شهد مخيم جباليا سلسلة من الهجمات العسكرية الإسرائيلية الكبرى التي استهدفت المخيم ومحيطه، حيث تصدى لثلاث عمليات مركزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ومايو/أيار 2024، وأكتوبر/تشرين الأول 2024، استخدم فيها جيش الاحتلال شتى صنوف القتل والدمار والإبادة بحق أهالي المخيم الأكثر اكتظاظًا في قطاع غزة، والأكبر فلسطينيًا، آخرها عملية لم تنتهِ حتى كتابة هذه الكلمات، فيما لم يتوقف القصف والاستهداف والاغتيالات والمجازر على مدار أكثر من عام من حرب الإبادة التي تستهدف قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في كل مرة، كان فعل المقاومة في مخيم جباليا يمثل عنصرًا مباغتًا، يفاجئ جيش الاحتلال ويربك المتابعين للأحداث على الأرض، يظهر ذلك جليًا بالنظر إلى حجم الخسائر بين صفوف قواته، وتعدد الأخبار المتتالية عن وقوع “أحداث أمنية”، وكثافة الطائرات والقنابل الدخانية للتغطية على سحب الاحتلال لجنوده وآلياته من الميدان.
لا يُرى من ذلك إلا ما يُسمح بنشره من مشاهد ميدانية، نرى فيها أبطالًا بعزيمة راسخة وأعصاب فولاذية، يترقبون هدفهم بصبر وثبات شديدين، يتحينون اللحظة المثلى لتوجيه ضربة تكون الأكثر إيلامًا لعدو ما قصر في الإيغال بدماء أهلهم وأبناء شعبهم.
أي ظروف قاسية تلك التي عاشها مقاومو مخيم جباليا، وأي درب من الآلام ساروا فيه ومضوا بإصرار دون كلل أو ملل، وهم يقاتلون اليوم بعد عام، كما قاتلوا وقاتل رفاقهم في أول أيام المواجهة.
ينطوي الصمود الأسطوري لمقاومي مخيم جباليا في قدرتهم على تطوير تكتيكاتهم القتالية، والتغلب على ظروف التجويع والحصار والقتل المستمر، وتحويل كل عملية عسكرية على المخيم إلى معركة ملحمية، ما يكشف عن عزيمة استثنائية على مواجهة أقسى الضربات التي طالت ذويهم وأصدقاءهم ومنازلهم وقيادتهم.
جوانب كثيرة غير منظورة أحاطت بأبطال مخيم جباليا المجهولين على الأرض، المعروفين في السماء، وكان أبرزها الدمار والقتل والتشريد الذي وقع تحت وطأتهم كل ما هو حي، في محاولات محمومة لإبادة ومسح أحياء كاملة من على وجه الأرض، وطمس إرادة وصمود المقاومة.
أوهام السيطرة الإسرائيلية
منذ ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلن جيش الاحتلال بسط سيطرته العملياتية على مخيم جباليا، مشيرًا إلى تفكيك بنية المقاومة وقدراتها في شمال قطاع غزة.
وفي منشور على منصة إكس، صرح المتحدث باسم جيش الاحتلال باللغة العربية، أفيخاي أدرعي، قائلًا: “لم تعد جباليا كما كانت. بفضل المناورة البرية نتحرك في قلب مدينة غزة بحرية عملياتية، وستواصل الفرقة 162 مهامها في القطاع حتى استكمال المهمة”.
حتى الآن، لم تتحقق الحرية العملياتية التي سعى إليها المتحدث باسم جيش الاحتلال منذ 11 شهرًا، لا في مخيم جباليا ولا في أي منطقة من قطاع غزة، حيث لم يتمكن الاحتلال من تنفيذ أي عملية عسكرية دون مواجهة مقاومة شرسة.
يحاول الاحتلال، منذ إعلان انتقاله إلى عمليات المرحلة الثالثة، أن يؤكد أنه نجح في انتزاع مبدأ حرية الحركة، وإمكانية المطاردة الساخنة في أنحاء قطاع غزة، وهو مبدأ يقوم على أن تتحرك قوة صغيرة نسبيًا لإنجاز عمليات اغتيال أو اعتقال، أو تدمير لمقدرات للمقاومة تستجد ضمن بنك أهداف الاحتلال بناءً على معلومات استخباراتية، في محاولة لاستنساخ نموذج الضفة الغربية (الذي بات يواجه صعوبة متزايدة شمالًا بفعل تصاعد المقاومة).
