تتعملق آسيا يومًا بعد الآخر، ولم تعد عجلة فوران الاقتصاد تتركز على الصين واليابان، ولا حتى السعودية والإمارات وقطر، وإنما تمتد الصورة إلى عدد من البلدان الأخرى، تصدر بعضهم الصورة كاملة مثل “إندونيسيا” التي كانت مفاجأة العام الماضي، وأنهت الربع الأخير بمعدلات نمو بلغت 5.17%، وهي نسبة لم تحققها البلاد منذ 5 سنوات، لتكتسح بذلك مؤشرات النمو على جميع بلدان العالم.
الكفاءة الإندونسية.. من خلفها؟
“السياسة ثم السياسة” هكذا تشير التجربة الإندونيسية التي تحصد ثمن الإصلاح بعدما كانت تعاني من سوء الحكم والفقر والأمية الجماعية والتضخم، خرج أكبر بلد إسلامي من حيث العدد من شرنقة العرب والمسلمين الذين أصبحوا بين خيارين لا ثالث لهما، إما الديمقراطية أو التنمية، وخرق الإندونيسيون أسطورة الخوف من تفكيك الديمقراطية للوحدة الوطنية، حيث جعلتهم أكثر اتحادًا من ذي قبل، فالحرية السياسية تجلب النمو الاقتصادي المرتفع مع الوقت وليست العكس.
على المستوى الاقتصادي، لم تحقق إندونيسيا هذه المعدلات القوية من فراغ، كانت جهود مخططة بعناية منذ 20 عامًا، ونتج عنها مفاجآت قوية طوال رحلة النمو الاقتصادي المستمر، ونجحت خلال هذه المسيرة في التغلب على الأزمة المالية العالمية عام 2008، كما حصدت نتيجة الفكر القويم والمرونة، نجاحات بعيدة المدى، ما جعل الخبراء يحذرون من التحديات التي يمكن أن تواجهها البلاد، إذا استكملت طريقها نحو التوسع الاقتصادي في العام الجديد، فتلقطها العين السامة لترامب، ويضمها إلى قائمة الدول المرصودة من أمريكا التي تشن عليها حربًا تجارية، لإزالة أي تهديد يقف أمام الهيمنة الاقتصادية لبلاد العم سام.
تلعب الحكومه دورًا كبيرًا في تقوية الاقتصاد، بالاعتماد على لغة سوق تتحكم فيه، وما زالت هي من تحدد أسعار السلع الأساسية مثل الكهرباء والوقود والأرز، رغم انفتاحها “المحسوب” على قوانين السوق الحرة
سياسة إصلاح الاقتصاد، شملت التجارة الخارجية والداخلية والاستثمار وبيئة الأعمال، وجميعها ملفات تنافست عليها الأحزاب السياسية، لنيل ثقة الإندونيسيين، فتحررت المساحة المالية لاستثمارات البنية التحتية بالإضافة إلى تكوين أجندة طموحة للسياسة الاجتماعية، حازت من خلالها درجة متقدمة في سهولة ممارسة أنشطة الأعمال، بتقييمات البنك الدولي لمؤشر بيئة الأعمال الأكثر استخدامًا.
وتحتل الصناعة أهمية بارزة في الاقتصاد الإندونيسي، يليها قطاع الخدمات المعني بإيجاد وظائف لأكبر عدد ممكن من المواطنيين، مرورًا بقطاع الزراعة، وهكذا تلعب الحكومه دورًا كبيرًا في تقوية الاقتصاد، بالاعتماد على لغة سوق تتحكم فيه، وما زالت هي من تحدد أسعار السلع الأساسية مثل الكهرباء والوقود والأرز، رغم انفتاحها “المحسوب” على قوانين السوق الحرة ورعايتها للقطاع الخاص ودعمه بشكل كبير، وتعمل إندونيسيا بشكل واضح على تقوية هذه الخلطة، منذ أن تعافيت من أزمة منتصف عام 1997 التي ضربت البلاد آنذاك، واضطرت الحكومة لشراء أصول الشركات وأصول القروض المصرفية المتعثرة وإعاده هيكلة الديون.
الزراعة في إندونيسيا
يتوقع خبراء عالميون، زيادة نجاحات إندونيسيا لتصبح “عملاق المستقبل”، فهي اليوم سابع أكبر اقتصاد في العالم، والبعض يرجح تخطيها بعض المراكز في الأعوام القادمة، لتصل إلى مرتبة خامس أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، ثم رابع أكبر اقتصاد بعد ذلك بقليل، بناءً على سعر الصرف في السوق الذي تحتل إندونيسيا فيه المرتبة رقم 16 في العالم، ويتوقع أن تكون في العشرة الأوائل بحلول عام 2030 أيضًا.
خفضت إندونيسيا معدل انتشار الفقر إلى النصف، كما انخفضت البطالة إلى النصف أيضًا، وهذه القفزات تحدث، بسبب جعل الفقراء محور إستراتيجية الحكومة للتنمية التي نفذتها على أربعة مسارات أسمتها “المؤيدة للنمو” و”المؤيدة للفقراء” و”المؤيدة للوظائف” و”المؤيدة للبيئة”، ما مكن البلاد من تحفيز النمو وتخفيف حدة الفقر.
