مليارات الدولارات من الأموال المختلسة من خلال صندوق التمويل الحكومي، الملايين منها أُنفقت على حقائب اليد الفاخرة والمجوهرات وإنتاج أحد الأفلام الناجحة والحصول على محل إقامة فاخر في نيويورك، و250 مليون دولار مقابل يخت فاخر ولوحات للرسام العالمي بابلو بيكاسو، وعلاقات مع نجوم هوليوود: الممثل ليوناردو دي كابريو، وعارضة الأزياء ميراندا كير، والمليارديرة باريس هيلتون، والممثلة ليندسي لوهان.
إنها فضيحة تتفجر مع تفاصيل غُضَّة، إلى جانب شبكة مربكة من المعلومات. في 12 فبراير/شباط، سيبدأ ممثلو الادعاء في ماليزيا في تفكيك جزء منها عندما يَمثُل رئيس الوزراء السابق نجيب عبدالرزاق أمام المحكمة بتهم إساءة استخدام السلطة وخيانة الأمانة وغسيل الأموال. ولا يزال اللاعبون المزعومون الآخرون في الفضيحة -ومن بينهم الممول الدولي جو لو- طليقي السراح، بعيدًا عن متناول السلطات الماليزية والأمريكية.
منشأ الفضيحة
في أوائل عام 2009، أمر نجيب، بعد أسابيع من توليه رئاسة الوزراء، بإنشاء صندوق استثمار حكومي بقيمة 1.2 مليار دولار في البداية، والذي سيعاد تسميته لاحقًا باسم صندوق التنمية الماليزي الحكومي ““Malaysia Development Berhad1 أو ما يُعرف اختصارًا بـ“MDB1”، وكان هدفه المعلن هو قيادة “المبادرات المدفوعة باعتبارات السوق لمساعدة الحكومة في دفع ماليزيا نحو التحول إلى دولة متقدمة تتمتع بمنافسة عالية ومستدامة وشاملة”.
لقطات من وثيقة وزارة العدل الأمريكية تتضمن قائمة الأصول التي يمتلكها متآمرو “1MDB”
“كن جريئًا حتى تفتح آفاقًا جديدة وتفعل الأشياء بشكل مختلف”، كانت هذه هي النصيحة التي قدَّمها نجيب عبدالرزاق لفريق صندوق التنمية في 11 يناير 2010، والتي ما زالت تتصدر الموقع الرسمي للصندوق،وبدلاً من ذلك، ووفقًا للمدَّعين الأمريكيين، اُستخدم “MDB1” كتمويل طفيف من قبل نجيب وجو لو وعدد من كبار المسؤولين الآخرين في الصندوق، الذين يُزعم أنهم اختلسوا أكثر من 3.5 مليار دولار على مدى 6 سنوات، وكان المدعون السويسريون قد حددوا لاحقًا هذا الرقم بأكثر من 4 مليارات دولار.
وقالت المدعية العامة لوريتا لينش في عام 2016، بعدما أطلقت وزارة العدل الأمريكية دعوى ضد “MDB1”، إن “هذه الأموال كانت تهدف إلى تنمية الاقتصاد الماليزي ودعم الشعب الماليزي. وبدلاً من ذلك ، تمت سرقتها وغسلها من خلال المؤسسات المالية الأمريكية واستخدمت لإثراء عدد قليل من المسؤولين وشركائهم”.
فمنذ البداية، زُعم أن المسؤولين عن الصندوق كانوا يستنزفون الأموال لأنفسهم ولحلفائهم، حيث اختلسوا أكثر من بليون دولار في عام 2009 فقط، وقد نفى كل من لو ونجيب مرارًا التهم الموجهة ضدهما، واتهما السلطات الماليزية بمحاكمة تحركها “دوافع سياسية”
صائد المشاهير
جو لو، الممول الماليزي، وجامع التحف الفنية على المستوى الدولي، ولد في ماليزيا لعائلة صينية ماليزية ثرية، وتلقى تعليمه في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وبدأ في الظهور على المشهد المالي الدولي في أواخر عام 2000، ويرجع ذلك جزئيًا إلى صداقته مع رضا عزيز ابن زوجة نجيب، الذي التقى به أثناء وجودهم في مدرسة هارو للنخبة في بريطانيا.
وقال “لو” لصحيفة “ذا ستار” الماليزية في عام 2010: “كان لدى مدرسة هارو الكثير من الأطفال المنتمين للعائلات الأوروبية والآسيوية والشرق أوسطية البارزةن كان ذلك عندما التقيت ابن الملك السابق للأردن، من بين آخرين”.
