“بعد نجاح مصر الاستثنائي في إحداث نهضة حضارية وتنموية شاملة خلال 10 سنوات، تستضيف مصر النسخة الثانية عشرة للمنتدى الحضري العالمي، في الفترة من 4 إلى 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، والذي يعود للانعقاد بإفريقيا بعد غياب دام 20 عامًا كثاني أكبر مؤتمر دولي على أجندة الأمم المتحدة، والحدث الأهم المعني بالقضايا الحضرية والتنمية المستدامة، بمشاركة 160 دولة، وأكثر من 20 ألف من ممثلي الحكومات والشركات ومخططي المدن والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني”.
هذا مجرد إعلان مرئي يمكن مشاهدته عشرات المرات يوميًا على مدار الأسابيع الماضية، كجزء من حملة دعاية عجَّت بها القنوات المصرية الحكومية والخاصة الموالية للنظام، والمنصات التابعة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى الهيئات والوزارات التي لا علاقة لها بالمؤتمر، لكنها لم تتوان – بأوامر عليا على ما يبدو – عن الدعوة للانضمام إلى ما أسمته “الحدث الأضخم من نوعه”، والمشاركة في “أكبر منصة عالمية لتحسين جودة الحياة”.
وبينما كان السيسي يعلن افتتاح أعمال المنتدى وسط تصفيق حاد كالعادة، كانت قواته تطلق الرصاص على أهالي قرية جميمة بمحافظة مرسى مطروح الرافضين لمخططات التهجير القسري من أجل إقامة مشروع “ساوث ميد” التابع لرجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، والذي تشرف عليه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وهو أحد مشروعات منطقة “رأس الحكمة” التي باعها السيسي للإمارات في صفقة بلغت 35 مليار دولار.
محاولة جديدة لغسل الانتهاكات
تأسس المؤتمر الرئيسي للأمم المتحدة في عام 2001 لمعالجة قضية التحضر العالمي، وينعقد كل عامين، ويعد المنصة الأولى التي تهتم بمجالات التنمية الحضرية المستدامة للمدن، ويناقش الأطر المثلى لضمان استدامة وأمن البيئات الحضرية، ويهدف لتسريع تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال تبادل الخبرات والحلول المبتكرة لتحسين الحياة في المدن، وإنشاء تحالفات جديدة للنهوض بالتنمية الحضرية المستدامة، ويبحث مواجهة معوقاتها.
هذا المؤتمر الذي ينظمه برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية “الهابينات”، يأتي هذا العام تحت شعار “كل شيء يبدأ محليًا – لنعمل معًا من أجل مدن ومجتمعات مستدامة”، وينعقد في وقت شديد الأهمية، إذ يواجه النظام متعدد الأطراف العالمي والمدن والمستوطنات البشرية في العالم تحديات غير مسبوقة تتعلق بالنمو السكاني السريع والكبير وتغير المناخ والتنمية المستدامة.
ويشير اختيار المجتمع الدولي مصر لاستضافة هذا المنتدى، كأول دولة إفريقية منذ الدورة الافتتاحية في نيروبي بكينيا عام 2002، إلى التماهي مع نظام السيسي الذي يحكم بقبضة من حديد، والذي فرض سلطته التعسفية القائمة منذ سنوات على حساب حقوق المصريين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الذين يتحملون عبء ما يسميه النظام “طفرة التنمية الحضرية والعمرانية”.
وتعد استضافة مصر لهذا المنتدى محاولة جديدة لا تنسجم مع واقع مصر الحقوقي والبيئي والاقتصادي، وتُضاف إلى المحاولات السابقة لتبييض سجل نظام السيسي غير المشرف في مجالات عدة، حيث تعد الجهات الموالية للنظام هذا الحدث إضافة كبيرة لرصيد مصر الحضاري والعمراني محليًا وإقليميًا وعالميًا، وفرصة لاستعراض ما حققته مصر بمجال التنمية العمرانية خلال السنوات العشرة الماضية، وكأن المنتدى العالمي عُقد من أجل استعراض إنجازات “الجمهورية الجديدة”.
وتتعارض مثل هذه الانتهاكات الحقوقية مع مبادئ الشفافية المطلوبة لاستضافة مؤتمرات تابعة للأمم المتحدة، ومع ذلك، سمحت هذه المنظمة الحكومية الدولية بتنظيم المنتدى في قلب العاصمة المصرية القاهرة، على بعد كيلومترات قليلة من أسوأ السجون سمعة، والتي تضاعف عددها مرات منذ تولي السيسي السلطة، ويقبع بين جدرانها آلاف السجناء الذين يواجهون ضروبًا من التنكيل والتعذيب والمعاملة السيئة، ومن بينهم سجناء ونشطاء يُفترض أن يكونوا جزءًا من هذا الحدث العالمي.
