عرت حرب غزة القوانين الدولية والإنسانية كافة، أمام الإبادة الجماعية بحق الأطفال والنساء والشيوخ، فلا قانون دولي يردع الاحتلال عن مجازره، ولا محكمة جنائية تحاسب قادته على مخالفتهم للقوانين الدولية، ما دفعهم لمواصلة الحرب، وانتهاك المزيد من القواعد التي حظرتها القوانين الإنسانية.
أحدثت الحرب على غزة، صدمة لحقوقي العالم الذين ينادون بالإنسانية، فلا أحد يسمع صوتهم، ويتمادى الاحتلال الإسرائيلي في قتل زملائهم واعتقالهم تحت وطأة النار، بل وتهديد وتشويه كل من يحاول نقل الحقيقة رغم أنها تكون موثقة بالصوت والصورة.
أما حقوقيو غزة، فلم يقفوا مكتوفي الأيدي، فمن خلال أدواتهم البسيطة استمروا في توثيق جرائم الإبادة، التي أحدثت بعضها هزة أمام الرأي العام العربي والدولي، فأزعجوا الاحتلال الذي حاول ترهيبهم لكنهم واصلوا رحلة التوثيق.
“نون بوست” يحاور رامي عبده مؤسس ورئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، للتعرف على أبرز الانتهاكات الإنسانية التي ارتكبتها “إسرائيل” عند تعذيب الغزيين، بالإضافة إلى تأثير فشل المنظومة الدولية في وقف الإبادة الجماعية، على تحريك الملفات الفلسطينية أمام المحاكم الدولية.
بدايةً حققت بيانات وتحقيقات المرصد صدى واسع إعلاميًا وسياسيًا على الصعيد الإقليمي والدولي.. ما طبيعة الجهود والصعوبات التي واجهتموها لإحداث هذه الضجة؟
عندما تابعنا تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أدركنا أننا أمام موجة عدوان مختلفة، لا تتعلق فقط بردة فعل على هجوم عسكري مسلح ولو كان الهجوم كبيرًا، فكان التوجه ملامسة ذلك بالانخراط وسط الجمهور الفلسطيني وتعزيز فريق المرصد في قطاع غزة، والتعاطي المرن مع التغيرات المرتبطة بحالة النزوح وأوامر التهجير، بحيث نضمن توثيقًا متتابعًا ودقيقًا لكل ما نستطيع توثيقه من جرائم، لأنه لا يوجد أي مؤسسة قادرة على توثيق آلاف الانتهاكات الإسرائيلية.
ولأن عملنا يعتمد على معايير من الجودة والمصداقية في التوثيق وجمع المعلومات، وضعنا آليات مرنة للتوثيق ومتابعة الأحداث والتواصل مع الجهات المختلفة، ووظفنا بعض الإمكانات لتعزيز وصولنا إلى الضحايا.
كل هذه الجهود، وتكامل الأدوار بين وحدات المرصد مكنتنا من إيصال جزء من رسالتنا وإسماع صوت الضحايا على المستويين الإقليمي والدولي، مع إدراكنا أن هذا الجهد لا يزال مقلًا وبحاجة للمزيد.
كيف يعمل فريق المرصد داخل القطاع تحت وطأة الحرب؟ ما أبرز التحديات على مدار عام كامل من توثيق الانتهاكات الإسرائيلية خلال حرب الإبادة؟
فريقنا جزء من ضحايا الإبادة ويعيش لحظاتها ويعمل تحت النار والقصف ورغم الجوع، أغلب فريقنا فقدوا منازلهم، ولدينا باحث تعرض للاعتقال، وجزء من فريقنا فقد أكثر من فرد من أسرته، ورغم ذلك لا يزال على رأسه عمله في رصد وتوثيق الجرائم الإسرائيلية.
وعلى صعيد التحديات فهي عديدة، منها القدرة على العمل والمتابعة رغم خطورة الأوضاع والقصف المتواصل والنزوح القسري والجوع وعدم توفر مقومات عمل، ومواجهة حالة الإحباط واليأس، وعدم الرضوخ للتهديد والخوف، والأعباء المالية الناجمة عن زيادة عدد أعضاء الفريق ومحاولات التقييد على التمويل.