قام “لو” بغسيل الأموال من صندوق التنمية الماليزي من خلال شركة إنتاج الأفلام “Red Granite”، والتي استخدمها لتمويل الأفلام بما في ذلك فيلم ذئب وال ستريت “The Wolf of Wall Street”
وأثناء دراسته في كلية وارتون لإدارة الأعمال في بنسلفانيا، أطلق “لو” شركة استثمارية بلغ قيمة رأسمالها الأولي 25 مليون دولار، وهو ما قال إنه “قدمته عائلتي وأصدقائي المقربون من الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا”. وبحلول عام 2010، ادَّعى “لو” أن قيمة استثماراته قد ارتفعت إلى مليار دولار. ومع ذلك، يزعم ممثلو الادعاء أن مصدر معظم أمواله هو صندوق التنمية الماليزي.
وفي ماليزيا ونيويورك، حيث قضى “لو” الكثير من وقته، أصبح للممول الدولي حضورًا منتظمًا في أعمدة القيل والقال من خلال صداقاته لمشاهير أمريكا وسعيه الدائم للتقرب منهم، بما في ذلك المغنية والممثلة الأمريكية باريس هيلتون، والممثلة ليندسي لوهان، وذلك بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز”
في المقابلة نفسها مع الصحيفة الماليزية، نفى “لو” تقارير واسعة الانتشار تقول إنه أنفق أكثر من 2 مليون دولار خلال رحلة إلى سانت تروبيز (بلدة في فرنسا)، وقال: “أعتقد أن هناك نمطًا يحاول أن يرسمني على أنه الشخص الذي يطلب الكثير من الشمبانيا بشكل مفرط”.
ومن خلال عزيز، الذي كان يدير شركة إنتاج أفلام تُسمى “Red Granite Pictures“، مقرها في لوس أنجليس، وسّع “لو” شبكة المشاهير التي يملكها، مثل ليوناردو دي كابريو وميراندا كير عارضة أزياء فيكتوريا سيكريت، أكبر محلات التجزئة الأمريكية في الملابس الداخلية.
الممول الماليزي جو لو مع عدد من نجوم هوليوود
ووفقًا للمدعين العامين الأمريكيين، قام “لو” بغسيل الأموال من صندوق التنمية الماليزي من خلال شركة إنتاج الأفلام “Red Granite“، والتي استخدمها لتمويل الأفلام بما في ذلك فيلم ذئب وال ستريت “The Wolf of Wall Street” من بطولة ليوناردو دي كابريو وجونا هيل، وفيلم الغبي والأغبى “Dumb and Dumber To” وفيلم منزل أبي “Daddy’s Home“.
وقال مسؤول أمريكي في عام 2016: “هذه حالة تقلِّد فيها الحياة الفن”، فقد زُعم أن مساعدي هؤلاء المسؤولين الفاسدين في صندوق التنمية الماليزي قد استخدموا بعض العائدات غير المشروعة في مخطط الاحتيال الخاص بهم لتمويل إنتاج فيلم “The Wolf of Wall Street“، وهو فيلم عن سمسار البورصة الفاسد جوردان بيلفورت الذي حاول إخفاء أرباحه غير المشروعة في ملاذ آمن أجنبي”.
ويعمل دي كابريو مع المدعين الأمريكيين لإعادة أي أموال حصل عليها هو أو جمعياته الخيرية من صندوق التنمية الماليزي، وقد سلَّمت عارضة الأزياء ميراندا كير مجوهرات بقيمة 8.1 مليون -التي أعطيت لها من قِبل “لو”- إلى وزارة العدل.
كيف انهار كل شيء؟
في أوائل عام 2015، تلقت كلير ريوكاستل براون، وهي صحفية بريطانية ومؤسسة موقع Sarawak Report”” الذي يقدم تقارير عن الفساد في جنوب شرق آسيا، حوالي 227 ألف ورقة مسربة تتعلق بصندوق التنمية الماليزي.
بعد أشهر من التحقيق، نشرت كلير قصة تزعم أن أكثر من 700 مليون دولار تم تحويلها من الصندوق إلى الحسابات المصرفية الشخصية لرئيس الوزراء نجيب. كما نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” عدة تقارير غير مسبوقة عن الفضيحة، تستند جزئيًا إلى نفس الوثائق المسربة.
وجهت السلطات في أكثر من دولة اتهامات صريحة للصندوق السيادي في أبوظبي بالتورط في تحويلات مجهولة تقدر بـ3.5 مليارات دولار،
بعد هذه التقارير، قام مسؤولون ماليزيون بمداهمة مكاتب صندوق التنمية الماليزي في العاصمة الماليزية كوالالمبور، كما تم إطلاق تحقيقات في هونغ كونغ وأستراليا وسنغافورة وسويسرا والولايات المتحدةن وقال نجيب للصحفيين إن الأشخاص المخالفين سيقدمون للعدالة.
لكن العديد من المراقبين كان يراودهم الشك في استعداد نجيب للتحقيق في الفضيحة بشكل كامل، نظرًا لأنه كان الشخص الرئيسي المتورط فيها. ففي يناير/كانون الثاني 2016، برأ النائب العام الماليزي ساحة نجيب من ارتكاب أي مخالفات بشأن عمليات تحويل بلغت قيمتها الإجمالية 2.6 مليار رينغيت ماليزي (700 مليون دولار أمريكي) في حساباته، قائلاً إن المال الذي في حساباته منحته العائلة المالكة السعودية لرئيس الوزراء، وتم إرجاعه في أغسطس 2013؛ لأنه “لم يُستغل”.
