تشهد العلاقات الفرنسية الإيطالية في الفترة الأخيرة، إضرابات وتوترات كبرى، وصلت حد استدعاء باريس سفيرها في روما، للتشاور بعد أسوأ تراشق لفظي بين دولتين مؤسستين للاتحاد الأوروبي منذ الحرب العالمية الثانية، فهل ينذر ذلك ببدأ بوادر تفكك الاتحاد القاري؟
استدعاء السفير
قبل يومين، استدعت فرنسا سفيرها في إيطاليا “للتشاور” بعد سلسلة تصريحات مغالية وتهجم لا أساس له وغير مسبوق من مسؤولين إيطاليين، حسبما أعلنت الخارجية الفرنسية، وتضمن بيان للمتحدثة باسم الخارجية أن “التدخلات الأخيرة تشكل استفزازًا إضافيًا وغير مقبول”.
وقالت المتحدثة باسم الخارجية في بيان: “فرنسا تتعرض منذ عدة أشهر لاتهامات متكررة وتهجم لا أساس له وتصريحات مغالية يعرفها الجميع”، وأضافت أنياس فون دير مول: “هذا أمر غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، التدخلات الأخيرة تشكل استفزازًا إضافيًا وغير مقبول”.
وجاء استدعاء السفير، مباشرة عقب إعلان نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو على شبكات التواصل الاجتماعي أنه التقى مسؤولين من حركة “السترات الصفراء” الاحتجاجية، قائلاً: “رياح التغيير تخطت جبال الألب. أكرر: رياح التغيير تخطت جبال الألب”.
وصول الشعبويين إلى السلطة وتشكيلهم لحكومة شعبوية متطرفة بإيطاليا في يونيو/حزيران 2018، جعل الخلاف يخرج إلى العلن ويتفاقم أكثر مما كان عليه
الخارجية الفرنسية دعت عبر موقعها على تويتر إيطاليا إلى المحافظة على الاحترام المتبادل بين البلدين وكتبت “فرنسا تدعو إيطاليا إلى العمل من أجل استعادة علاقة الصداقة والاحترام المتبادل الذي يكون في مستوى تاريخنا ومصيرنا المشترك”.
À la lumière de cette situation sans précédent, le gouvernement français a décidé de rappeler l’ambassadeur de France en Italie pour des consultations.
— France Diplomatie?? (@francediplo) February 7, 2019
استدعاء السفير لم يكن سببه التقاء دي مايو بالمحتجين فقط، بل نتيجة تصريحات إيطالية أخرى، فقبل اللقاء، أعرب وزير الداخلية ماتيو سالفيني الذي يتزعم حركة “الرابطة” اليمينية المتطرفة عن أمله في أن يتحرر الشعب الفرنسي قريبًا من “رئيس سيء للغاية”، في تصريحات غير مسبوقة إطلاقًا بين مسؤولي دولتين مؤسستين للاتحاد الأوروبي.
وسبق أن استدعت وزارة الخارجية الفرنسية في الـ21 من شهر يناير/كانون الثاني الماضي، سفيرة إيطاليا في باريس بعد تصريحات أدلى بها نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو اتهم فيها فرنسا بـ”إفقار إفريقيا” وتصعيد أزمة المهاجرين، كما طالب خلالها الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات عليها.
Oggi con @ale_dibattista abbiamo fatto un salto in Francia e abbiamo incontrato il leader dei gilet gialli Cristophe Chalençon e i candidati alle elezioni europee della lista RIC di Ingrid Levavasseur.
Il vento del cambiamento ha valicato le Alpi. pic.twitter.com/G8E0ypLalX— Luigi Di Maio (@luigidimaio) February 5, 2019
وكان دي مايو قد أعرب عن أمله في أن يفرض الاتحاد الأوروبي “عقوبات” ضد الدول بدءًا بفرنسا التي تقف، حسب قوله، وراء مأساة المهاجرين في البحر المتوسط من خلال “تهجيرهم” من إفريقيا، وقال دي مايو، وهو زعيم حركة 5 نجوم الشعبوية التي تشكل الائتلاف الحاكم في إيطاليا مع حزب الرابطة اليميني المتطرف: “إذا كان هناك اليوم أفراد يرحلون فلأن بعض الدول الأوروبية في طليعتها فرنسا لم تكف عن استعمار عشرات الدول الإفريقية”.
