عشرات الآلاف من الأساتذة والباحثين والأطر والمهندسين والأطباء المكونين بجهد وإمكانيات الدولة المغربية، يغادرون المملكة كل سنة بحثا عن مستقبل مهني أفضل وعيش رغيد في أوروبا وغيرها من البلدان الغربية، ما أثر سلبا على البلاد ومستقبل التنمية فيها.
خسائر كبرى للدولة
تشكل هجرة الكفاءات المغربية، هاجسا مخيفا للحكومة والمنظمات على حدّ السواء، خاصة في ظلّ تزايد أعداد المهاجرين من الكوادر العلمية المتخصصة، لما لها من آثار سلبية تتمثل في حرمان البلاد من الاستفادة من خبرات ومؤهلات هذه الكفاءات لتؤثر سلبا على تطور الاقتصاد الوطني، وعلى التركيب الهيكلي للسكان في المملكة.
وتوصف بـ”هجرة الأدمغة” تلك الحركة البشرية العابرة للحدود للعاملين من ذوي الكفاءات العالية من بلد إلى آخر خاصة من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة، ويعرف هؤلاء بأنهم من درسوا للحصول على درجة علمية أو يملكون خبرة في مجال أكاديمي معين.
يقول الباحث المغربي في علم الاجتماع، محمد بن همور، في هذا الشأن إن “الفئة التي اختارت الهجرة أو أجبرت عليها تشكل العقل المفكر و العقل المتطور للمجتمع، لذلك فإن تأثيرها كبير على حاضر البلاد ومستقبله.”
تنفق المملكة المغربية، أموالا كثيرة على تكوين طلابها، ما يجعل خسائرها المادية كبيرة جدّا في حال قرّر الطالب أو المتحصل على شهادة جامعية الهجرة دون رجعة إلى البلاد
يضيف بن همور في تصريح لنون بوست، “تأثير هذه الهجرة كبير جدا حيث نفتقد لكفاءات تستطيع أن تبتكر وتطور، و تخلّف هي بدورها أطر ناشئة تستفيد من حنكتها و معرفتها”، ويرى الباحث المغربي أن “التأثير السلبي يظهر أيضا من خلال سوء الخدمات المقدمة للمواطنة، لعدم وجود هذه الأطر.” وقدّم محمد المستشفيات مثلا على ذلك، فكثير من المستشفيات تفتقد لأخصائيين قادرين على تقديم الإضافة، نتيجة هجرة الأطباء، وفق قوله.
وتتجلى الخطورة أيضا، في أن عددا كبيرا من هؤلاء، يعملون في أهم التخصصات الحرجة والإستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة والطب النووي والعلاج بالإشعاع، والهندسة الإلكترونية والميكروإلكترونية، والإعلامية وغيرها من التخصصات المهمة.
وتساءل الباحث المغربي في ختام حديثه لنون بوست، عن كيفية بقاء مجتمع ينشد التطور والرقي “دون نخبته المكونة تكوينا جيدا”. بالرغم من غياب إحصائيات محيّنة حول عدد الكفاءات المهاجرة، فإن أرقاما إحصائية رسمية سابقة تفيد بأنّ هجرة الأدمغة المغربية وصلت إلى مستويات قياسية، جعلته يحتل مراتب متقدمة عربيا في مجال “تصدير” الأدمغة. ويشكل الطلبة المغاربة نسبة مهمة ضمن عدد الطلبة الأجانب في بلدان أوربية عديدة، من بينها فرنسا مثلاً التي يتصدر فيها المغاربة قائمة الطلبة الأجانب.
وتنفق المملكة المغربية، أموالا كثيرة على تكوين طلابها، ما يجعل خسائرها المادية كبيرة جدّا في حال قرّر الطالب أو المتحصل على شهادة جامعية الهجرة دون رجعة إلى البلاد، فغالبا من يهاجر لا يرجع إلا لقضاء بعض الوقت بين أهله وأصحابه، وبالتالي لا تستفيد الدولة من التكوين الذي حصل عليه.
لا يستفيد المغرب كثيرا من الطلبة المتخرجين حديثا
من جهته، يرى الأستاذ والباحث بمركز الدكتوراه التخطيط الجهوي والتنمية الترابية، عبد الوهاب السحيمي، أنه “لا يمكن تحقيق أي تقدم لأي بلد ومعظم أطره وكفاءاته تهاجر باستمرار لبلدان أجنبية للبحث عن أفق أفضل، ومسؤولو الدول الأوربية والأمريكية التي تعرف قيمة هؤلاء الشباب ودورهم في التنمية والتقدم والازدهار، يعملون جاهدين وبوسائل مختلفة على استقطابهم وتمكينهم من إغراءات مادية كبيرة للالتحاق ببلدانهم.”