ووسط زخم عالمي كبير وترويج لمشاركة وفود دولية وكبار الشخصيات والمسؤولين، يعكس إقامة هذا الحدث في هذا التوقيت مكافأة لنظام استبدادي، ويشير إلى مدى تخاذل ورضوخ الأمم المتحدة وقبولها بالأمر الواقع الذي فرضه النظام المصري، رغم أن خبراءها في مجال حقوق الإنسان سبق أن أدانوا الاستهداف الممنهج للمدافعين عن حقوق الإنسان، ودعوا مرارًا وتكرارًا السلطات إلى حماية حقوق المواطنين في حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات.
وغالبًا ما تستخدم السلطات المصرية عقد مؤتمرات عالمية بهذا الحجم لتبييض السياسات القمعية المستمرة وسجلات حقوق الإنسان المروعة، وهذا يعني أنها ستستخدم هذا المؤتمر الدولي رفيع المستوى للتعمية على سجلها المروع، والرد على الانتقادات التي تطال ملف حقوق الإنسان، خاصة أن منظومة العلاقات العامة في مصر تعمل – منذ الإعلان عن انعقاد المؤتمر في القاهرة – بكامل طاقاتها لتلميع صورة النظام وإخفاء الواقع المروع في سجون البلاد.
وفي حين يجري الحديث عن تنظيم 500 فعالية ومعرض حضري موسع بمشاركة 102 منظمة دولية ومحلية، بما في ذلك المنظمات المدنية التي تطالب بالاهتمام بإجراء إصلاحات فورية ومؤثرة، لم تعلن أي من منظمات المجتمع المدني المحلية المستقلة مشاركتها، ربما هذا ببساطة لأن النظام المصري يلاحقها بلا هوادة، ويتهمها عادة بتلقي تمويلات أجنبية، ويواجه العديد من أعضائها تهم “الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة”.
ويبدو واقع المجتمع المدني في مصر مغايرًا تمامًا لما يروج له النظام خلال هذا المؤتمر، فعلى مدى العقد الماضي، سعى السيسي وأجهزته الأمنية التي تأتمر بأمره إلى القضاء على هذه الأصوات بترسانة من القوانين والممارسات القمعية، في محاولة لمنع تكوين وتشغيل الجمعيات المستقلة، وأدت بشكل أساسي إلى شل المجتمع المدني الذي يُفترض أن يشكل أعضاؤه مكونًا أساسيًا في الجهود العالمية لمواجهة الكثير من القضايا المعلنة على أجندة المؤتمر، وفي مقدمتها تغير المناخ.
ونتيجة للقيود الشديدة التي فرضتها السلطات على حرية التعبير والتجمع، يبدو هذا الحدث منظمًا بطريقة تخفي الواقع الذي تواجهه المنظمات المدنية غير الحكومية في مصر، ومحاولات الحكومة المستمرة والمنهجية لإقصاء نشطاء المنظمات المدنية التي تتناول قضايا البيئة من منظور حقوقي، من بين هؤلاء مثلًا رئيس الجمعية العربية للبيئة والتنمية المستدامة أحمد عماشة، الذي لن يتمكن من الحضور لأنه محتجز تعسفيًا في السجون المصرية منذ يونيو/حزيران 2020.
سياسات متناقضة.. كل شيء والعكس
في نظر الحكومة المصرية ومسؤوليها، يعكس إقامة هذا الحدث في مصر دورها الريادي والاستراتيجي على المستويين الدولي والإقليمي، ويشكل لحظة استثنائية لتسليط الضوء على دور العمل المحلي والتعاون متعدد الأطراف وأهداف التنمية المستدامة، ومع ذلك، تفتقر مصر إلى المقومات التي تؤهلها لاستضافة مثل هذا الحدث العالمي.
ودون الالتفات إلى الآثار الجانبية التي خلَّفتها التجربة المصرية في العديد من المجالات التنموية، تنظر الحكومة إلى هذا الحدث على أنه فرصة لاستعراض إنجازاتها في مجالات الإسكان والمدن الجديدة ومدن الجيل الرابع والبنية التحتية المتقدمة، ويعده المسؤولون أيضًا فرصة لعرض التجارب المتعلقة بتحسين جودة الحياة وحماية البيئة والحد من الفقر، والتشييد والبناء والتحضر والسلام والحياة الكريمة والقضاء على العشوائيات والمدن الذكية والتحول الأخضر.
