين والمغيرين على بلادهم”، وقيل أنهم من أوجدوا أسماء السنين والشهور والأيام، وهم من قسموا السنة إلى 12 شهر والشهر إلى 4 أسابيع والأسبوع إلى 7 أيام.
طلبت اليونان من الإمبراطورية العثمانية بعدم تركيز الشركس على حدودها بالقرب من البحر الأسود، وخوفًا من اندلاع صراع دولي، اضطرت السلطات إلى توطين حوالي 45 ألف لاجئ في الدول العربية
كما كان موقعهم الجغرافي نعمة ونقمة في الآن ذاته، فقد كانت ممر أساسي بين مناطق وسط آسيا وأوروبا، ومركز تجاري لتبادل السلع بين الهند والصين وأوروبا، ما جعلها بقعة مهمة للتبادلات والقوافل التجارية البرية والبحرية، ولكنه كان سببًا أيضًا في تحفيز المصالح الروسية التي أرادت دومًا أن تستولي على الجزء الشمالي من القوقاز وثرواتها، إلى جانب أحلام الدولة العثمانية التي سعت للاتصال بأتراك آسيا في تركستان لتقوية نفوذها وتوسيع هيمنتها. انتهت هذه الأطماع بشن حرب روسية شرسة استمرت حوالي 101 عام بين عامي 1763 و1864.
شهدت البلاد خلالها على مقتل الآلاف وتهجير الملايين إلى ولايات الدولة العثمانية، مثل بلغاريا وصامسون وسينوب وطرابزون، وبعد ذلك تم تفريق قسمًا منهم إلى سوريا والأردن وفلسطين ولبنان وليبيا (أسسوا مدينة مصراتة)، فلقد طلبت اليونان من الإمبراطورية العثمانية بعدم تركيز الشركس على حدودها بالقرب من البحر الأسود، وخوفًا من اندلاع صراع دولي، اضطرت السلطات إلى نقل حوالي 45 ألف لاجئ إلى سوريا وتحديدًا إلى هضبة الجولان وحلب واللاذقية وطرابلس، كما تم توطين آخرين في الدول العربية التي ذكرناها في البداية.
وحين أصبحت 3 أرباع هضبة الجولان في حرب الـ67 تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، حاول حوالي 18 ألف شركسي الهجرة إلى وطنهم الأم بمساعدة الاتحاد السوفيتي، ولكن السفارة السوفيتية رفضت الطلب على اعتبار أنها غير قادرة على استقبالهم أو مساعدتهم، وبالتالي اضطر عددًا كبيرًا منهم الرحيل إلى الولايات المتحدة.
أما الذين بقوا في المدن السورية الأخرى، فمن الواضح أنهم نجحوا بعد حين في الاندماج، إذ تشير قائمة حكام دمشق أن في الفترة الممتدة ما بين عام 1516 و1758 تولى الحكم 16 باشا من بينهم 7 شركسين، ومن أبرزهم الرحالة أوليا شلبي الذي كان نموذجًا للمقاتل والفارس الشركسي المثالي، وبصفة عامة، تولى الضباط الشركس مناصب مهمة في جميع أنحاء الولايات العثمانية، سواء في بيروت أو دمشق أو عمان أو مكة المكرمة.
قدرت الدولة العثمانية مهارات الجنود الشركس العسكرية، وخبرتهم العالية التي اكتسبوها نتيجة حربهم مع الروس، فاستغلتهم في صفوفها العسكرية ومراكزها الإدارية
وفي أحيانٍ أخرى تطورت العلاقات إلى المصاهرة، ففي فترة الانتداب الفرنسي في سوريا، تم تعيين أحمد نامي رئيسا للدولة السورية، في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، كما تزوج ابنة السلطان عائشة سلطان وأصبح صهره وقد كانت أصوله شركسية.
الشركس حاليًا
خلال أول فترتين من عهد حزب العدالة والتنمية من 2002 إلى 2011، قرر الحزب رفع بعض الحظر على الحقوق اللغوية للأكراد والمجموعات العرقية الأخرى وهذا خلق جوًا للشركسيين ليعبرو عن ا أنفسهم للجمهور التركي. ولأن المجموعات الشركسية لم يكن لديها بالفعل أي وسائل إعلام قديمة، فقد استخدموا الإنترنت لإنشاء اتصالات داخل تركيا ثم عبر الحدود – في الأردن، وأوروبا، والولايات المتحدة، وشمال القوقاز نفسها، وتزامن هذا أيضًا مع اختيار سوتشي لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014، في عام 2007، وقد ثبت أن هذا كان دافعًا للنشاط الشركسي على المستوى العالمي.
كان أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية في عام 2001 من الشركس وهو عبد اللطيف سينر
أما بالنسبة لحزب العدالة والتنمية نفسه، فقد كان عبد اللطيف سينر، أحد مؤسسي الحزب في عام 2001، وشغل منصب نائب رئيس الوزراء، والمثل في حزب الشعب الجمهوري والحزب الديمقراطي الشعبي وحتى الحركة القومية.
بالنهاية هم موجودون اليوم في تركيا بمنطقة مرمرة (إسكي شهير وبورصة وبالبكسير وتشاناقالي ويالوفا وساكاريا وبيلجيك)، بالإضافة إلى صامسون وسينوب وقيصري وكهرمان وغيرها من المناطق، ويحتلون المرتبة الثالثة في تركيا من حيث المجموعات العرقية بعد الأتراك والأكراد، حيث يعيش فيها نحو 5 مليون شركسي بينما يقدر عددهم الإجمالي من 8 إلى 10 مليون نسمة حول العالم.