“التدمير الكامل” كان التهديد الأبرز في تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضد كوريا الشمالية، خلال حملته الانتخابية وبعد فترة وجيزة من تسلمه مقاليد الحكم، لكنه لم يواظب على هذه التهديدات، إذ جنح للسلم والمفاوضات التي كسرت العُزلة الدولية على كوريا الشمالية التي تُوقع، لوهلة، احتمال تعرضها لحربٍ أمريكيةٍ نوويةٍ، بحسبان حدة الجمل التي استخدمها ترامب قبل المفاوضات.
ولم يختلف الأمر في تصريحات الرئيس الأمريكي فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، إذ لا يفتأ ترامب يُهدد إيران، ويصفها بالدولة “المارقة” و”الديكتاتورية”، وما يُشتت عقل المتابع لفهم حقيقة وطبيعة الموقف الأمريكي، هو تناقض الأخير، إذ بالرغم من لغة الهجوم اللاذعة، يُلامس، أحيانًا، وبالارتكاز لعدة مؤشرات، تقديم واشنطن فرصة لطهران للعودة إلى المفاوضات، ففي حال تم ترجيح سيناريو ميل واشنطن، بإدارتها الحاليّة، للتفاوض مع طهران، متى تبدأ المفاوضات بين الطرفين؟
سيناريو التحجيم الجزئي
إن تم ترجيح سيناريو ميل واشنطن للتفاوض، فلا بد من ذكر بعض المؤشرات التي تدعم ترجيح هذا السيناريو، “فالبينة على من ادعى”، مؤشرات كثيرة لا تنتهي، لكن أهمها: طرح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، 12 شرطًا تركّزوا حول إيقاف تطوير البرنامج النووي في الداخل والخارج، وألمحت إلى عدم رغبة واشنطن في مواجهة شاملة مُطلقة ضد إيران، بل بتوافق يضمن مصالحها وحلفاءها في المنطقة، وإدراج 8 دول ضمن قائمة الدول المعفية من العقوبات الأمريكية ضد إيران، والسماح للقوات الإيرانية بالوصول إلى البوكمال السورية المحاذية للحدود العراقية، تمهيدًا لمنح إيران فرصة مد خطها الإستراتيجي “الخط الإسلامي” الخاص بنقل غازها الطبيعي إلى أوروبا، والتغاضي عن تأسيس الدول الأوروبية “محفظة” تستمر من خلالها في التعامل تجاريًا مع إيران، وغيرها الكثير من المؤشرات التي تفنّد سيناريو توجه واشنطن نحو توجيه ضربة مُطلقة ضد طهران.
إذ إن الرغبة الأمريكية تقوم على تقليل كلفة أي تحرك عسكري، لا سيما في ظل معارضة دول الاتفاق النووي الأخرى لفرض عقوبات على إيران، ما يوقع واشنطن، وبالأخص في ظل إدارتها الحاليّة، في وقع التردد في التصعيد.
بالركون إلى الصفة الأساسية لإدارة الرئيس ترامب، صفة الرغبة في تحصيل الأفضل بأقل التكاليف، يبدو أن موعد التفاوض بين الطرفين متاح منذ اليوم الأول لتولي الرئيس ترامب
من ناحية علمية، يُمكن وضع التحرك الأمريكي حيال طهران ضمن إستراتيجية “العصا الغليظة” التي تعني تقليم أظافر الخصم أو المنافس في المناطق “المُفيدة” بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، من خلال اتباع إستراتيجية “الاحتواء والتطويق” التي تعني تكاتف الدول الإقليمية المُحالفة لواشنطن في احتواء وتطويق قوة الدولة المُستهدة ونفوذها، أيضًا من خلال استهداف قوة هذه الدولة في حال خرجت عن الإطار المرسوم لها.
