على بعد 30 كيلومترًا من مقاطعة أوزاكا بجزيرة هنشو اليابانية يوجد واحد من أشهر المعالم الإسلامية في دولة التكنولوجيا والتطور والحضارة، مسجد “كوبه” أو كما يطلق عليه أحيانًا “كوبي” المسجد الأول في اليابان وقبلة الجالية المسلمة هناك لا سيما في أوقات الأعياد والمناسبات الدينية.
وكما تبهرنا اليابان دومًا على الأصعدة كافة يأتي هذا البناء الذي قد لا يتمتع بالإمكانات المعمارية والزخرفية التي تمتاز بها المساجد الكبرى في العالم الإسلامي، إلا أنه اكتسب شهرة تاريخية قلما يكتسبها مسجد آخر، إذ اشتهر عنه الصمود أمام التحديات كافة، الطبيعية والبشرية على حد سواء.
بُني المسجد على أيدي مجموعة من الأتراك المسلمين والتجار الهنود، بجانب تبرعات من الجالية المسلمة هناك من عام 1928 وحتى افتتاحه رسميًا عام 1935، متخذًا من مدينة كوبيه التي كانت تعد واحدة من أهم المراكز التجارية مع العالم الخارجي – آنذاك – مقرًا له، صممه المهندس التشيكي يان يوسف سواقا (1885 -1969) الذي صمم أيضًا عددًا من البنايات الدينية الغربية في أنحاء اليابان كافة.
المسجد الأول في اليابان
يقع المسجد الذي يطلق عليه داخليًا “جامع كوبي للمسلمين” بمنطقة تشوأو، أحد أحياء مدينة كوبي بمحافظة هيوغو، وسط منطقة سكنية مأهولة بالبنايات والمقيمين، ويغلب على المسجد من الخارج الطابع الهندي لكنه من الداخل أشبه ما يكون على الطراز التركي، وهذا يعود إلى أن متبرعي المسجد كانوا من الهنود والأتراك وهم الفئة الأكثر عددًا بالمدينة في هذا التوقيت.
يظن البعض أن “كوبه” هو أول محاولة لبناء مسجد للمسلمين في اليابان، غير أن الوثائق التاريخية تثبت عكس ذلك، إذ كانت هناك محاولات أخرى تسبق هذا المسجد، وكانت طوكيو مرشحة لبناء أول مسجد عام 1909 لكن عدم توافر الأرض المطلوبة لبناء المسجد حالت دون ذلك.
لجأ اليابانيون للاحتماء بالمسجد إبان القصف الأمريكي على المدينة واختفوا في سراديبه ونجوا من الهجمات، ثم تحول بعد ذلك إلى مكان لتخزين الأسلحة والمعدات للجيش الياباني كذلك ملجأ لضحايا الحرب والمصابين
وبعد ما يقرب من 26 عامًا من تلك المحاولات وقع الاختيار على مدينة كوبي لبناء المسجد خاصة بعد زيادة عدد المسلمين الذين انتقلوا للعيش بالمدينة في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914ـ 1918)، وعليه تم التعاقد مع المقاول الياباني “تاكيناكا” للبناء، بعد انتهاء التشيكي سواقا من وضع التصميم الذي يتكون من ثلاثة طوابق فوق الأرض وطابق واحد مبني تحت الأرض.
يُخصص الطابق الأول من المسجد للرجال فيما خُصص الثاني للنساء، هذا بخلاف مراكز لتعليم القرآن وتحفيظه، ويتوافد على المسجد المسلمون من كل أنحاء المحافظات اليابانية وليس كوبي فقط، خاصة في صلاة الجمعة، ومع المرور الوقت تحول المسجد إلى مزار للمسلمين في أي وقت من العام، غير أنه في الزيارات الجماعية يتطلب التنسيق مع القائمين على شؤون المسجد بشكل مسبق، للإعداد لتلك الجولات في ضوء الالتزام بالآداب العامة المخصصة للزيارة.