في العملية الأخيرة بمخيم جباليا، بدأ الاحتلال عمليته العسكرية باستخدام لواءين مقاتلين هما: 401 و460، لكن بعد أسبوعين فقط من بدء العملية، أعلن عن انضمام لواء النخبة “جفعاتي” إلى الألوية المشاركة في الهجوم، ليتبعه في وقت لاحق لواء “كفير”.
هذا التحول في مسار العملية حولها من عملية كان من المفترض أن تكون سريعة ومركزة وفقًا للمرحلة الثالثة من الخطة العملياتية إلى عملية موسعة وضخمة، ما يُضعف الادعاء الإسرائيلي بانتهاء مرحلة العمليات الكبرى، بل إن المقاومة في جباليا كبَّدت الاحتلال خسائر تُعَدُّ من الأكبر لجيشه منذ بداية الغزو البري لقطاع غزة، شملت مقتل قائد اللواء 401 مدرع، وهو الرتبة الأعلى في الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب على القطاع، إضافة إلى مقتل قائد الكتيبة 52.
وبحسب بيانات جيش الاحتلال الرسمية، فقد قُتل في جباليا ما لا يقل عن 19 جنديًا منذ بداية العملية العسكرية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كما أفادت تقارير عبرية بأن المقاومة استهدفت المبنى الذي كان يتواجد به رئيس أركان جيش الاحتلال، هرتسي هاليفي، بالمخيم في أثناء زيارته للقوات العاملة لتقييم الوضع، وهي زيارات غالبًا ما تكون استعراضية تهدف إلى رفع معنويات الجنود وإرسال رسائل زائفة عن السيطرة.
اغتيال القيادة
في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، وبعد انتهاء أولى العمليات العسكرية في مخيم جباليا، وفي أثناء أول أيام الهدنة المؤقتة التي شهدت تبادلًا جزئيًا للأسرى، نعت كتائب عز الدين القسام عددًا من أبرز قادتها، كان من بينهم القيادي المخضرم أحمد الغندور، عضو المجلس العسكري وقائد لواء شمالي قطاع غزة، الذي كان مطلوبًا للاحتلال لأكثر من عقدين من الزمن، وكان مسؤولًا مباشرًا عن تطوير الفعل المقاوم في شمال القطاع طوال السنوات الماضية، ونجا من عدة محاولات اغتيال منذ سنوات انتفاضة الأقصى، وفي غالبية جولات العدوان السابقة في قطاع غزة.
كما نعت القسام الشهداء القادة: وائل رجب ورأفت سلمان وأيمن صيام، الذين ارتقوا في مواقع البطولة والشرف خلال معركة “طوفان الأقصى”، وفقًا لما ورد في بيانها، وهم كلهم قادة ذوو باع طويل وحضور مؤثر في ميدان المقاومة بشمال قطاع غزة.
إضافةً إلى القادة الذين أعلنت عنهم القسام، نشر جيش الاحتلال قائمة طويلة من الاستهدافات لقادة ميدانيين ومفاصل عمل وتخصصات قتالية في صفوف المقاومة، إلا أن مصير هؤلاء القادة يبقى مجهولًا، إذ تتبع المقاومة مبدأ الكتمان والسرية في التعامل مع هذا النوع من القضايا لأسباب متعددة، أبرزها تحويل نتائج عمليات الاغتيال إلى معضلة استخباراتية للاحتلال، الذي لم يتمكن من التأكد من مصير المستهدفين.
وخلال شهور من الضغط العسكري المكثف، فقدت تشكيلات المقاومة في قطاع غزة عددًا من قادتها المؤثرين الذين يُعتبرون من الصفوف الأمامية في هيكل المقاومة، خاصة في شمال قطاع غزة ومخيم جباليا على وجه التحديد، إذ وصل الهوس الإسرائيلي بالاستهداف إلى حد اغتيال قادة في العمل الجماهيري والاجتماعي والتعبوي في فصائل المقاومة، أي أن استراتيجيات الاحتلال لم تقتصر على الاستهداف العسكري فقط، بل شملت أيضًا النيل من القوى التي تدير وتوجه الأنشطة المجتمعية والتنظيمية.