ويبدو أن هذه الإستراتيجية اقتربت من النضوج والتحول لواقع، فإعلان نشوء “الناتو العربي” الذي يُتوقع أن يشارك في تطويق النفوذ الإيراني بالانتشار على امتداد أجزاء من الحدود العراقية ـ السورية، بات على الأبواب، والتصريحات الأمريكية برغبتها في الحفاظ على وجودها في قاعدتي “الزكف” و”التنف” القريبتان من النفوذ الإيراني في البوكمال، يُفصحان عن صورة الإستراتيجية المذكورة ضد إيران في سوريا.
والأفضل عدم وضع الأمر فقط في إطار سوريا، فقد تُشهد محاور هذه الإستراتيجية في إجبار إيران وعناصرها المُحاربة بالوكالة، على الانسحاب من بعض المناطق في العراق واليمن أيضًا.
وربما يُلاحظ تطبيق هذه الإستراتيجية من خلال رفع مستوى التعاون مع الدول المنافسة أو المحيطة بإيران كأذربيجان وجورجيا، ولعل الاستمرار في العقوبات الاقتصادية يأتي في إطار الاحتواء والتطويق المذكور، كما أن حالة التنافس المشهودة بين موسكو وطهران في سوريا، التي بدأت فعليًا بعد تلويح واشنطن بعدم سماحها لعملية إعادة الإعمار إلا بعد تحجيم النفوذ الإيراني، تأتي في الإطار ذاته، حيث انضمت موسكو لمصاف دول “الاحتواء والتطويق” التي تُساند واشنطن في تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، لمواصلة عملية إعادة تعويم النظام السوري دون صعوبات، وللظفر بالكعب العالي من النفوذ في سوريا.
موعد التفاوض بين الطرفين
بالركون إلى الصفة الأساسية لإدارة الرئيس ترامب، صفة الرغبة في تحصيل الأفضل بأقل التكاليف، يبدو أن موعد التفاوض بين الطرفين متاح منذ اليوم الأول لتولي الرئيس ترامب الذي يرغب في الإبقاء على الاتفاق النووي لكن بشروط أفضل، كي لا تقع واشنطن في تكاليفٍ مواجهةٍ باهظةٍ لإيران، قد لا تعود عليها بالنتيجة الإيجابية، وعلى الرغم من مساوئ إيران، فإن وجودها كمنافس مركزي يدفع الدول العربية نحو التحالف على كل الأصعدة مع واشنطن، أمر مهم لواشنطن.
ولا تُخفي الإدارة الأمريكية رغبتها الفعلية في بدء التفاوض، بل تسعى لذلك عمليًا، فقد صرح علي شمخاني أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، بأن بلاده تلقت، مطلع العام الحاليّ، عرضًا من واشنطن للتفاوض، مبينًا أن الشروط غير مُتاحة للتفاوض في الوقت الحاليّ.
يبدو أن عددًا من دول المنطقة، كتركيا وقطر وحتى الإمارات، لا ترى في إيران، كدولة ونظام سياسي، معضلةً كبيرةً، لالتقاء قسمٍ كبير من مصالحهم السياسية والأمنية والاقتصادية المُشتركة
وفي ضوء هذه المعادلة، يبدو أن تحقق بعض الشروط، قد يعكس مشهد التقاء الطرفين على موعدٍ عشاء يجمعهما للتفاوض، ولعل أبرز هذه الشروط، ضمان واشنطن عدم اتجاه إيران نحو امتلاك أي سلاحٍ نوويٍ أو كيميائيٍ يقلب معادلة توزان القوى في الإقليم لصالحها على حساب الحليف الأول “إسرائيل”، ويُمكن لهذا الشرط أن يتحقق بتصعيد واشنطن حدة موقفها أمام وكالة الطاقة الذرية، كي ترفع من مستوى تفتيشها داخل الأراضي الإيرانية.