ويُنظر إلى هذه المجالات على أنها ضرب من الخيال، على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى تحسين جودة حياة المواطنين ومعيشتهم التي يرى وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية شريف الشربيني، أن مصر نجحت فيها، نجد أن الحكومة أغفلت قضايا تعمق الإجحاف المكاني والاجتماعي والبيئي، وافتقر التخطيط العمراني إلى العدالة الاجتماعية، وخرجت فئات سكانية مهمشة أو محرومة من معادلة إتاحة المدن للجميع، وبدلًا من أن تكون تلك المدن مصممة لتلبية احتياجات السكان الحقيقيين، باتت وسيلة لتحقيق أهداف اقتصادية أو سياسية.
أمّا حماية البيئة، فلا تدرك الحكومة حجم الكارثة التي تخيم على البلاد، فالتلوث في العاصمة القاهرة لا تخطئه عين أو أذن، وهو ملحوظ في هوائها وشوارعها ومياهها، وصنفتها مجلة “فوربس” الأمريكية كأكثر عواصم العالم تلوثًا بفارق كبير، بينما كشف موقع “آي كيو إير” المتخصص في رصد التلوث البيئي عالميًا تدني جودة الهواء في وسط القاهرة عن المعايير العالمية المقبولة، وأشار إلى أن مصر تحتل المرتبة التاسعة عالميًا في قائمة أكثر الدول تلوثًا.
وبدلًا من أن تسرِّع الحكومة خُطاها لتحسين بيئة العاصمة وضواحيها، تستمر حملات قطع الأشجار وإزالة المساحات الخضراء بحجة توسعة الطرق العامة وإنشاء محاور مرورية وبناء الكباري لحل مشكلات الازدحام المروي، كذلك ارتكز مشروع “تبطين الترع” على قطع آلاف الأشجار المزروعة على حوافها بحجة المحافظة على مياه النيل وعدم إهدارها، وإعاقتها لعملية تطهير الترع في القرى.
لكن واقع هذه الممارسات التي جاءت تنفيذًا للسياسات العامة للدولة، تضع الحكومة في مواجهة تناقضات سياساتها البيئية، فقد تجاوزت مساعيها الخفية الضرورات العمرانية لتتحول إلى تجارة مربحة عمادها الفحم، وهو ما يفاقم المخاطر البيئية والمناخية التي تهدد البلاد والعباد، والتي كان آخرها ارتفاع درجات الحرارة لأرقام قياسية وصلت في بعض المناطق إلى 50 درجة مئوية، ما أثر مباشرة على الاقتصاد والسلع الأساسية وقطاع الزراعة والحياة اليومية للمواطنين.
وفي السنوات الأخيرة، اختفت الكثير من المساحات الخضراء في المدن مع سعي السلطات إلى تكثيف عمليات الإعمار وبناء مشروعات البنية التحتية والعمرانية والتجارية الكبرى، ونتيجة لذلك، انخفض نصيب الفرد من المساحات الخضراء في المحافظات المصرية، ليصل إلى 17 سنتيمترًا فقط، وهو أدنى بكثير من التوصيات العالمية التي تنصح بـ9 أمتار للفرد بحسب منظمة الصحة العالمية.
🟩 ما هو نصيب الفرد من المساحات الخضراء في مصر؟
🟧 متوسط نصيب الفرد من المساحات الخضراء في مصر هو 17 سنتيمترًا فقط، وذلك رغم أن منظمة الصحة العالمية وضعت معاييرًا توصي بأن يكون الحد الأدنى للمساحة الخضراء للفرد 9 متر مربع.
👈 اقرأ “حتى لا يزول الأخضر”: https://t.co/jKOEwYT8Sz pic.twitter.com/XkU4dVuw0J
— المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (@EIPR) June 10, 2024
وعلى الرغم من الترويج للمدن الجديدة على أنها صديقة للبيئة، فإنه لا يوجد أي إلزام باتباع نظم التقييم البيئي، التي من شأنها أن تعزز التهوية الطبيعية، وتضمن العزل الحراري، على سبيل المثال، تخلو المناطق التي يتم توطين سكان العشوائيات بها، مثل حي الأسمرات، من أي مساحات خضراء، بينما تتزايد في المشروعات الاستثمارية التي تدر أرباحًا كبيرة للحكومة.
