أعلنت السعودية عن حزمة من الاستثمارات الضخمة من المفترض أن تضخها في السوق الباكستاني خلال الفترة المقبلة، تلك الاستثمارات التي تعد الأضخم في تاريخ البلدين تتضمن عددًا من المجالات على رأسها تمويل مصفاة نفط جديدة في ميناء جوادر الشهير.
الإعلان عن تلك الاستثمارات تزامن مع اقتراب موعد زيارة ولي العهد السعودي لإسلام أباد، والمقرر لها هذا الشهر، تلك الزيارة التي يعول عليها الكثيرون، سعوديون وباكستانيون، في تدشين صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بعد سنوات من التوتر جرًاء تباين وجهات النظر حيال عدد من الملفات.
لم تكن الدوافع الاقتصادية وحدها من تقف خلف هذا الحجم الضخم من الاستثمارات المتوقعة، والتي يعتبرها البعض القشة التي ستنقذ الباكستانيين من مستنقع الإنهيار الذي يواجهونه منذ سنوات، إذ أن هناك أبعاد جيوسياسية أخرى وراء هذا التحرك الذي يأتي في وقت تتعرض فيه الرياض لتقزيم دورها الإقليمي في أعقاب سياساتها الخاطئة تجاه بعض القضايا التي ساهمت في تشويه صورتها دوليًا وتراجع نفوذها الإقليمي لحساب قوى أخرى على رأسها إيران.
استثمارات ضخمة
في الثاني من يناير الماضي زار وفد من رجال الأعمال والمستثمرين وأعضاء الغرف التجارية والصناعية السعودية، ميناء «جوادر» الباكستاني، الذي يُعتبَر النقطة المحورية لمشروع الممر الاقتصادي الباكستاني الصيني المتصل بمبادرة «طريق الحرير».
الوفد وبرفقة عدد من وزراء الحكومة الباكستانية أطلعوا على على الإمكانات والفرص الاستثمارية المتوفرة في الميناء، والمناطق التابعة له، فضلاً عن فرص الاستثمار المتاحة في المناطق الاقتصادية الخاصة الملحقة بمشروع الممر الاقتصادي، فيما أوضح السفير السعودي لدى باكستان نواف المالكي، أن الميناء يملك كثيراً من المميزات التجارية والاستثمارية التي يمكن للمستثمرين السعوديين الاستفادة منها، مشيراً إلى أن الحكومة الباكستانية وعدت بتقديم حوافز وخدمات للمستثمرين السعوديين.
أحمد الغامدي مستشار وزير الطاقة وقائد مكتب تحقيق «رؤية (2030) لمنظومة الطاقة» على هامش الزيارة قال إن «هناك تنسيقاً بين المجلس السعودي الباكستاني التنسيقي للتعاون الاقتصادي، لتوفير الزيارة إلى ميناء (جوادر) لإطلاع رجال الأعمال والجهات الحكومية الأخرى في السعودية على الفرص الاستثمارية في الميناء الباكستاني»، مضيفاً أنه «كجانب اقتصادي واستثماري، فإن السعودية تسعى إلى إيجاد فرصة استثمارية في باكستان بشكل عام وفي ميناء (جوادر) على وجه الخصوص إذ إنها منطقة استراتيجية، في ظل العلاقات القوية بين السعودية وباكستان».
ينظر الباكستانيون للاستثمارات السعودية كونها بارقة الأمل لتخفيف ضغوط الديون وشح العملات الأجنبية وضعف النمو الاقتصادي
وبعدها ذكرت الحكومة الباكستانية أن السعودية وافقت من حيث المبدأ على الاستثمار بمصفاة نفط جديدة في ميناء جوادر بالمياه العميقة، حسبما جاء على لسان وزير البترول فيها غلام سرور خان بأن شركة النفط الوطنية الباكستانية ستشارك في المشروع مع شركة النفط العملاقة “أرامكو” السعودية.
هذا بخلاف تعهد السعودية منح 3 مليارات دولار لباكستان التي تعاني من أزمة في ميزان المدفوعات وذلك على هامش زيارة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان الى الرياض في الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي، تلك الزيارة التي كانت الأولى له خارجيًا منذ فوزه في الانتخابات الأخيرة.
يذكر أن إسلام أباد كانت قد دعت الرياض للانضمام إلى مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، الذي تبلغ تكلفته 64 مليار دولار، والذي هو جزء من المشروع الصيني “حزام واحد وطريق واحد”، سبقها إعلان المملكة عن تمويلها لثلاثة مشروعات متعلقة بالمشروع الاقتصادي الصيني الباكستاني، في إقليمي خيبر بختنخوا، وأزاد كشمير.
