نستعير من الإخوة الجزائريين مفهوم الحقرة (بضم الحاء وتسكين القاف) التي تعني الاحتقار الشديد لنصف به سلوك من حكم تونس بعد الثورة، إذ نعتقد أن حقرة الحكام للشعب هي الموجه الرئيسي لأفعال السياسة في تونس، ولن أعود إلى ما قبل الثورة فذلك كان ديدن من حكم منذ تأسيس الدولة، ولكن أمل الناس من الثورة أن تنتهي الحقرة لكنها زادت.
لكن قبل أن نقرأ سلوك الحكام الجلي من قراراتهم وأقوالهم فإنه من الموضوعية والإنصاف أن نطرح السؤال: هل الشعب ضحية أم مشارك في احتقار ذاته بما يجعل الحكام يعاملونه بكل هذه الدونية؟
الشعور بأن الحكم مرمي على قارعة الطريق
هناك جملة سياسية تتكرر في تونس منذ الثورة أن الحكم كان مرميًا على قارعة الطريق والجيش الوطني رفض التمتع به مفضلاً مراقبة العمل السياسي من ثكناته تاركًا لمدنية الدولة أن تتبلور على مهل كما في كل التجارب الديمقراطية الراقية، ولكن هذا الجملة التي تقال في مديح الجيش التونسي التقطها مغامرون سياسيون آخرون وتصرفوا على أن السلطة ومباهجها متاحة وسهلة، بل نجانب الصواب أن نقول إن تعفف الجيش عن السلطة فتح شهية طبقة من المغامرين الصغار الذين ظنوا أنهم قادرون بأقل القليل من الجهد أن يحكموا البلد، ويبدو أن الحقرة عادت من هنا.
من المجاز نعتهم بالزعماء ولكنهم نفحوا صدورهم بصور وظنوا أن ذلك يسهل تمريره على جميع الناس
كان لموجة الفرح بالحرية دور آخر، فقد جرّأت كثيرًا من عوام الناس على الاهتمام بالشأن العام بعد أن كان حكرًا على منتسبي الحزب الحاكم يقودون به قطيع السكان (الذين لم يكونوا أبدًا مواطنين)، ولكن الجرأة تحولت عند كثيرين إلى رغبة في قطف جنى الحرية وكان جناها عندهم مناصب ورواتب ومواقع في الإدارة دون كفاءة أو خبرة، لقد اكتشف تونسيون كثر سهولة السياسة فأن تكون في موقع قيادي في الدولة ليست معجزة خاصة بفئة دون أخرى، من هنا أيضًا دخلت الحقرة.
زعامات مزيفة
من المجاز نعتهم بالزعماء ولكنهم نفحوا صدورهم بصور وظنوا أن ذلك يسهل تمريره على جميع الناس، فبوابات الحرية سمحت بظهور أسماء وجماعات سياسية بلا أدنى موهبة ولا كفاءة ولا خيال سياسي لإدارة بلد قام بثورة خارج الخيال المعتاد للثورات، وآخرهم ولكن يكون الأخير السيد يوسف الشاهد رئيس الحكومة الحاليّة، وأسماء بلا تاريخ مثل سليم الرياحي وبلا علم متخصص مثل وزير الفلاحة وبلا موهبة أو كاريزما مثل مهدي جمعة، وما هذه إلا أسماء قد يتذكرها القارئ لأنها عبرت مجاله البصري في لحظة ما ولكن النماذج كثيرة وكلها لا ترى في السلطة إلا شيئًا مفيدًا في متناول اليد بأقل جهد ممكن، ومن أجل ذلك يمكن الضحك على الشعب بأي كلام وهنا المعضلة الكاشفة للحقرة السياسية.
تجارب مقارنة تبين أن الجرأة على السياسية تقتضي امتلاك قدرة فعلية على القيادة بما هي أولاً إنتاج أفكار وبرامج تستهدف المستقبل، لكن أن يقفز البعض للقيادة دون أن يكون له أي زاد معرفي وتقني وسياسي فهو تعبير فج عن احتقار الجمهور الذي سيستعمل ذريعة باسم الديمقراطية ثم ينسى كأن لم يكن.
من الوقائع المؤلمة في الثورة التونسية والكاشفة رغم الألم لعقل جشع لا يرعوي حادثة تزييف شهادات طبية باسم جرحى الثورة وحدث ذلك عامي 2011 و 2012
لقد جعل هؤلاء السياسيون الطارئون شراء الانتخابات تقليدًا، فأفسدوا به بناء تجربة سليمة في بلد متعطش للديمقراطية، ونحن نراهم الآن يستعدون لدورة أخرى من احتقار الجمهور، لكن لماذا يقع الجمهور في الفخ؟
الجمهور الجشع العجول
من الوقائع المؤلمة في الثورة التونسية والكاشفة رغم الألم لعقل جشع لا يرعوي حادثة تزييف شهادات طبية باسم جرحى الثورة حدث ذلك في عامي 2011 و2012 وتفطنت وزارة حقوق الإنسان إلى تطابق أكثر من ألف شهادة طبية صادرة عن نفس الطبيب بمدينة قفصة بها نفس التشخيص، ونصب كمين للطبيب فكان يحررها في مقهى مقابل خمسمئة دينار للشهادة الطبية الواحدة.
