تلقى الأبحاث حول ثنائية وتعدّد اللغة رواجًا هائلًا في السنوات الأخيرة؛ منها ما يدرس أثرها على الدماغ بشكلٍ عام، وبعضها يختصّ بمواضيع محدّدة مثل أثرها على الإدراك أو التفكير أو العاطفة أو الزمن، أو حتى الوضع الاقتصادي للشخص. فعلى سبيل المثال، توصّلت واحدة من الدراسات إلى أنّ الأشخاص الذين يتحدّثون لغةً لا تحتوي على تصنيف خاص بالفعل المستقبلي، يميلون إلى توفير وادّخار أموالهم بشكلٍ أكبر مقارنةً بمتحدّثي اللغات التي تحوي أفعالًا مستقبلية.
ويرجع السبب وفقًا للدراسة أنّ التحدّث عن المستقبل بصيغة الحاضر يجعل من المتحدّث واعيًا بوجوده مثل وجود الحاضر تمامًا، ما يعني أنّ تعامله مع المستقبل كوقتٍ حاضر سينعكس على تصرّفاته المالية وسلوكيّاته الادّخارية. وممّا لا شكّ، لا يتوقّف أثر اللغة على الوضع الاقتصادي عند هذه النقطة وحسب، فواحد من المواضيع المثيرة للانتباه في السنوات الأخيرة هو الدور الذي يلعبه امتلاك الشخص لأكثر من لغة على وضعه الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع.
التحدث بلغة ثانية يعطي أطفال الأسر منخفضة الدخل فرصةً أفضل
لطالما تعامل الباحثون مع الآثار الإيجابية لتعلّم أكثر من لغة في فترة الطفولة المبكّرة بوصفها الوقت الأنسب لاكتساب لغة ثانية، تمامًا كما ركّزوا على دور اللغة الثانية على الدماغ ونموّه وتطوّر قدراته المعرفية والإدراكية، عوضًا عن انعكاس ذلك على السياقات العاطفية والاجتماعية والثقافية التي تحملها معها اللغة الأخرى.
الأطفال ثنائيو اللغة لديهم قدرة أعلى لتحسين أوضاعهمالاقتصادية في المستقبل نظرًا للمهارات العقلية والإدراكية التي يكتسبونها مع اللغة الثانية
وفي الوقت الحالي، تحاول بعض الأبحاث دراسة الأثر بين تعدّد أو ازدواجية اللغات والوضع الاجتماعي والاقتصادي للطفل. ففي في واحدة من الدراسات التي نشرتها مجلة “تطوّر الطفل Child Development”، قام الباحثون بفحص أكثر من 18 ألف طفلٍ في مرحلة رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي في الولايات المتحدة الأمريكية، ليجدوا أنّ الأطفال الذين تتحدّث عائلاتهم لغة ثانية في المنزل قد أحرزوا نتائج أفضل من أقرانهم ممّن تتحدّث عائلاتهم لغة واحدة في عددٍ من الاختبارات المعرفية والإدراكية.
ما يعني أنّ هؤلاء الأطفال يمتلكون قدرةً أعلى على تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية في المستقبل نظرًا لأنّ القدرة على التحدث بأكثر من لغة تُحسِّن المهارات العقلية، مثل ضبط الانتباه أو القدرة على التنقل بين المهمات المختلفة، سواء في مرحلة الطفولة أو المراحل المتقدّمة من العمر.
تعلّمك للغة ثانية يساعد في زيادة راتبك وتقدّمك الوظيفي
ولا تتوقّف إيجابيات معرفتك للغة ثانية على تحسين فرصك في إيجاد وظيفة أو رفع قيمة سيرتك الذاتية؛ بل يتعدّى الأمر إلى زيادة في الراتب قد تكون كبيرة مقارنةً بمتحدّثي اللغة الواحدة فقط. وعلى أقلّ تقدير، فهذا يعتمد على قواعد الطلب والقيمة في السوق. فعلى سبيل المثال، فاللغة الإسبانية هي اللغة الأكثر طلبًا في الولايات المتحدّة الأمريكية، لكنها في الوقت نفسه أيضًا هي اللغة الأكثر انتشارًا بعد اللغة الإنجليزية، ما يجعلها تتمتع بقيمة أقل من غيرها.