إلى جانب ذلك، قد تتجه واشنطن نحو الضغط على موسكو في سبيل دفعها نحو الحيلولة دون تطوير إيران ترسانتها العسكرية داخل الأراضي السورية، ومنعها من إقامة القواعد العسكرية هناك، ويبدو أن موسكو راغبة في ذلك، والأرجح مضطرة له، انطلاقًا من إمساك واشنطن بزمام تمويل عملية إعادة الإعمار، وربما في إيقاف مدها للميليشيات التابعة لها، بصواريخ باليستية، وليس جميع أنواع الصواريخ، إنما الصواريخ من هذه النوعية، ملمح آخر لتقريب موعد اللقاء.
وعلى الأرجح، فإن إيقاف دعمها لحركة طالبان التي باتت أصلًا تُجري مفاوضات مع واشنطن، وسحب مليشياتها التي انتهت مهمتها من سوريا، يُعجل اللقاء بين الطرفين الراغبين في الالتقاء، ولكن ينتظران مواتية الظروف.
وتخدم هذه الشروط مصالح حلفاء واشنطن في المنطقة، وربما لا يخدم طموح حلفاء واشنطن سوى القضاء الكامل على القوة الإيرانية، لكن ذلك لا يخدم رغبة واشنطن في الإبقاء على مركزية إقليمية مُهددة لحلفائها الذين يضطرون جراء ذلك للبقاء ضمن حلفاء، ولعل “إسرائيل” تدعم هذه الفرضية، إذ من خلال ذلك استطاعت، بشكلٍ كبير، تحويل بوصلة العداء العربي ضدها نحو إيران.
وفي الحقيقة، يبدو أن عددًا من دول المنطقة، كتركيا وقطر وحتى الإمارات، لا ترى في إيران، كدولة ونظام سياسي، معضلةً كبيرةً، لالتقاء قسمٍ كبير من مصالحهم السياسية والأمنية والاقتصادية المُشتركة، فكبح جماح النفوذ الإيراني وتحجيمه يفي الغرض لمصالح هذه الدول ضد المنطقة، لكن توجيه ضربة مُطلقة لا يصب في صالحهم بالكامل، لما يربط بينهم من مصالح مُشتركة جمّة.
تسير الشروط الأمريكية للمفاوضات مع إيران نحو التحوّل لواقع، نتيجة التغيرات الإقليمية والدولية الجارية في المنطقة
ويبدو أن المملكة العربية السعودية هي الدولة الوحيدة التي ترغب في القضاء على إيران ونفوذها في المنطقة بالكامل، إذ تعتبر الخطر الإيراني خطرًا وجوديًا، كون إيران تسير بمسار دوغمائي مذهبي، لكن لا يمكن للسعودية التي تملك رصيدًا سلبيًا في واشنطن يكمّن في قانون جاستا واتهامات بانتهاك حقوق الإنسان، لا سيما في قضية مقتل جمال خاشقجي الأخيرة، أن تغيّر مسار التوجه الأمريكي المُكتفي بالتحجيم.
في الختام، تسير الشروط الأمريكية للمفاوضات مع إيران نحو التحوّل لواقع، نتيجة التغيّرات الإقليمية والدولية الجارية في المنطقة، فموسكو تنافس طهران في سوريا، وتبذل قصارى جهدها لتقليم نفوذها السياسي والعسكري في هذه الجغرافيا ذات الأهمية الحيوية لواشنطن، كونها محاذية للحدود مع “إسرائيل”، والمليشيات التابعة لها في اليمن تكاد تصبح حاصلةً على الاعتراف الدولي الجزئي، أي أضحت ليست بحاجة للصواريخ الباليستية التي قد تفقدها طهران، نتيجة ضغوط دول الاتفاق النووي الأوروبية بالإضافة إلى روسيا التي توفر لها الشرعية الدولية عبر مجلس الأمن، عليها، وأخيرًا تتجه طالبان نحو التطبيع مع واشنطن عبر مفاوضات تجري في الدوحة.
وفي سياق تغيّر الشروط وتعالي لحن التصريحات والتحركات الدبلوماسية الدولية والإقليمية ضدها، تُصبح طهران ـ الدولة الإقليمية ـ تحت وطأة الرغبة “الاضطرارية” لانتظار موعد التفاوض مع الولايات المتحدة بشغف.