من حيث المبدأ، أُعِدَّت تشكيلات المقاومة وجُهِّزَت للتعامل مع سيناريوهات الاغتيال، حتى الأكثر قسوة منها، مثل خسارة أبرز الكوادر القيادية، فقد أُعِدَّت تفاصيل التفاصيل لتجاوز أثر هذه الضربات عملياتيًا، ما يُطَمْئن حول سلامة البيئة العملياتية للمقاومة في الميدان، وكذلك سلامة قدرات القيادة على السيطرة وإدارة الفعل المقاوم وخطوط النار بكفاءة.
مع ذلك، يبقى الأثر المعنوي لخسارة القادة، خاصة أولئك الذين يتمتعون بثقل تاريخي ومكانة عاطفية كبيرة بين أفراد المقاومة، كبيرًا جدًا، خصوصًا أن بعض المقاومين في مخيم جباليا، على سبيل المثال، لم يكن قد تجاوزت سنوات عمره تلك التي قضاها قائد كبير مثل أبو أنس الغندور في المطاردة، بل نشأ على روايات بطولاته مع رفاق السلاح بين أهالي المخيم.
يأتي ذلك ضمن مساعي الاحتلال الدائمة لإحداث خلل وفجوة بين المقاومين على الأرض وسلاسل القيادة والسيطرة، بحيث يتحول المقاتل إلى “جيب مقاوم” إما أن يتفكك تدريجيًا أو يقع في الأخطاء التي تُسهِّل عليه الهزيمة من خلال عمليات “جز العشب”، لكن الهيكلية المرنة للمقاومة وسيناريوهات التعامل مع الشواغر كانت أكثر صلابة وعمقًا مما كان يتصور الاحتلال، وما يحدث في مخيم جباليا يُعد النموذج الأبرز لهذا التصدي القوي والمستمر.
بطبيعة الحال، يدرك المقاومون أن درب المقاومة له خواتيم واضحة، وأن التضحية هي عنوانه العريض، خصوصًا في مواجهة عدو لا يتردد في استخدام كل وسائل القتل والإجرام لتحقيق أهدافه العدوانية. من هنا، فإن استشهاد القادة، خاصة في الميدان بين جنودهم، يتحول إلى رمز من رموز الثبات والتماسك، بل يكون محفزًا للمزيد من الصمود والتمسك بالمسؤولية من أجل الحفاظ على استمرارية المسيرة وقوة التشكيلات التي استثمر هؤلاء القادة في بنائها على مدار سنوات.
تدمير أوجُه الحياة.. والتجويع حتى الموت
أمام صلابة المقاومة في شمال قطاع غزة وصمود الأهالي الأسطوري، الذي كان مخيم جباليا عماده الرئيس، لجأ الاحتلال إلى تحويل كل لحظة من لحظات هذا الصمود إلى مسلسل مستمر من القتل والدمار، فبينما كان المخيم يشكل رمزًا من رموز التماسك والصمود، كثَّف الاحتلال غاراته الجوية وأطلق حملة تدمير ممنهجة عبر استهداف كل مقومات الحياة الأساسية.
دمَّر الاحتلال تدريجيًا كل أوجه الحياة في مخيم جباليا، بدءًا من استهداف آبار المياه التي تعتبر شريان الحياة، وصولًا إلى تدمير المخابز التي كانت توفر الخبز لسكان المخيم، كما جُرِّفَت المستشفيات والمراكز الصحية، بما في ذلك عيادات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”، التي كانت تقدم خدمات طبية أساسية للمتضررين.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل امتد أيضًا إلى قصف مخازن التموين والمراكز التي تحتوي على سلع، بضائع، أو مساعدات إنسانية، في محاولة لإغلاق كل قنوات الإمداد وقطع سبل العيش عن السكان، في مسعى لتحقيق أهدافه العسكرية عبر استنزاف الأوضاع الإنسانية وفرض المزيد من الضغوط على المدنيين.