وبحسب دي مايو الذي يتولى أيضًا منصب وزير التنمية الاقتصادية: “هناك عشرات الدول الإفريقية التي تطبع فيها فرنسا عملة محلية وتمول بذلك الدين العام الفرنسي”، وأضاف “لو لم يكن لفرنسا مستعمرات إفريقية، لأن هذه هي التسمية الصحيحة، لكانت (فرنسا) الدولة الاقتصادية الـ15 في العالم في حين أنها بين الأوائل بفضل ما تفعله في إفريقيا”.
الحكومة الشعبوية تصعد لهجتها
توتر العلاقات بين البلدين، لم يكن وليد الصدفة، فله جذور تاريخية عدّة، إلا أن وصول الشعبويين إلى السلطة وتشكيلهم لحكومة شعبوية متطرفة في إيطاليا في يونيو/حزيران 2018، جعل الخلاف يخرج إلى العلن ويتفاقم أكثر مما كان عليه.
وانتقد الثنائي الإيطالي دي مايو وسالفيني، اللذان شكّلا حكومة ائتلافية شعبوية العام الفائت، مرارًا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي انتقد في المقابل توجههم المناهض للاتحاد الأوروبي قبل انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة في مايو/أيار.
In Francia, come in Italia, la politica è diventata sorda alle esigenze dei cittadini, tenuti fuori dalle decisioni più importanti che riguardano il popolo. Il grido che si alza forte dalle piazze francesi è uno: “fateci partecipare!”. https://t.co/cBJvUwEk5s
— Luigi Di Maio (@luigidimaio) January 7, 2019
واستدعت وزارة الخارجية الإيطالية السفير الفرنسي في روما كريستيان ماسيه في مناسبتين سابقتين، وفي المرتين من أجل ملف الهجرة، وتتهم إيطاليا فرنسا بالوقوف وراء تدفق اللاجئين إلى سواحلها، وينظر إلى المهاجرين في إيطاليا، على أنهم السبب الرئيس وراء إطالة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد التي تحتل المرتبة الثالثة في اقتصادات منطقة اليورو.
وكان سلفيني قد وصف ماكرون بالرئيس “بالغ السوء”، وفي نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، قال سالفيني عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”: “آمل أن يتمكن الفرنسيون من التحرر من رئيس بالغ السوء”.
الانتخابات الأوروبية على الأبواب
تصريحات سالفيني ودي مايو المتتالية، يحاول من خلالها المسؤولان الإيطاليان، حشد جبهة أوروبية لليمين المتطرف تواجه المؤيدين للاتحاد الأوروبي وفي طليعتهم الرئيس الفرنسي، في الانتخابات الأوروبية المقرّرة في 26 من مايو/أيار المقبل.
وتسعى الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية في إيطاليا، صحبة باقي الأحزاب المتطرفة في دول الاتحاد الأوروبي إلى استغلال تراجع الديمقراطيين للظفر بأغلب المقاعد في الانتخابات واكتساح البرلمان الأوروبي خلال هذه السنة.
ويتطلع المتطرفون والشعبويون، إلى استغلال الانتخابات القادمة لأعضاء البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، لتوجيه ضربة انتخابية قوية وفرض سيطرتهم على هذه المؤسسة الأوروبية رغم الاختلافات التي تعاني منها هذه الأحزاب المتطرفة.
يمثل الشعبويون تهديدًا مباشرًا لتماسك الاتحاد الأوروبي، خاصة مع انتهاج دول مثل إيطاليا وبولندا سياسات تشكك باستمرار في الاتحاد
تولي الأحزاب الشعبوية المحسوبة على اليمين المتطرف، أهمية كبرى لانتخابات البرلمان الأوروبي، على عكس باقي الأحزاب، وذلك رغبة منهم في تشكيل قوة سياسية لها وزنها في البرلمان الأوروبي، ما من شأنه أن يشكل مأزقًا لعمل المؤسسة الأوروبية.