أول مسجد في اليابان
80 عامًا من الصمود
نجح المسجد على مدار 80 عامًا من الصمود أن يخلد اسمه في ذاكرة اليابانيين عامة والمسلمين على وجه الخصوص، حتى بات قصة تُحكى للزائرين، مسلمين وغير مسلمين، تحولت في بعض الأحيان إلى أسطورة يتناقلها الشعب الياباني فيما بينه بين الحين والآخر.
عام 1945 وخلال الحرب العالمية الثانية تعرضت كوبي للقصف الجنوني من سلاح الجو الأمريكي، القصف الذي حول المدينة إلى أطلال، وسواها بالأرض بأكملها، لكن العجيب أن المسجد كان البناية الوحيدة التي لم تتعرض للهدم، وظل صامدًا شامخًا لم يصبه سوى رتوش قليلة وشقوق أسفرت عن تحطم بعض نوافذه.
تتوارد الأنباء عن مضايقات قليلة جدًا تتعرض لها المساجد في اليابان، ولكن لم أسمع من قبل بقيام أحد من اليابانيين بالتحرش بشكل مباشر بأي من المقيمين المسلمين في اليابان
وعليه لجأ اليابانيون للاحتماء بالمسجد واختفوا في سراديبه ونجوا من القصف، ثم تحول بعد ذلك إلى مكان لتخزين الأسلحة والمعدات للجيش الياباني كذلك ملجأ لضحايا الحرب والمصابين، وظل اسمه محفورًا في ذاكرة اليابانيين كونه المكان الذي كان سببًا في نجاتهم من الهجوم الأمريكي.
وبعد 50 عامًا من تلك الواقعة، فرض المسجد نفسه مجددًا على ساحات التحدي والصمود، لكن معركته هذه المرة لم تكن مع قصف بشري، إذ ظل المسجد شامخًا في مواجهة زلزال “هانشين العظيم” أو كما يسمى زلزال (كوبه) الذي ضرب اليابان عام 1995، هذا الزلزال الذى يعتبر ثاني أسوأ زلزال في تاريخ اليابان.
تعرضت المدينة منذ إنشاء المسجد إلى موجات من الكوارث الطبيعية ومع ذلك استطاع أن يثبت دون تأثر كما حدث مع بقية المباني الأخرى، الأمر الذي دفع البعض إلى تسويق بعض الأساطير حوله، حتى بات علامة مضيئة في تاريخ اليابانيين الحديث، وهو ما جعلهم ينظرون للمسجد الصغير نظرة إعجاب وتقدير وانبهار حتى اليوم.
ظل المسجد شامخًا خلال القصف الأمريكي على المدينة في 1945
المسلمون في اليابان
الكثير لا يعرف أن اليابان، تلك الدولة التي تمنع تدريس الدين بمدارسها منذ الحرب العالمية الثانية، يقطنها قرابة 165 ألف مسلم، من بينهم 63 ألف ياباني والباقي من جنسيات وعرقيات مختلفة، هذا في الوقت الذي واجهت فيه الجالية الإسلامية هناك عددًا من التحديات لا سيما في العقود الأخيرة في أعقاب ظهور تنظيمي “القاعدة” و”داعش”.
وفي عام 1991 تعرضت صورة المسلمين في اليابان لهزة عنيفة جراء اغتيال “هيتوشي ايقاراشي” وهو مترجم ياباني ترجم كتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي الذي أفتى آية الله الخميني بقتله هو وكل من شارك في طباعة الكتاب، إذ طعن هيتوشي حتى الموت في مكتبه بجامعة تسكوبا اليابانية وذلك في 11 من يوليو 1991.
ورغم أن الشرطة لم تتمكن حينها من معرفة هوية القاتل، فإن الصحافة اليابانية صبت غضبها على الجالية المسلمة متهمة إياها بالوقوف وراء هذا الحادث، الأمر الذي دفع اليابانيين إلى وضع العديد من الجدران الخرسانية في تعاملهم مع المسلمين، ما كان له أسوأ الأثر عليهم بعد ذلك.
تانادا هيروفومي الباحث في الشؤون الإسلامية بجامعة واسيدا يعلق على هذا الأمر قائلاً: “تتوارد الأنباء عن مضايقات قليلة جدًا تتعرض لها المساجد في اليابان، ولكن لم أسمع من قبل بقيام أحد من اليابانيين بالتحرش بشكل مباشر بأي من المقيمين المسلمين في اليابان، وربما يكون السبب في ذلك يعود لعدم تعود اليابانيين على وجود المسلمين بالقرب منهم بعد”.