وفي ظل هذه الظروف، كان الموت المحتم ينتظر أي شخص يصاب، سواء جراء الانفجارات أو الاغتيالات، لا سيما أن الاحتلال عمل على عرقلة عمل سيارات الإسعاف، ومنعها من الوصول إلى المصابين في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى الرعاية الطبية العاجلة.
كما عمد الاحتلال إلى شن حرب نفسية ممنهجة عبر تحريض المجتمع ضد المقاومة، باستخدام أساليب القتل والدمار، وكان الهدف الأول من هذه الحملة هو خلق حاجز نفسي بين المقاومين وسكان المناطق المستهدفة، مستندًا إلى ادعاء أن وجود المقاومين في هذه الأماكن هو السبب وراء الهجمات والخراب الذي لحق بها، أما الهدف الثاني فكان الضغط على المقاوم ذاته، سعيًا لإفقاده توازنه النفسي والعسكري في حرب هي الأطول والأعنف في تاريخ الصراع مع الاحتلال.
لكن على النقيض من هذه المحاولات، كان التماسك المجتمعي في مخيم جباليا هو العامل الرئيس في صمود المقاومة وتماسكها، فلم تزدها الجرائم والانتهاكات المتواصلة من الاحتلال إلا عزيمة وإصرارًا على التمسك بمبدأ المقاومة، إذ كان الالتفاف حول المقاومة واضحًا في كل موقف، حيث خرج المصابون من تحت الركام حاملين شعار الحق في المقاومة، ومؤكدين تمسكهم بعقيدتهم في مواجهة المحتل.
هذا الثبات الشعبي انعكس مباشرةً على المقاومين في الميدان، الذين تحولوا إلى رمز للبطولة والفداء، ليكتبوا تاريخًا جديدًا من الصمود في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، وباتت كل عملية عسكرية ضد المخيم تعكس ملحمة جديدة تضاف إلى سجل جباليا الحافل بالمقاومة.
استشهاد العائلات والأصدقاء
عمد الاحتلال إلى استهداف العائلات الآمنة في منازلها بشكل ممنهج، حيث كانت عمليات القصف تستهدف المقاومين وأسرهم، في محاولة لقتلهم جميعًا دون تمييز، والانتقام من النساء والأطفال وكل من يرتبط بهم، أي أن الاحتلال لم يكن يكتفي بتصفية المقاومين بشكل فردي، بل كان يتعمد استخدام أكبر القنابل المتاحة له في عمليات الاغتيال، ليحول الأحياء السكنية إلى مناطق قتل جماعي، مستهدفًا المقاوم وعائلته وكل من يتواجد في المكان، بما في ذلك النازحون الذين احتموا في منازلهم بحثًا عن الأمان.
في العديد من العمليات العسكرية، لم يكن استهداف الاحتلال للعائلات مجرد انتقام جماعي، وإنما حيلة عسكرية لاستدراج المقاومين ودفعهم إلى الخروج من مواقعهم القتالية، بنية البحث عن عائلاتهم التي تم استهدافها، والمشاركة في دفن من استشهد منهم، أو إسعاف ومساعدة من تبقى حيًا للخروج من تحت الأنقاض، وهي ظروف تجعل المقاومين أهدافًا سهلة للجيش الإسرائيلي، في ظل انعدام الدعم الإنساني وفرق الدفاع المدني.
عمد الاحتلال إلى استخدام هذه السياسة استخدامًا موسعًا، وفي بعض الحالات كان يستهدف عائلة المقاوم بالكامل، فيستشهد البعض وينجو البعض الآخر، حتى يعود جيش الاحتلال لاستهداف من تبقى على قيد الحياة، لإجبار المقاوم على ترك مواقع تمركزه والذهاب للبحث عن مصير عائلته.
استخدم الاحتلال أيضًا أساليب أكثر بشاعة، سواء للانتقام أو الضغط النفسي، وصولًا إلى سياسة الإبادة التامة التي تشمل القضاء على نسل القادة الميدانيين والمقاومين، إذ كان يتم ملاحقة أفراد العائلة كافة، دون استثناء، حتى إتمام مسحهم من السجل المدني، في أبشع صور الانتقام والتطهير العرقي.