ومن خلال الركوب على موجة الخوف من المهاجرين وتسليط الضوء على مسألة السيادة والهوية، بات الشعبويين الآن، الأكثر حظًا للفوز في الانتخابات من أي وقت سابق، فهم يعتمدون على خطاب شعبوي رافض للسياسات الحاليّة، ويحمل الأحزاب التقليدية مسؤولية الوضع الذي وصلت له القارة العجوز.
وكانت زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا مارين لوبان التي تملك تأثيرًا قويًا على أصوات اليمين المتطرف في عموم أوروبا، قد دعت الأحزاب الشعبوية في عموم أوروبا إلى الوحدة لمواجهة المؤسسة الليبرالية في الانتخابات الأوروبية التي تعتبر الأهم منذ بدء تنظيم هذا الاقتراع في سنة 1979.
وتمتد الأحزاب الشعبوية القائمة خطاباتها السياسية على العنصرية وتبنيها خطابًا سياسيًا قائمًا على معاداة مؤسسات النظام السياسي ونخبه المجتمعية في مختلف أنحاء أوروبا، وقد ازدادت قوتها نتيجة تعرض الاقتصاد الأوروبي لهزات متتالية، أفقد الأوروبيين الثقة في الأحزاب التقليدية الديمقراطية.
تهديد التماسك الأوروبي
ما وصلت له العلاقات الفرنسية الإيطالية هو انعكاس مباشر لما وصلت له الأوضاع داخل الاتحاد الأوروبي، فهو يعكس الصراع بين القوى الأوروبية المدافعة عن الاتحاد وتواصل عمله، وبين القوى الرافضة لهذا الاتحاد والداعية إلى ضرورة تصفيته.
وترغب الأحزاب الشعبوية رغم هزيمتها في الانتخابات بعدة دول أوروبية، في إجبار بروكسل على إعادة السلطات إلى الدول الأعضاء وهو ما يقول عنه أنصار الاتحاد الأوروبي إنه يؤذن بانتهاء الوحدة السياسية والنقدية لأوروبا.
وتشكّل الاتحاد الأوروبي بعد توقيع معاهدة “ماسترخت” عام 1992، ولكن العديد من أفكاره موجودة منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو جمعية دولية للدول الأوروبية يضم 28 دولة وآخرهم كانت كرواتيا التي انضمت في أول يوليو 2013.
يخشى الأوروبيون من فرض الشعبويين سيطرتهم على البرلمان الأوروبي
للاتحاد الأوربي نشاطات عديدة أهمها كونه سوق موحدة ذي عملة واحدة هي اليورو الذي تبنت استخدامه 19 دولة من أصل الـ28 الأعضاء، كما له سياسة زراعية مشتركة وسياسة صيد بحري موحدة، وأصبح الاتحاد الأوربي قوة اقتصادية عالمية، حيث يشكل الاتحاد القوة الفلاحية الثانية في العالم، ويعتبر ثاني قوة صناعية في العالم وأول قوة تجارية عالمية حيث يحقق 38% من حجم المبادلات العالمية.
ويمثل الشعبويون تهديدًا مباشرًا لتماسك الاتحاد الأوروبي، خاصة مع انتهاج دول مثل إيطاليا وبولندا سياسات تشكك باستمرار في الاتحاد، وذلك عبر معاداة سياسات تدفق اللاجئين والمهاجرين وهو ما قد يحول دون تمكّن باريس وبرلين أو بعض العواصم الأخرى المدافعة عن فكرة اتحاد قوي ومتماسك على السعي لإقامة حلف للتصدي لهذه الأحزاب.
تصاعد الصراع بين الرافضين والمؤيدين لفكرة استمرار الاتحاد الأوروبي، يعيد إلى الأذهان الأحداث التي عرفتها القارة العجوز ما بعد الحرب العالمية الأولى التي مهدت للحرب العالمية الثانية حيث كان الخراب والدمار لكل أوروبا.