إنها حادثة كاشفة لسلوك يستعجل المنفعة ولو خالف إليها القانون والأخلاق، هذا السلوك العجول هو الذي يجعل أفرادًا يقبلون بيع أصواتهم في الموسم الانتخابي وهم ليسوا قلة بل مناطق بأسرها تغير النتائج فعلاً.
السياسي الذي يعاين هذا السلوك يقدّر أن بائع صوته أو سارق شهادة نضالية هو شخص جدير بالاحتقار ويمكن استعماله لا احترامه وما دام يمكن شراءه فلا داعٍ لبناء منوال تنمية وخطاب موجه للمستقبل، إن الرجوع إلى أطروحة سياسية هنا يصبح نكتة فلمن – يقول السياسي – أوجع رأسي بالأفكار، دنانير قليلة تكفي وبائع صوته لا يحاسب السياسي بل ينتظر الانتخابات القادمة ليبيع.
ليس السياسيون وحدهم من احتقر الجمهور فالنقابيون مارسوا الحقرة بناءً على دراية كبيرة بالجمهور الجشع
ثماني سنوات بعد الثورة في تونس يمكن لأي كذبة غير منطقية أن تجوز على الناس وقد كذب السياسيون أكاذيب غير منطقية سمحت لهم بالظن أن هذا الجمهور يمكن خداعه بسهولة ويمكن بيعه أي وهم ولذلك زادوا في احتقاره ومارسوا عليه السياسية السياسوية بما هي سلسلة من الأكاذيب القصيرة المؤدية إلى فوز السياسي بسرعة.
المطلبية النقابية وجه آخر للحقرة
ليس السياسيون وحدهم من احتقر الجمهور فالنقابيون مارسوا الحقرة بناء على دراية كبيرة بالجمهور الجشع، لقد حولوا الثورة إلى مطالب مادية قطاعية بعيدة كل البعد عن أي أطروحة تنموية شاملة زعمت النقابة دومًا أنها تنتمي إليها، أما الغاية فهي استعمال جشع الجمهور سياسيًا، فالنقابات مسيسة ولها رغبة عجول إلى الحكم، والأصح أن نقول إن سياسيين آخرين يحتقرون الجمهور استولوا على النقابات (لعجزهم عن بناء الأحزاب) وأخذوا بالنقابات مكاسب سياسية بفضل جمهور نهم.
في كل الحالات لم يختلف هؤلاء عن بقية الطيف السياسي، فالجامع بينهم جميعًا أن الجمهور غبي يمكن سوقه في كل اتجاه بإثارة غرائزه وما دام الأمر يقاد بالغريزة فالسياسة غنيمة متاحة.
حمير لتفجير الألغام
يؤثر عن بعض أهالي الجنوب التونسي الذين حضروا الحرب العالمية الثانية وشهدوا اندحار المحور في معارك خط مارث المشهورة، استعمالهم للحمير لتفجير الألغام وذلك أن قومًا عجولين اندفعوا لجمع الفيء فساروا على الألغام فانفجرت بهم، فجاء قوم أكثر تريثًا ودفعوا الحمير إلى أرض المعركة فسارت على الألغام فنظفت لهم الطريق فجمعوا غنائمهم بهدوء.
الأمل المتبقي هو التعلم من الخيبة، فسمعة الجيل السياسي الذي ظهر الآن وتحكم في المشهد منهارة وجمهور كثير ينظر إليه باحتقار يؤذن بسقوطه السريع
هل تكون الثورة التونسية قد دفعت الحمير العجولة لتفجير الألغام لفتح الطريق نحو عمل سياسي منهجي ومنظم ومفيد؟ هذه تعزية من الكاتب تروقه الصورة لأنه يحاول استبقاء الأمل في ظهور نخب تونسية متريثة ومستعدة للصبر على الثورة والبلد ومقدراته وعلى المشهد الإقليمي والدولي المحيط بالتجربة.
الأمل المتبقي هو التعلم من الخيبة فسمعة الجيل السياسي الذي ظهر الآن وتحكم في المشهد منهارة وجمهور كثير ينظر إليه باحتقار يؤذن بسقوطه السريع، ولا نميل إلى الاعتقاد بميلاد حب الوطن لدى جيل جديد قائد متعفف وشهم ونبيل، فهذا لا يكون إلا في القصص أما على الأرض فإن قاعدة الضرر تنفع في إعادة بناء وطن دون حمير الألغام التي تسير الآن بيننا.