لكن أن تكون مقاومًا في مخيم جباليا يعني أن تتسلح بإرادة فولاذية وصلابة لا تلين، وأنت تدرك تمامًا أن مصير عائلتك هو القتل، وأن أصدقاءك سيقعون ضحايا للاغتيالات وأحباءك سيستهدفهم الاحتلال دون رحمة، ومع ذلك تبقى ثابتًا في عقدتك القتالية، لا تبرح موقعك، حتى لو كان الثمن فقدان عزيز أو مشهد دفن الأحبة، موجهًا بوصلتك صوب كمِينِك بانتظار وقوع عدوك فيه.
الصمود والثبات
تمتع مقاومو مخيم جباليا بإصرار نادر وقوة عزيمة لا تُقهَر، تخطت الحدود التكتيكية التي وضعتها قيادة المقاومة، إذ لم يتوقف صمودهم عند الدفاع المرن أو تقليل الخسائر البشرية، بل اتسع ليشمل مواجهة الاحتلال بكل ما في وسعهم، ففي العديد من الحالات رفض مقاومون التخلي عن مواقعهم القتالية، حتى عند الإصابة أو بعد انتهاء المهمة المحددة، متمسكين بالبقاء في ساحة المعركة في محاولة لتحويل كل متر من التوغل الإسرائيلي إلى موقع يصعب على الاحتلال اجتيازه، بتكثيف الكمائن، وزراعة العبوات الناسفة.
يروي شقيق أحد القادة الميدانيين في المقاومة عن أخيه الشهيد قائلًا: “أعدَّ أخي نفسه بعزم وثبات للمشاركة في “طوفان الأقصى”، جهَّز روحه لخوض المعركة حتى النهاية. في إحدى جولات القتال السابقة، أصيب إصابة بالغة، وكان حزنه كبيرًا لأنه لم يرتقِ شهيدًا كما كان يتمنى، ولم يتمكن من الاستمرار في المعركة”.
يضيف الشقيق في وصفه لصبر وعزيمة أخيه: “أصرَّ على استعادة قوته رغم ظروف الجوع، والقصف المستمر، والدمار من حوله، والبرد القارس، والخوف وألم الخذلان، وعاد لتجهيز نفسه لمواصلة القتال، مصممًا على العودة إلى ميدان المواجهة”.
كان قرار قيادة المقاومة في البداية أن إصابة القائد تُعتبر عذرًا كافيًا ليتمكن من الانسحاب لاستعادة قواه استعدادًا للمشاركة في جولة قتالية أخرى، خاصة أن الحرب كانت لا تزال في ذروتها، والمواجهات مع قوات الاحتلال لم تكن قد انتهت، ومع ذلك كان القرار مغايرًا تمامًا بالنسبة له، إذ كان انسحابه بمثابة “تولٍّ يوم الزحف”، وأصرَّ على العودة إلى مخيم جباليا والانضمام إلى إخوانه المقاومين في معركتهم، متمسكًا بعقيدته القتالية، رغم إصابته.
وعندما علم باستشهاد أخيه في نفس المعركة التي كان يقاتل فيها، لم يكن هذا الخبر إلا سببًا إضافيًا لمضاعفة عزيمته والمضي قدمًا في القتال، مستمرًا في الانتقال من عقدة قتالية إلى أخرى، حتى ارتقى شهيدًا في الميدان، ملتحقًا بشقيقه وخيرة أصحابه.
أن تكون مقاومًا في مخيم جباليا هو أن تعيش خارج إطار الحسابات المعتادة، وتُظهر إصرارًا لا يلين في وجه أعتى القوى العسكرية، أن تَصمد بكل عزيمة وإيمان في معركة غير متكافئة، حيث تتجاوز التكتيكات العسكرية والقدرات الحربية، وتواجه واقعًا مليئًا بالألم والدمار دون أن تفقد الأمل في النصر.
يعني أن تتحمل أوجاع الحصار المستمر، القصف المتواصل، واستشهاد الأحبة، ورغم كل ذلك تستمر في طريقك، بل وتحوِّل ظروفك القاسية إلى دافع لاستمرار المعركة بكل حنكة وشجاعة، يعني أن تظل ثابتًا على عقيدتك، متمسكًا بالمسؤولية، جاعلًا استشهاد رفاقك وقادتك حافزًا إضافيًا للاستمرار في طريق الشرف، أملًا في النصر أو الشهادة.