ما أبرز الانتهاكات التي وثقها الأورومتوسطي على مدار عام كامل من حرب الإبادة لإدانة “إسرائيل”؟
لم تبقَ جريمة ولا انتهاك يمكن تصوره إلا ومارسته “إسرائيل” وبتوسع مرعب وكارثي، يكفي اليوم أن لدينا مليوني نازح ومهجر قسرًا، لدينا أكبر عملية قتل جماعي خلال مدة قصيرة تركز على المدنيين، لدينا ما يزيد على 50 ألف قتيل أكثر من نصفهم على الأقل من النساء والأطفال، وفي التفاصيل لدينا جرائم مرعبة على صعيد الإعدام والقتل التعسفي، بما في ذلك قتل رافعي الرايات البيضاء، وقتل المعتقلين وتعذيبهم واغتصابهم، واستخدامهم كدروع بشرية.
لدينا فاجعة التجويع حيث طلبنا بإعلان المجاعة في قطاع غزة، إذ استخدمت “إسرائيل” الطعام والماء كسلاح في حرب الإبادة من اليوم الأول وباعتراف رسمي، في المقابل هناك بلادة عالمية في التعامل مع كل ما يجري، لم نكن نتخيل أن العشرات في عصرنا يمكن أن يموتوا جوعًا، أو أن يقصف ويصاب المئات وتمنع طواقم الإسعاف والدفاع المدني من العمل كما يجري الآن في شمال غزة.
ما الجوانب الإنسانية/الانتهاكات الجسيمة التي لم تأخذ حيزًا كافيًا من التغطية الإعلامية والاهتمام الحقوقي؟
هناك العديد من القضايا، منها التصفيات الجسدية دون أي مبرر، ومنها الانتهاكات ضد المعتقلات والمعتقلين، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، وسياسات توظيف الجوع بهدف الإبادة والتهجير، وغيرها من الأنماط التي ربما لو أتيح للجان تحقيق وفرق حقوق الإنسان أن تعمل بأريحية ستكشف عنها.
هل تعاملتم مع تهديدات إسرائيلية أو مضايقات من شركاء الإبادة الدوليين بسبب طبيعة عملكم؟
هناك تهديدات وهناك تحريض إسرائيلي يزيد ويخفت، ولدينا إدراك أن “إسرائيل” تحاول إلصاق التهم والوصم بكل من يقول الحقيقة، أو حتى نصف الحقيقة، تعرض المرصد لحملات تشويه وتحريض عديدة، وتعرض مقره في غزة للأضرار، وهي جزء من الرسائل التي نفهمها في سياق التحريض والتهديد، لكن كل ذلك لن يؤثر على مواقفنا وإيماننا بالاستمرار لإيصال صوت الضحايا.
كيف استقبلتم خبر محاكمة “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية؟ وكيف ساهم المرصد في دعم ملف الاتهام والإدانة؟
رحبنا بالتدابير التي اتخذتها المحكمة، والقرارات اللاحقة، وكان يفترض أن تتخذ المحكمة تدابير أكثر صرامة وفاعلية، وإلا ما فائدة تدابير لا يوجد التزام بها أو يمكن الاختلاف على تفسيرها؟ مع إعطاء مهل طويلة تستغلها “إسرائيل” في المزيد من القتل والمماطلة.
ومع ذلك قدّرنا مبادرة دولة جنوب إفريقيا، ونحن نتابع مع كل الجهات لتقديم كل ما لدينا من توثيق ليدعم بناء الملف القانوني الذي يدين الاحتلال بهذه الجريمة.
وما موقفكم من محكمة العدل بعد التعنت الإسرائيلي في وقف الحرب وتجاهل المجتمع الدولي لمخرجات الجلسة؟
نحن مستمرون في التوثيق ورفع صوت الضحايا، والتحرك في كل المساحات القانونية الممكنة وآليات المناصرة المختلفة ودعوة آليات العدالة الدولية للقيام بدورها، وفي الوقت نفسه نشعر بالأسى والأسف لحجم الازدواجية والتمييز في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان وضحايا النزاعات المسلحة.
