ترجمة وتحرير: نون بوست
ساهمت تضحية أحد الباعة المتجولين التونسيين بنفسه من خلال إضرام النار في جسده في شهر كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2010 في كسر حاجز الخوف لدى الشعوب العربية، التي لطالما ظلت صامتة نتيجة سياسات القمع والترهيب التي مارسها الحكام المستبدون لعقود. وقد أثارت محاولة محمد البوعزيزي اليائسة في الاحتجاج على الوضع موجة من الحراك الشعبي والعصيان داخل المجتمع المدني، ما انجر عنه اندلاع ثورات الربيع العربي التي نجحت، في نهاية المطاف، في الإطاحة بأبرز رموز الدكتاتورية في البلدان العربية.
بعد مرور ثماني سنوات، تدعو الأوضاع السياسية والاجتماعية في العالم العربي إلى القلق عوضا عن التفاؤل. ففي حين أدت أهوال الحروب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن إلى إخماد الأصوات الداعية إلى التغيير، علاوة عن انتصار القوى الرجعية في كل من مصر والبحرين، تعد تونس البلد الوحيد الذي أحرز تقدما نسبيا من خلال تحقيق درجة من التحرر على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.
حركات مضادة للثورة
تزامنا مع ثورات الربيع العربي، شهدت منطقة الخليج ظهور اثنتين من القوى المضادة للثورة، تحديدا الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بقيادة الأميرين الطموحين، محمد بن زايد ومحمد بن سلمان. وقد قابل وليا العهد محاولات البلدان العربية للتحرر اجتماعيا وسياسيا بالسعي للحفاظ على الأنظمة السلطوية.
في ظل الاهتمام المتزايد بالأحداث السياسية، يعمل كل من بن زايد وبن سلمان على استبعاد المجتمع المدني الذي من المفترض أن يكون فضاء يفتح المجال أمام الشعوب لمناقشة مصيرها والطعن في القرارات التي تتخذها الحكومات حول المشهد السياسي
تحت تأثير الذعر الذي أثاره حراك المجتمع المدني الذي خلق انشقاقات واحتجاجات واسعة النطاق في جميع أرجاء البلدان العربية بين سنتي 2010 و2011، كثف كل من بن زايد وبن سلمان جهودهما من أجل التصدي للمبادئ والمفاهيم التي تناضل من أجلها المجتمعات العربية. ومن الواضح أن حملة بن زايد وبن سلمان التي تتطلع إلى العودة بالزمن إلى الوراء لا تستهدف فقط محيطهما الضيق بل تشمل أيضا امتصاص غضب المنطقة العربية بأكملها.
في ظل الاهتمام المتزايد بالأحداث السياسية، يعمل كل من بن زايد وبن سلمان على استبعاد المجتمع المدني الذي من المفترض أن يكون فضاء يفتح المجال أمام الشعوب لمناقشة مصيرها والطعن في القرارات التي تتخذها الحكومات حول المشهد السياسي. ووفقا للفيلسوف يورغن هابرماس، إن المجتمع المدني شبيه بالساحة العامة باعتباره “مجالا داخل الحياة الاجتماعية يسمح بتشكل ملامح الرأي العام” دون تدخل من الدولة.
من المفترض أن يخلق المجتمع المدني ساحة سياسية لا تخضع لأية قيود وتسمح بإبداء الشعوب لآرائها بكل حرية، كما كان الحال خلال الفترات الأولى من ثورات الربيع العربي. وبمجرد أن قوبلت تنديدات مكونات المجتمع المدني ومساعيها لتغيير الوضع السياسي الراهن بالعنف والقمع، قرر نشطاء المجتمع المدني التصعيد والانتقال من مجرد انشقاق إلى القيام بثورة.
سيناريو بمثابة الكابوس
في البداية، نجحت “تكنولوجيا التحرر” على مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تحظ بالدعم اللازم في خلق حيز عالمي عام وشامل وغير خاضع للقيود يكرس التعددية. وقد احتضن الفضاء العام 2.0 الأفكار التي تنادي بها ثورات الربيع العربي، قبل أن تبدأ في التدفق داخل الشوارع سنة 2010.
بالنسبة لأبوظبي والرياض، يمثل وجود فضاء عام غير مقيد وقادر على انتقاد الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة بكل حرية كابوسا. ويؤمن وليا العهد بأن التخلي، ولو بقدر ضئيل، عن السيطرة على النقاشات التي تدور داخل هذا الحيز العام، سواء كان ذلك عبر شبكة الإنترنت أو على أرض الواقع، من شأنه أن يزعزع الأسس التي تقوم عليها الدولة البوليسية التي يرغبان في إرسائها. وفي ظل تسارع نسق الأحداث بين سنتي 2010 و2011، شرع محمد بن زايد في تطبيق “عملية أمن النظام” التي كانت مصحوبة بموجة من الاعتقالات السياسية ضد النشطاء والسياسيين الإسلاميين سنة 2011.