زيارة وفد سعودي للاستثمار في باكستان
دوافع اقتصادية
تواجه باكستان أزمة اقتصادية طاحنة، دفعتها إلى اللجوء إلى المؤسسات الدولية، بحسب رئيس وزرائها الذي أشار إلى أن بلاده طلبت المساعدة من 3 دول، متعهدًا باسترداد مليارات الدولارات، يقول إن مسؤولين فاسدين هربوها إلى الخارج.
وقد هبطت الاحتياطيات الأجنبية لباكستان 627 مليون دولار في أواخر سبتمبر / أيلول الماضي إلى 8.4 مليار دولار، وهو ما يكفي بالكاد لتغطية مدفوعات الديون السيادية المستحقة حتى نهاية العام، فيما قال خان :”سنحاول الحصول على المساعدة من دول أخرى، وطلبنا من ثلاث دول إيداع أموال في البنك المركزي الباكستاني تساهم في تعزيز الاحتياطيات الوطنية، لكنه لم يذكر هذه الدول”
ومن ثم ينظر الباكستانيون للاستثمارات السعودية كونها بارقة الأمل لتخفيف ضغوط الديون وشح العملات الأجنبية وضعف النمو الاقتصادي، هذا بخلاف قيام الرياض وأبو ظبي بتأجيل دفعات بقيمة 6 مليار دولار من مستحقات الواردات النفطية، مع فشل باكستان في الحصول على قروض جديدة من صندوق النقد الدولي.
وفي هذا الإطار زار رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان السعودية مرتين منذ توليه منصبه في تموز/يوليو الماضي، أحدهما في اكتوبر الماضي وحضوره منتدى استثماري في الرياض رغم مقاطعته من معظم قادة العالم احتجاجا على مقتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، مبررًا زيارته بأن مصالح بلاده فوق أي اعتبار.
جولات خان الخارجية لانتشال بلاده من مأزقها الاقتصادي لم تتوقف عند حاجز السعودية وفقط، بل زار قطر وتركيا والصين سعيًا للحصول على استثمارات فيما استقبل هو عشرات المسئولين من بعض الدول التي يأمل في تعزيز التعاون الاقتصادي معها، بعضها تشهد العلاقات معها بعض التوترات بسبب خلافات حول عدد من القضايا.
وزير الطاقة السعودي خالد الفالح خلال زيارته لميناء جوادر الشهر الماضي، أشار إلى أن بلاده تدرس امكانية بناء مصفاة للنفط وملحق للبتروكيماويات في المدينة بكلفة 10 مليار دولار، أرجعها خبراء إلى أن الرياض تسعى لتوسيع استثماراتها في المصافي لتأمين حصة واستدامة لصادراتها النفطية بعيدا عن المنافسة العالمية، وضمان مشترين طويلي الأمد للنفط الذي تنتجه.
أي استثمار للرياض في جوادر ستكون له أيضا ابعاد جيوسياسية، خاصة وأن الاستثمارات السعودية المقرّرة ستكون في محافظة بلوشستان المجاورة للحدود مع إيران حيث تشن مجموعة إسلامية مسلحة هجمات على الأهداف الإيرانية.
أبعاد سياسية
شهدت علاقة المملكة بأواخر أيام رئيس الحكومة الباكستانية السابق نواز شريف، بعض التوتر جرًاء الموقف من الأزمة الخليجية ورفض إسلام أباد الانجرار خلف تصعيد السعودية وحلفائها ضد قطر، كذلك عدم انخراطها بشكل كامل في الحرب ضد الشعب اليمني على خلفية الرفض البرلماني.
ومع ذلك ورغم هذا الخلاف مع شريف فإن السعودية كانت تعتبره وحزبه “الرابطة الإسلامية” حليفين مأمونين في ظل التحولات السياسية، ومن ثم فإن صعود شخصيات أخرى وأحزاب تتبنى خيوطا سياسية مختلفة ربما يهدد نفوذ الرياض داخل الدولة الإسلامية النووية، وهو ما حدث بالفعل مع صعود عمران خان الذي جاء فوزه بمثابة الصدمة للسعوديين.
الرياض لا يمكنها أن تضحي بعلاقاتها مع دولة بحجم باكستان في ظل حاجتها الشديدة لها خلال المرحلة المقبلة في ظل تعدد جبهات المواجهة والخلاف مع دول المنطقة، لا سيما ما يتعلق بإمكانية الحصول على السلاح النووي إذا دعت الضرورة لذلك، وفي المقابل تسعى إسلام أباد إلى تعميق العلاقات مع المملكة نظرًا لحاجتها الشديدة إلى المال السعودي.