وأضاف أن نسبة المسلمين في المجتمع الياباني متدنية جدًا مقارنة بالدول الأخرى، إذ لا تتجاوز 0.1% من السكان، وبالنظر إلى جنسيات المسلمين المقيمين في اليابان، هنالك 20 ألف من إندونيسيا، و10 آلاف من باكستان و9 آلاف من بنغلاديش و5 آلاف من كل من ماليزيا وإيران، ولا يتعدى عدد المسلمين من الدول العربية مجتمعة الـ4 آلاف فرد، كذلك يعتقد أن عدد اليابانيين الذين أسلموا لزواجهم من مسلمين نحو 10 آلاف فرد، ويقال إن هناك اتجاه لزيادة عدد المسلمين والمساجد خلال الـ5 إلى 6 سنوات الأخيرة.
أفراد من الجالية الإسلامية في زيارة للمسجد
الباحث في الشؤون الإسلامية بجامعة واسيدا يشير إلى أن هناك اتجاهًا لتحول جمعيات المسلمين إلى كيانات دينية اعتبارية للاستفادة من المزايا الضريبية لضمان استقرار إدارة المساجد، لذا تم تأسيس 17 كيانات دينية اعتبارية من يونيو 2014 حتى الآن، موضحًا أن عدد اليابانيين المهتمين بالدين الإسلامي كـ”ثقافة مختلفة” في تزايد، فعدد زائري جامع طوكيو الموجود في يويوغي أوئيهارا في تزايد مطرد، وذلك ليس فقط بفضل أعداد المسلمين القادمين من الخارج ولكن أيضًا اليابانيين، ولكن على الرغم من ذلك يصعب القول إن التفاهم المتبادل قد وجد طريقه بين اليابان والعالم الإسلامي.
الجالية الإسلامية تسعى في حدود الإمكانات المتاحة العمل على نشر صورة جيدة عن الإسلام وتغيير أي صورة سلبية عنه قد تنشا نتيجة لمعلومات مغلوطة تقوم بنشرها مواقع غربية
بدوره أكد الدبلوماسي شريف هريدي الملحق السابق بالمكتب الثقافي المصري بطوكيو، أن الجالية المسلمة في اليابان بشكل عام تتميز بالترابط فيما بينها والتجمع بشكل معتاد في الأعياد الإسلامية وأسبوعيًا في صلاة الجمعة، كاشفًا أن هناك حالة شغف من اليابانيين للتعرف أكثر عن الدين الإسلامي وذلك من خلال التوجه للمعهد العربي الإسلامي بطوكيو الذي تشرف عليه المملكة العربية السعودية ويعد المركز قبلة لتجمع الجالية الإسلامية في طوكيو بجانب المسجد التركي أيضًا، فضلاً عن دورهم في تنظيم حلقات نقاشية وندوات ودروس لتعليم اللغة العربية لليابانيين لرأب أي فراغ ثقافي بين الشريعة الإسلامية والفكر الياباني.
أما على صعيد الجالية الإسلامية، أضاف هريدي لـ”نون بوست” أنها تسعى في حدود الإمكانات المتاحة للعمل على نشر صورة جيدة عن الإسلام وتغيير أي صورة سلبية عنه قد تنشا نتيجة لمعلومات مغلوطة تقوم بنشرها مواقع غربية، كذلك تحرص على تنظيم رحلات بشكل دوري لمزيد من التعارف وحل أي مشكلات تواجه المسلمين هناك.
ورغم ما يواجهه المسلمون في اليابان من تحديات وعقبات على رأسها الضرائب الباهظة المفروضة على المساجد والمراكز الإسلامية، فإن إسهامات العديد من رجال الأعمال في عدد من الدول الإسلامية تخفف من وطأة تلك العراقيل، في ظل احترام نسبي للحكومة اليابانية للمسلمين مقارنة بدول أخرى مثل الصين على سبيل المثال.