قضية فساد عبد الرزاق ترتبط بشكل وثيق بعلاقاته بالسعودية والإمارات
لكن قضية فساد عبد الرزاق ترتبط بشكل وثيق بعلاقاته بالسعودية التي سبق وأقرت عام 2016، على لسان وزير خارجيتها عادل الجبير، بأنها أهدته 681 مليون دولار دون مقابل، بينما وجهت السلطات في أكثر من دولة اتهامات صريحة للصندوق السيادي في أبوظبي بالتورط في تحويلات مجهولة تقدر بـ3.5 مليارات دولار، وتورط سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة في قضايا فساد تتعلق بشكل مباشر بالقضايا المتعلقة بالصندوق السيادي الماليزي.
وحتى مع استمرار الإبلاغ عن الفضيحة وإطلاق السلطات الأمريكية تحقيق والبدء في الاستيلاء على الأصول في أوائل عام 2017، بدا من غير المرجح أن يواجه نجيب الملاحقة القضائية، فقد كان لديه قبضة حديدية على السياسة الماليزية، وأصدر عدة قوانين على ما يبدو مصممة لإحباط مناقشة الصندوق السيادي الماليزي.
من قمة السلطة إلى السجن
انتهى كل ذلك في 9 مايو 2018، عندما حصل مهاتير محمد البالغ من العمر 92 عامًا -وهو رئيس وزراء سابق وحليف سابق لنجيب- على فوز عام في الانتخابات العامة، وعندما كان الماليزيون يحتفلون في الشوارع، كان نجيب قد خرج من منصبه، وكانت هذه بداية السقوط الدرامي من النعمة.
اُتهم نجيب رسميًا بتهم متعددة؛ ثلاثة منها تتعلق بخيانة الأمانة والرابعة بسوء استغلال السلطة، ويواجه عقوبة السجن لمدة 20 عامًا في حال ثبوت الاتهامات الأولى
في الأسابيع التي أعقبت الانتخابات، مُنع هو وزوجته روزما منصور – المتهمة بعسيل الأموال- من مغادرة البلاد، وداهمت الشرطة منزل الزوجين، وصادرت ممتلكات بقيمة 273 مليون دولار من ستة مبان، واستولت على 1200 قطعة من الجواهر و567 حقيبة فاخرة وغيرها من السلع الفاخرة، بالإضافة إلى ممتلكات أخرى مرتفعة القيمة.
وفي مؤتمر صحفي، أوضح رئيس قسم الجرائم التجارية في الشرطة أمار سينغ أن مواد تمت مصادرتها من قبل تبلغ قيمتها 116 مليون رينغيت (28,8 مليون دولار) نقدًا بـ26 عملة، وحوالي 12 ألف قطعة مجوهرات ومئات من حقائب اليد الفاخرة وساعات، مشيرًا إلى أنها “أكبر عملية مصادرة في تاريخ ماليزيا” بالنظر إلى ضخامة ما تم وضع اليد عليه.
وفي يوليو/تموز 2018، اُتهم نجيب رسميًا بتهم متعددة؛ ثلاثة منها تتعلق بخيانة الأمانة والرابعة بسوء استغلال السلطة، ويواجه عقوبة السجن لمدة 20 عامًا في حال ثبوت الاتهامات الأولى، أما عقوبة استغلال المنصب من أجل التربح والكسب غير المشروع فهي غرامة لا تقل عن 5 مرات من قيمة الأموال المختلسة من صندوق التنمية الماليزي.
الشرطة الماليزية خلالها عرضها بمؤتمر صحفي جانبًا من الممتلكات المصادرة
في 12 شباط/فبراير، سيكون نجيب في قفص الاتهام من بين المتهمين الرئيسيين، ومن المتوقع أن “لو” يختبئ في الصين، متحديًا محاولات تسليمه لماليزيا، وفي بيان على موقعه على الإنترنت: قال: “لن يخضع لو جو لسلطة قضائية حيث تحددت السياسة بالذنب مسبقًا ولا توجد اجراءات قانونية مستقلة”، وأضاف: “من الواضح أن السيد لو لا يستطيع الحصول على محاكمة عادلة في ماليزيا، حيث أثبت النظام مرات عديدة غير مهتم بحكم القانون”.
لقد اختفت الملابس ذات المقاسات الإيطالية برباطاتها المنسقة بعناية ومنديل الجيب، ولا يمكن رؤية زوجته روزما في ملابسها الحريرية التقليدية المصممة حسب الطلب والمُصممة بالألماس في أي مكان، وفي حين كان نجيب رئيسًا للوزراء، كان يُتَّهم في كثير من الأحيان بأنه بعيد كل البعد عن حياة المواطنين العاديين، ولكن الآن، هو خارج منصبه ويواجه العشرات من التهم الجنائية.