وهذا يقودنا إلى الهدف التالي على جدول أعمال المنتدى، وهو مواجهة التغير المناخي، والذي تعتمد قضاياه على وجود منظمات المجتمع المدني الغائبة، ففي حين تستعرض مصر جهودها في دمج ملف تغير المناخ بالمجتمعات العمرانية، فإنها ما زالت تعتمد على الوقود الأحفوري في إنتاج أكثر من 90% من طاقتها، وتمثل موجات الحر الناتجة عن السياسات غير المتوازنة بين الأهداف الاقتصادية والبيئية، نموذجًا لتفاقم الكلفة الاقتصادية للتغيرات المناخية، حتى باتت إحدى الدول الأكثر عرضة للتضرر من التغيرات المناخية، ويُتوقع أن تواجه في المستقبل خطر غرق 10 محافظات، وتضرر آلاف الأفدنة من الكتلة العمرانية، وفقدان ملايين الأفدنة الزراعية جراء الاحتباس الحراري.
وعلى عكس ما يُروَّج له من مكانة كبيرة لمصر في أساليب التعامل مع تغير المناخ، لم تسع الحكومة بشكل جدي للحد من هذه الآثار المدمرة للتغيرات المناخية، ونتيجة لذلك، تراجع تصنيفها في مؤشر أداء تغير المناخ لتحتل المركز الـ22، مقارنة بالمركز الـ20 في عام 2023، رغم حصولها على عدد كبير من المنح المالية خلال استضافتها مؤتمر تغير المناخ “كوب 27” في مدينة شرم الشيخ، ما يثير تساؤلات عن مصير تلك التمويلات، خاصة في ظل انعدام شفافية المعلومات في القطاع البيئي.
أمَّا هدف الحد من الفقر في المناطق الحضرية فيبدو غير واقعي، فالمؤتمر يُعقد في بلد تحوم معدلات الفقر فيه حول 30%، وفقًا لأحدث الإحصاءات الحكومية، ورغم محاولات نظام السيسي إخفاء الأرقام والتلاعب بها، من المتوقع أن يكون الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، خاصة في ظل زيادة نسب التضخم، وقد يصل إلى 60% بالمعدل العالمي.
ولا يخفى على أحد تجاهل الحكومة إنفاق المليارات على مشروعات غير ضرورية وبناء القصور الرئاسية ومبان ومدن ضخمة بدلًا من الإنفاق على أولويات البلاد من تعليم وصحة، ما أدخل البلاد في أزمة اقتصادية دفعت نظام السيسي إلى اتخاذ قرارات صعبة على المصريين.
وفي حين يهدف المنتدى إلى تسريع تحقيق أهداف التنمية المستدامة، فإن استراتيجية مصر للتنمية المستدامة لعام 2030، يبدو أنها تقتصر على شعار “مصر بلا عشوائيات” الذي تصدر عناوين الصحف وخطط مصر للتنمية، واعتمدت في تنفيذها على القضاء على الفقراء أنفسهم ومبانيهم التي شيدوها بسواعدهم.
وارتبطت خطة التنمية العمرانية للقضاء على العشوائيات بظهور مصطلح “الجمهورية الجديدة” في عام 2021 الذي روَّج له السيسي آنذاك، معتبرًا أن الإعلان عنها مرتبط بافتتاح العاصمة الإدارية الجديدة التي تغذيها أموال الخزائن العامة، رغم إصرار السيسي على أن “موازنة الدولة لم تقدم فيها قرش”، في حين يواصل دعوة المواطنين للتقشف، وهو ما يناقض تصريحات لوزير المالية المصري أحمد كوشوك برر فيها خلال المنتدى تعثر تحقيق أهداف التنمية المستدامة بالصعوبات التمويلية.
في هذا الصدد، يتخذ النظام المصري العاصمة الإدارية مثالًا للمدن التي تتبنى معايير الاستدامة، وهي المدينة ذاتها التي لا تُخفى الأسباب السياسية خلف إنشائها، ومحاولة محاكاة مدن عربية أخرى بإنشاء مبان تعجب السياح، لكنها تُوصف بـ”فقاعة السيسي في الصحراء”، فقد سخّر كل موارد الدولة لمشروع مرشح للانهيار بسبب ضعف السيولة اللازمة، وتمثلت الكارثة الحقيقية في ضخامة القروض الداخلية والخارجية التي حصلت عليها الحكومة لتنفيذ حلم السيسي بأي وسيلة ممكنة.