عالميًا، تتراوح فروق الأجور بين أحاديّي اللغة وثنائييها ما بين 5 و20% في الساعة، إذ تعتبر الشركات في جميع القطاعات التي تدير الأعمال أنّ الموظفين ثنائيي اللغة سلعةً ثمينةً بالنسبة لهم.
وعلى النقيض من الإسبانية، تحتلّ اللغة الألمانية أعلى قائمة الرواتب المدفوعة في الولايات المتحدّة، بحيث أنّ متوسط راتب متحدّثها قد يبلغ ما يعادل 100 ألف دولار في السنة. ويرجع ذلك إلى وضع القوّة والسيطرة التي تحتلّه الألمانية كواحدة من اللغات الثلاث المستخدمة في الأعمال اليومية للاتحاد الأوروبيّ. تلي الألمانية اليابانية، ثمّ الفرنسية، وذلك وفقًا لموقع “ValueMyResume” الذي يحلّل السير الذاتية ويقيّم الرواتب بناءً على قوائم الوظائف المتاحة.
ووفقًا لموقع Salary.com، تتراوح فروق الأجور بين أحاديّي اللغة وثنائييها ما بين 5 و20% في الساعة، إذ تعتبر الشركات في جميع القطاعات التي تدير الأعمال أنّ الموظفين ثنائيي اللغة سلعةً ثمينةً بالنسبة لهم. ولا يقتصر الأمر على قدرتهم على التحدّث مع غيرهم ممّن لا يتحدثون لغتهم وحسب، بل يرجع للمزايا الواسعة والكثيرة لثنائية اللغة بكونها ترتبط مع القدرات المعرفية والإدراكية الأفضل مثل الذاكرة واتخاذ القرارات وحلّ المشكلات والقدرة على التعلّم.
وبالتالي، يمكننا القول أيضًا أنّ تعلّم لغة ثانية يؤدّي إلى تعزيز آفاق التقدّم الوظيفي والمرونة التطوّرية وفرص السفر للموظّف. عوضًا عن أنّ التحدّث بأكثر من لغة يعدّ أكثر جاذبية لأصحاب العمل والمدراء. أمّا عن سؤالك عن أكثر اللغات طلبًا فمن المفيد أيضًا البحث عن اللغات التي تفضّلها القطاعات المختلفة التي أنتَ مهتمًّا بها وتعمل على تطويرها. لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك طلب كبير على الوظائف التي تتطلب لغةً أجنبية أو أكثر من لغة، فعلى سبيل المثال تُعتبر الترجمة والترجمة الفورية من بين أفضل خمس مهن تنمو بسرعة في هذا العصر.
الحقيقة وراء ثنائية أو تعدّد اللغة
لنفهم آلية عمل اللغة الثانية، علينا بدايةً أنْ نعي أنّ الدماغ مثله مثل أيّ عضلة أخرى في الجسم يحتاج للتمارين حتى يحافظ على لياقته ومرونته. وهذا تمامًًا ما تضيفه اللغة الثانية؛ المرونة العقلية “Mental flexibility”. فالقدرة على التحويل بين لغتين مختلفتين بمفرداتهما المختلفة يساعد الموظّف على تعزيز قدرات انتباهه وتركيزه وتمدّه بقدرة أعلى على التعلّم والتذكّر. وفي الحقيقة، تشير الأبحاث إلى أنّ الأشخاص ثنائيي اللغة يُظهرون أعراضًا ملحوظة لمرض الزهايمر بعد مرور خمس سنوات تقريبًا من الأشخاص الذين يتحدثون لغة واحدة.
القدرة على التحويل بين لغتين مختلفتين بمفرداتهما المختلفة يساعد الموظّف على تعزيز قدرات انتباهه وتركيزه وتمدّه بقدرة أعلى على التعلّم والتذكّر
كما تساعدنا كلمات ومفردات اللغات المختلفة على رؤية العالم من حولنا وفهمه بطريقة مختلفة تمامًا من لو كنّا نمتلك لغةً واحدة فقط. وبكلماتٍ أخرى، تؤثر اللغة الثانية على الطريقة التي نفكّر بها وندرك بها الأشياء والعالم من حولنا. ولهذا، قد يكون من الجيد إعادة نظرك في التعامل مع اللغات الأخرى بوصف تعلّمها رفاهية أو أمرًا ثانويًا، فقد تكون بوّابتك وبوّابة أطفالك لتحقيق وظيفةٍ أفضل وجني أموالٍ أكثر مقارنةً بمن يكتفي بلغةٍ واحدة فقط لا غير.