علاوة على ذلك فإن تضييق الخناق حول ولي العهد السعودي دوليًا بسبب قضية خاشقجي دفعه إلى فتح آفاق جديدة مع بعض دول المنطقة في محاولة لتحسين صورته واستعادة جزءًا من الشعبية المفقودة وتجميل صورة المملكة التي تأثرت كثيرًا بسبب سياسات ابن سلمان الخارجية.
وعليه فإن ضخ الاستثمارات السعودية في باكستان لم يقف عند حاجز الدوافع الاقتصادية فحسب، إذ يحمل بين ثناياه أبعادا جيوسياسية أخرى، تتمثل في مناهضة النفوذ الإيراني هناك، خاصة وأن علاقة خان بنظام طهران تتمتع بالتنسيق والتفاهم حيال العديد من الملفات وهذا كان أحد أسباب القلق السعودي من فوزه بداية الأمر.
ميناء جوادر الباكستاني
إيران في أواخر 2018 قامت بتدشين مرفأ جابهار الذي يوفر طريقا رئيسيا للإمدادات إلى أفغانستان التي لا تملك أي منافذ بحرية، وترى الهند في مرفأ جابهار الذي يبعد 70 كلم فقط عن جوادر طريقا رئيسيا لإرسال الإمدادات إلى افغانستان وتعزيز تجارتها مع آسيا الوسطى وإفريقيا، الأمر الذي دفع الرياض للتحرك سريعًا.
إصرار المملكة على التواجد في المشروع الصيني الكبير”الحزام والطريق” رغم رفض بكين دخول شركاء جدد فيه، يعزز فرضية البعد السياسي في مثل هذه التحركات، حسبما أشار جيمس دورسي الخبير في شؤون المنطقة الذي كشف عن دعوات متتالية من رئيس الوزراء الباكستاني لدخول شركاء في المشروع “لإعادة هيكلة الاستثمارات الصينية لتضم الزراعة وقطاعات خلق الوظائف وليس فقط البنى التحتية”، وبحسب دورسي، فإن أي استثمار للرياض في جوادر ستكون له أيضا ابعاد جيوسياسية، خاصة وأن الاستثمارات السعودية المقرّرة ستكون في محافظة بلوشستان المجاورة للحدود مع إيران حيث تشن مجموعة إسلامية مسلحة هجمات على الأهداف الإيرانية.
عدد من المحددات ترسم ملامح العلاقات بين الطرفين خلال المرحلة المقبلة، على رأسها العلاقات مع إيران، خاصة بعد التصريحات الإيجابية التي أطلقها حزب “الإنصاف” الذي يتزعمه خان عن إيران منذ عام 2016
رغم الخلاف بين البلدين تبقى المصالح المشتركة هي القول الفصل في تحديد بوصلة العلاقات السعودية الباكستانية، فحاجة كل دولة إلى الأخرى دفع كل منهما إلى مغازلة الأخرى وطي صفحة الماضي رويدًا، وهو ما تجسده بعض المواقف السياسية الأخيرة على رأسها دعم إسلام أباد لقرار تعليق الرياض الصفقات التجارية مع كندا وطرد السفير الكندي لدى المملكة، وفي المقابل وافق البنك الإسلامي للتنمية السعودي على تقديم قرض بقيمة أربعة مليارات دولار لإسلام أباد، ما أدى إلى تهدئة أزمة ميزان المدفوعات المتفاقمة في باكستان، ما اعتبره مراقبون دفعًا لتعزيز الثقة بين البلدين.
عدد من المحددات ترسم ملامح العلاقات بين الطرفين خلال المرحلة المقبلة، على رأسها العلاقات مع إيران، خاصة بعد التصريحات الإيجابية التي أطلقها حزب “الإنصاف” الذي يتزعمه خان عن إيران منذ عام 2016، كذلك ورقة الضغط الهندية التي تملكها الرياض ضد إسلام أباد، تلك المتعلقة بالعلاقات القوية التي تربط المملكة بالهند، الخصم اللدود لباكستان.
وفي المجمل يتوجه ابن سلمان إلى إسلام أباد الجريحة اقتصاديًا محملا بحزمة من الاستثمارات الضخمة يسعى من خلالها إلى تعزيز نفوذ بلاده إقليميا، في محاولة لكسب جولة ضمن معركته مع طهران لاسيما بعد المكاسب الكبيرة التي حققتها الاخيرة في ميادين اليمن وسوريا، هذا بخلاف أنها تأتي في إطار حملة تبييض سمعة المملكة بعدما شابها من تشويه خلال السنوات القليلة الماضية.