هل سقطت بعض المنظمات الأممية والدولية في فخ التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي؟
بشكل واضح نقول إن تلكؤ المنظومة الدولية عن اتخاذ قرارات حاسمة تجاه الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة منذ 13 شهرًا، يجعلها شريكة في تلك الجرائم، ويمثل ضوءًا أخضر لـ”إسرائيل” للمضي قدمًا في تصعيد جريمة الإبادة الجماعية، كما يعكس تجاهلًا صادمًا لحياة الفلسطينيين وكرامتهم.
والمنظومة الدولية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية والاتحاد الأوروبي ومنظمات الأمم المتحدة المختلفة، جميعها عجزت عن تحقيق الأهداف والمبادئ الأساسية التي قامت عليها، وأظهرت فشلًا مشينًا على مدار 13 شهرًا في الالتزام بحماية المدنيين ووقف جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين في غزة، وهو ما يفترض أن يكون في صميم عملها وسبب وجودها.
واستمرار الجرائم الإسرائيلية في عموم الأرض الفلسطينية المحتلة، وخاصة في قطاع غزة على مدار سنوات، وحاليًّا خلال جريمة الإبادة الجماعية المتصاعدة، يشير إلى خلل بنيوي في منظومة الأمن الجماعي التي أُنشئت لمنع الجرائم الخطيرة وفرض سيادة القانون على المستوى العالمي، وهو ما يُفقد المنظومة الدولية مصداقيتها ويكشف عن هشاشتها وهزليتها أمام حسابات السياسة ونفوذ الدول الكبرى الشريكة في الإبادة، ويفتح المجال لتكريس ثقافة الإفلات من العقاب.
ودون شك أن هذه المواقف الخجولة التي لم ترقَ لما يجري تشجّع “إسرائيل” على توسيع تلك الجرائم بدعم وتسليح من الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية.
ما شكل التعاون بينكم وبين المؤسسات الحقوقية الفلسطينية العاملة في الأنشطة المتعلقة بتوثيق الانتهاكات والضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات مواجهة لها؟
نحن نتحرك في كل المسارات التي من شأنها إيصال صوت الضحايا، وتوفر الفرص لإنصافهم وتحقق المساءلة، وحتى تبصير العالم بحقيقة ما يجري في ظل محاولات التعتيم والتضليل التي تقودها جهات مرتبطة بـ”إسرائيل”.
وفي هذا الإصدار كان لدينا بيانات وتقارير ومؤتمرات مشتركة مع العديد من المنظمات الإقليمية والدولية بشأن نتائج الإبادة في غزة.
برأيك، هل فقد العالم ثقته في المنظمات الحقوقية بعد استمرار حرب الإبادة لعام كامل ضمن تغطية إعلامية ورقمية حية؟ وكيف أثرت هذه الرؤية على سير عملكم ونظرتكم الشخصية للجهود التي تقدمونها بلا كلل؟
بلا شك هناك تأثيرات كبيرة، وهناك حالة إحباط ويأس، فقدان الثقة ليس بالمنظمات الحقوقية بل بمنظومات العدالة الدولية التي سقطت في اختبار ما يجري في غزة، حيث يُداس الإنسان ويتم تجاهل القانون الدولي الإنساني بل الدوس عليه دون ردود فعل ملائمة.
أحد التحديات القادمة على أجندة العالم يجب أن تكون إعادة النظر في كل الآليات والترتيبات التي جاءت بعد الحربين العالميتين، لأنها غير منصفة وغير عادلة، وهي رهن بالدول الكبرى التي ثبت بالدليل القاطع أنها متورطة في انتهاك حقوق الإنسان والتعامل معه بتمييز وازدواجية.
نحاول أن نتحدى كل حالة اليأس والإحباط هذه، لأن لدينا قضية محقة وعادلة وجريمة مروعة يجب أن نوثقها ونوصلها لكل مكان في العالم، ولدينا عهد مع الضحايا وذويهم ألا ننسى، وألا نجعل مجرم الحرب يهنأ بجريمة، سنبقى نذكر العالم ونتحرك حتى تتحقق العدالة والإنصاف.