من الناحية البيئية، تحذر دراسة فنية لمركز “حلول للسياسات البديلة” التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة من خطورة التصميمات التي أُنشئت على أساسها مباني العاصمة الإدارية، ما ينذر بكارثة بيئية في ظل الأزمات التي تعيشها مصر، مشيرة إلى أن الأبنية الجديدة بحاجة ملحة إلى التبريد الدائم، ما سيدفع الحكومة للاعتماد بنسبة عالية على استخدام المكيفات، الأمر الذي سيزيد الضغط على شبكات الكهرباء ويرفع استهلاكها، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد أزمة كهرباء طاحنة.
كما يسلط المنتدى الضوء على التحديات التي تواجه المدن الإفريقية، خاصة مع النمو السكاني السريع، وهي الشماعة التي يعلق عليها السيسي ومسؤولوه وأجهزته الإعلامية فشل السياسات الحكومية، فقد أصبح من المعتاد ألا يفوت مناسبة للحديث عن أخطار الزيادة السكانية وتأثيرها على النمو الاقتصادي.
جرائم التنمية العمرانية
في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بثت قناة باسم “المنتدى الحضري العالمي” المنشأة حديثًا على “يوتيوب”، فيلمًا تسجيليًا قصيرًا استعرض ما أسمته “رحلة مصر في التحول الحضري غير المسبوق” خلال السنوات العشرة الأخيرة، وكيف انتشل السيسي ملايين المصريين من براثن العشوائيات والمناطق غير الآمنة، وكأن الحديث عن مصر أخرى غير تلك التي يشهد الكثير من سكانها في مختلف المدن المصرية عمليات إخلاء قسري من منازلهم بدعوى التطوير والتخطيط العمراني، رغم أن الكثير من المناطق غير متدهورة عمرانيًا وغير عشوائية.
ولم يغفل الفيلم الترويجي الحديث عما أسماه “نصيب القاهرة الأكبر من الإصلاح والتطوير والحفاظ على التراث الحضاري والمعماري في جميع المحافظات”، والواقع أن ما حدث مؤخرًا يقول عكس ذلك، فقد دأب السيسي على تشويه الوجه التاريخي للقاهرة بدعوى تحديثها، وهدمت الحكومة آثار مصر، من بينها آلاف المواقع والمقابر الأثرية والجبانات والقصور التاريخية والمراكز الثقافية والأضرحة الدينية والحدائق وورش العمل الحرفية، لكن ذلك كله لم يمنع السيسي من ذكر أن أحد الدوافع لاستضافة القاهرة هذه النسخة من المنتدى أنها “واحدة من أهم الحواضر وأعرق عواصم العالم”.
ممارسات الهدم الجائر لبيوت الناس وحياتهم، لتاريخهم ومقابر أهاليهم، بيتم من خلال مجموعة مرتزقة وجهلة شافوا إزالة منطقة تراثية زي عرب يسار وبناء قباب بائسة مكانها انه تطوير، ووسط ده كله استضافوا حفلة المنتدي الحضري العالمى للعمران!#انقذوا_القاهرة_التاريخية#WUF12 #WUF12Egypt pic.twitter.com/bFcsp1Z1Q2
— رشا عزب (@RashaPress) November 5, 2024
وكما جرت العادة، يحدث كل ذلك تحت ذريعة التطوير وإفساح الطريق للكباري وإنشاء مشروعات تطوير عمراني وتجاري تنتهجها السياسة العامة للدولة في الوقت الراهن، ومن ثم يتفاخر المسؤولون بهذه الممارسات أمام الحضور في المنتدى باعتبارها إنجازات يُحتذى بها، متجاهلين أن مصر تأتي في مقدمة الدول التي تعاني من حوادث الطرق، التي هُدم من أجلها تراث عريق.
الوجه الآخر لهذه التنمية العمرانية والحضرية ظهر قبل ذلك، فمنذ 10 سنوات على الأقل، وخاصة خلال الولاية الثانية لحكم السيسي، توسعت الحكومة في التنمية العمرانية المصحوبة بسياسات الإكراه وفرض السيطرة، وتزايدت عمليات إخلاء المنازل بالقوة، وطُرد سكان الكثير من الأحياء في مواقع مميزة بعد تصنيفها على أنها “فقيرة أو شعبية أو عشوائية أو غير آمنة” كمبرر لإخلائها والسيطرة عليها.