حافظت إندونيسيا بشدة على صيانة الطبقة الوسطى، فأصبح الفرد فيها يحصل على متوسط دخل ما بين 3000 دولار إلى 3500 دولار، وهي معدلات تمثل ثلاثة أضعاف حجم دخل الطبقة المتوسطة في الفلبين، وخمسة أضعاف مثيلتها في تايلاند
دعمت الدولة الفقراء بالأرز والرعاية الصحية المجانية والائتمان الصغير والتعليم الجامعي المجاني، كما ألغت الرسوم الدراسية للشرائح الفقيرة، فأصبح الفقراء يستخدمون أحدث وسائل النقل الجماعي والكهرباء الرخيصة والوقود المدعوم، في نفس الوقت الذي يبدع فيه رجال الأعمال ويتفوقون على نظرائهم في آسيا والعالم.
بجانب الفقراء ورعايتهم على أكمل وجه، حافظت إندونيسيا بشدة على صيانة الطبقة الوسطى، فأصبح الفرد فيها يحصل على متوسط دخل ما بين 3000 دولار إلى 3500 دولار، وهي معدلات تمثل ثلاثة أضعاف حجم دخل الطبقة المتوسطة في الفلبين، وخمسة أضعاف مثيلتها في تايلاند، وست مرات من ماليزيا، وبحسابات أخرى، يمتلك أفراد الطبقة الوسطى في منازلهم سيارة وجهاز تليفزيون ثانٍ في المنزل، بجانب جميع الكماليات ذات الرفاهية العالية.
أخطاء يجب ملاحقتها سريعًا
رغم كل ما رصدناه من نجاحات لإندونيسيا في الوصول إلى مرتبة عالمية من تحت القاع بمراحل والتوقعات لها من أفضل الخبراء، بالتقدم إلى مراتب أعلى، فإن هناك بعض الأخطاء التي يحذر منها خبراء دوليون أيضًا، ويطالبون بالتصدى لها، أهمها اتساع العجز في ميزان الحساب الجاري وعدم التوسع في الاستثمار بالبنية التحتية وتحجيم إنتاج إستراتيجية ضريبية أكثر شمولاً، بجانب عرقة إصلاح مناخ الأعمال ومنع تحرير الأسواق بدلاً من مجرد خفض الروتين.
ويرى البعض أن الأزمة المالية الآسيوية في 1997-1998، جعلت الحكومات الإندونيسية تعطي أولوية ثابتة للاستقرار على المسارات الأكثر خطورة لنمو اقتصادي سريع، لا سيما في ظل التوقعات بأن تصبح البيئة الاقتصادية العالمية أكثر صعوبة في السنوات المقبلة، وهو ما يتطلب إستراتيجيات بديلة عن تلك التي اتبعتها إندونيسيا خلال العقد الماضي، حيث كان الاقتصاد العالمي ضعيفًا ومتقلبًا.
وتؤكد هذه التحليلات أن مسار النمو الحاليّ، لن يكون كافيًا لتحويل إندونيسيا إلى قوة اقتصادية عالمية حقيقية بحلول عام 2030، رغم عضويتها في مجموعة العشرين، ومحاولاتها التي لا تتوقف للتطور الدائم واقتحامها مجالات العالم الأول مثل التجارة الإلكترونية وامتلاكها العديد من الشركات العالمية الكبرى، ولكن في المقابل، جودة الاستثمار لا تزال منخفضة بسبب توظيف الغالبية العظمى من أبنائها في تشييد المباني بدلاً من البنية التحتية العامة أو الآلات والمعدات.
يؤدي الاستثمار الأجنبي المباشر، إلى مكاسب قوية في الإنتاجية، بما في ذلك الآثار غير المباشرة للأجزاء الأخرى من الاقتصاد
كما يلاحظ ضعف الاستثمارات الأجنبية المباشرة، من إجمالي الاستثمار في البلاد، حيث لم تزد حتى الآن على 2% من إجمالي الناتج المحلي، وهي بذلك أقل البلدان الآسيوية التي يستثمر فيها الأجانب، بالنظر إلى معظم نظرائها مثل فيتنام التي يستثمر فيها الأجانب بنسبة 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وماليزيا بنسبة 3.5%، وتايلاند بنسبة 2.5%.
ويؤدي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مكاسب قوية في الإنتاجية، بما في ذلك الآثار غير المباشرة للأجزاء الأخرى من الاقتصاد، وتجاهله في إندونيسيا يقلل من الكفاءة العامة للاستثمار، بسبب تفضيل الدولة الاعتماد على الشركات المملوكة لها لتنفيذ أجندتها في التنمية، من خلال التخصيص المباشر للمشاريع الكبرى، بدلاً من الذهاب إلى السوق والمناقصات، وهي الآليات التي دعت بعض المحللين إلى التشكيك في الأرباح الاقتصادية المعلنة للبنية التحتية.
تحتل إندونيسيا المرتبة الثالثة في النظام التقييدي من بين 68 بلدًا، هم الأكثر تقييدًا للمستثمرين الأجانب، ولهذا ﺗﻮاﺟﻪ ﻗﻴﻮدًا معقدة في الحصول على منح التمويل الخارجي التي تطلب زيادة كبيرة في عملية تحصيل الضرائب، بحسب تقرير صدر حديثًا عن صندوق النقد الدولي، وطالبها بإجراء عدد من التغييرات في السياسات، وخاصة إزالة العديد من الإعفاءات التي لا معنى لها، وزيادة الضرائب على القيمة المضافة، ورفع الضرائب العقارية إلى حدود المعدلات العالمية، وهي سياسات لو طبقت قد تجعل من إندونيسيا أكثر تماشيًا مع الممارسات الدولية وتزيد من الناتج المحلي بنحو 3% بحلول عام 2022.