لا يعول نظام السلطوية 2.0 على توظيف جيش من الجنود السبرانيين وشبكات البوت نت للتجسس فقط بهدف ترسيخ الروايات التي تقدمها الحكومة أو إسكات وجهات النظر البديلة، بل يشمل أيضا تعزيز تأثير قادة الرأي الذين يتناولون مواضيع غير مسيسة على مواقع التواصل الاجتماعي
في وقت لاحق، وجهت الإمارات العربية المتحدة أنظارها نحو ليبيا، حيث تحولت عملية الدعم العسكري الذي تقدمه الإمارات لحملة حلف شمال الأطلسي العسكرية التي تهدف إلى الإطاحة بالزعيم معمر القذافي، إلى محاولة للسيطرة على الوضع الراهن من خلال تجنب احتمال أن تساهم أوضاع ما بعد الثورة في ازدهار التعددية السياسية ومنح فرص متكافئة لظهور الحركات العلمانية والإسلامية. وقد حرصت الإمارات العربية المتحدة على تطبيق الاستراتيجية ذاتها في اليمن أيضا.
احتجاجات الشعب المصري بميدان التحرير بالقاهرة في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2011
سجل محمد بن سلمان حضوره لاحقا من خلال شن حملة قمع ضد مكونات المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية سنة 2016. ونسجا على منوال مرشده في أبوظبي، لم يكتف بن سلمان باستهداف المنشقين السياسيين، الذين أرسل معظمهم إلى السجن أو المنفى، بل حرص أيضا على استبعاد قادة الفكر والنشطاء الذين من شأنهم أن يساهموا في التأثير والتعبئة ضد النظام.
لقد وقع اعتقال النساء اللواتي سعين لممارسة الضغط عن طريق شبكة الإنترنت من أجل رفع حظر قيادة النساء السعوديات للسيارة، والذي قرر بن سلمان إلغاءه لاحقا. أما بالنسبة للدعاة وعلماء الدين الذين لم تكن خطبهم المنشورة عبر شبكة الإنترنت مسيّسة، فقد انتهى بهم المطاف في المنفى أو في السجن.
تعكس هذه الممارسات الجهود المكثفة التي تبذلها الدولة في سبيل ضمان احتكارها للمشهد العام، لكن مع وجود أكثر من 11 مليون حساب تويتر في المملكة العربية السعودية فقط، يبدو أنه من الصعب التحكم في جميع النقاشات التي تدور داخل الحيز العام. ومن أجل استعادة السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي، لجأ كل من محمد بن سلمان ومحمد بن زايد إلى عمليات التخريب السيبراني.
يقدمون المسرح على أنه أخبار سياسية
لا يعول نظام السلطوية 2.0 على توظيف جيش من الجنود السبرانيين وشبكات البوت نت للتجسس فقط بهدف ترسيخ الروايات التي تقدمها الحكومة أو إسكات وجهات النظر البديلة، بل يشمل أيضا تعزيز تأثير قادة الرأي الذين يتناولون مواضيع غير مسيسة على مواقع التواصل الاجتماعي، على غرار المدون الإماراتي خالد العماري، الذي يشد انتباه عشرات الآلاف من متابعيه من خلال نقل رسائل إيجابية حول الحياة الأسرية في الإمارات. وتعد الحملات التي يقع تنسيقها من طرف الحكومات المستبدة، بمثابة ترويض سياسي لتحويل انتباه المجتمع المدني نحو مواضيع تخص الترفيه وأسلوب الحياة، بعيدا عن أي نشاط يتعلق بالمجال السياسي.
يبدو أن هذه الشخصيات المؤثرة تحاول إخفاء الأخبار السياسية من خلال التركيز على مواضيع مختلفة. وتبرر رسائلهم المصاغة بإتقان قرارات الحكومة وتمجد “القيادة الحكيمة”، وقد نجحت في احتلال جزء كبير من المشهد العام. وبما أن السعي لحشد دعم الشعوب العربية للأنظمة الاستبدادية من خلال عمليات الإكراه والقمع قد يبدو مثيرا للريبة، فإن هذا الأمر بات قابلا للتحقيق عن طريق تجريد الحيز العام من شرعيته.
قد لا يقتصر نجاح الأنظمة السلطوية 2.0 على طمس الحقائق وإخماد أصوات المجتمع المدني في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة فقط، بل من المحتمل أن يمنح الفرصة للدكتاتوريين في جميع أنحاء العالم العربي لمضاعفة ممارساتهم القمعية ضد المعارضين في بلدانهم. وعلى الرغم من أن بعض المناطق العربية لا تزال متمسكة نسبيا بالدفاع عن الحريات المدنية، إلا أنها تواصل التعرض لمحاولات قمع من قبل الأنظمة المستبدة.
المصدر: ميدل إيست آي