وفي مخالفة للتشريعات والقوانين المصرية والمعاهدات الدولية، لم يجد الأسوأ حظًا من السكان إلا الشارع مأوى لهم بدلًا من توفير مساكن بديلة أو تعويضهم ماديًا، في حين دُفع الأوفر حظًا منهم دفعًا لقبول تعويضات مالية أو الانتقال إلى مجتمعات عمرانية جديدة يصفه البعض بـ”سجون مفتوحة”، ويقولون إنها لم تراعِ احتياجاتهم الحياتية والمعيشية، بينما أُسندت مهمة تطوير مناطقهم السابقة إلى مستثمرين وشركات خليجية كبرى.
ووفقًا للباحثة العمرانية أمنية خليل، شهدت محافظتي القاهرة والجيزة النسبة الأكبر من عمليات الإخلاء القسري، وصلت إلى نحو 10% من السكان بين عامي 2018 و2022، حيث أخلت الحكومة بالقوة، وهدمت أكثر من 57 ألف وحدة سكنية يقطنها نحو 2.8 مليون نسمة تم تشريدهم وإجلائهم من مساكنهم في المحافظتين الأكثر اكتظاظًا بالسكان، واللتين تمثلان القلب الحضري للبلاد.
أحد الأسباب الرئيسية لزيادة هذه الاخلاءات في تلك المناطق، خاصة الفقيرة والعشوائية منها، تكمن في رغبة الحكومة في استغلالها اقتصاديًا، حيث يقع الكثير منها في مواقع حيوية تثير شهية أجهزة الدولة والشركات الخاصة ورجال الأعمال للاستيلاء عليها، بالإضافة إلى الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية والإمارات، التي توغلت في الاقتصاد المصري، وهذا ما يجعل حياة واستقرار المواطن لا قيمة لهما أمام مصلحة الحكومة والمستثمر الأجنبي.
وباختلاف ظروف هذه المناطق وموقعها المتميز وأهميتها الاستراتيجية، فإن التهجير القسري كان أسلوب الدولة في التعامل مع سكانها، فبحلول أغسطس/آب عام 2018، سُويت منطقة ماسبيرو في وسط القاهرة بالأرض تمامًا، بعد دفع سكانها للخروج منها بناءً على تسويات مع الحكومة، ولم يُسمح لهم بالعودة إليها لاحقًا.
وليس ثمة أمثلة أكثر دلالة على ذلك مما يحدث منذ سنوات وحتى اليوم في جزيرة الوراق ذات الموقع المتميز وسط نيل الجيزة، والتي يتهم السيسي سكانها صراحة بالاستيلاء عليها، ما أعطى الضوء الأخضر لأجهزته الأمنية لهدم المنازل واخلائها وسط اعتراضات سكانها وتظاهراتهم المستمرة ضد الإخلاء، بينما تواصل السلطات حصارهم والضغط عليهم للتنازل عن الأرض سواء بالإغراءات المالية أم الاعتقالات التعسفية.
في الوقت اللي بتستضيف فيه مصر المنتدى الحضري العالمي مستعدة تضرب مواطنين بالنار علشان تجليهم عن ارضهم علشان يتعمل منتجع .
مافيش عمران حقيقي من غير عدالة و مشاركة للمجتمع.#WUF12 https://t.co/VbSH2ijpNy
— Mahienour El-Massry ماهينور المصري (@MahienourE) November 5, 2024
وفي أواخر أغسطس/آب 2020، تحدث السيسي بكلام استهجنه كثيرون، وأرفقه بتهديد بإنزال الجيش إلى القرى في جميع المحافظات للتصدي لمخالفات البناء والتعديات على الأراضي الزراعية، وكان حديثه أمرًا قاطعًا لجميع الجهات الحكومية بالإسراع في تطبيق ما يُعرف بـ”قانون التصالح”، وهو قانون يدعو المصريين الذين يقطنون في بيوت مخالفة لدفع مبالغ باهظة لا يقدر غالبيتهم من الطبقات المطحونة على دفعها.
وانطلقت حملة خشنة في مختلف مناطق القاهرة الكبرى والمحافظات تفرض على الناس دفع ما أسماه البعض “جباية للدولة” أو إخلاء منازلهم، وهي “شقى عمرهم” كما يقولون، تمهيدًا لهدمها، كما لم تسلم من أعمال الهدم مساجد ومنشآت بُنيت قبل عشرات السنين، في مشهد بدت فيه الدولة المصرية كمن تعاقب مواطنيها على فساد أجهزة حكمها المحلية وقصور جهاتها الإدارية وعجزها عن ضمان حق السكن الآمن لمواطنيها.