يضيف عبد الوهاب السحيمي، “للأسف نحن في دول العالم الثالث وبحكم أن مسؤولينا ليست قلوبهم على أوطانهم وعلى تقدم شعوبهم وكل ما يهمهم هو مستقبل أبنائهم وتسمين حساباتهم البنكية وكيف يمكن لهم توريث المناصب لأبنائهم وأحفادهم، تجدهم يقومون بالمستحيل لدفع الشباب الحامل لشهادات عليا للهجرة والرحيل وتجدهم كذلك يضعون سياسات حكومية فاشلة في التعليم لتكليخ أبناء و بنات الشعب حتى يظل أحفادهم وأبناؤهم هم أعلى الأطر وأنجبها.”
التهميش والبطالة وأسباب أخرى
فشل السياسات الحكومية المتناوبة على المغرب في التصدّي لهذه الظاهرة ومعالجته، مع غياب برامج واستراتيجيات واضحة لتوفير فرص الشغل في ظروف مواتية تضمن الكرامة لشباب كانوا يفضلون البقاء لخدمة بلدهم، أدّت جميعها إلى اضطرار هؤلاء إلى مغادرة المملكة والاستقرار في بلدان أجنبية تحضنهم مستفيدة من خبراتهم ومؤهلاتهم العلمية العالية.
وترجع الباحثة المغربية في علم الاجتماع خديجة نعمان هجرة الكفاءات في بلادها إلى “غياب الدعم ومواكبة الطلبة والخريجين”، وتقول خديجة في هذا الشأن لنون بوست، “مجمل الطلبة والطالبات والحاملين للشهادات العليا مهمشون اليوم في المغرب والهوة مازالت مستمرة، فمعظم الحاصلين على شهائد عليا في المغرب يعيشون حياة قاسية.”
وعادة ما لا يجد المواطنين المغربيين ذوي الكفاءة العالية في بلدهم أي تكريم أو تأييد أو مؤازرة على كافة الأصعدة، وهو ما يجدوه عند شركات الغرب التي تتهافت عليهم وتجندهم لتطوير والرقي بمجتمعاتهم الغربية. وتقول نعمان، ” الدولة التي تخصص من بحثها العلمي سوى 2%، لا تتوقع منها أن تحتضن كفاءاتها، فربما لا تؤمن بتكويناتهم أصلا، ولا تعترف بالشهادات الجامعية التي أسندتها لهم جامعاتها المنتشرة في كامل البلاد.”
لم تعد هجرة الكفاءات في المغرب تقتصر على الطلاب حاملي الشهادات الجدد، بل أصبحت تشمل أيضا الكوادر العليا المستقرة في البلاد
تقول الباحثة المغربية، إن “يد العون تأتي من الخارج عبر برامج ومنح محفزة، وهو ما يدفع الشباب إلى التفكير جديا في الهجرة، وهو يعي تماما أن بلد الطرد لم يعطيه فرصة عمل في المجتمع المغربي، فالمؤسسات التعليمية بمختلف مسالكها تعطي الشهادة لكن لا تخول لك التوظيف وإن تم ستكون طبق معايير مخزية للولوج إلى العمل على غرار التوظيف عن طريق التعاقد أو التوظيف عن طريق الأكاديميات الذي أقدمت عليه الحكومة في عهد عبد الإلاه بن كيران .”
وأكّدت خديجة نعمان، أنه “من الطبيعي أن يحتل المغرب المرتبة الثانية من هجرة الكفاءة المغاربية خلف تونس، فالذي لا يزرع لا ينتظر وقت الحصاد فهجرة الأدمغة هي مربحة للأسر المعوزة والتي يكون آمالها على فلذة الأكباد، لكن في الآن ذاته قاتلة للمسار التنموي، فحتى الكفاءات التي آثرت البقاء في البلاد اتجهت إلى المؤسسات الأجنبية سوء إلى شركات غربية موجودة في المملكة أو منظمات أجنبية تعمل لمصالحها.”
ولم تعد هجرة الكفاءات في المغرب تقتصر على الطلاب حاملي الشهادات الجدد، بل أصبحت تشمل أيضا الكوادر العليا المستقرة في البلاد، من الذين يبحثون عن حياة أفضل في أوروبا، أو من الذين يبحثون عن فرص تعليم أفضل لأبنائهم.
بدوره يرى الأستاذ والباحث بمركز الدكتوراه التخطيط الجهوي والتنمية الترابية، عبد الوهاب السحيمي، أن السبب الرئيس لهجرة الأدمغة، هو البطالة وعدم ملاءمة سوق الشغل مع تكوينات الشباب، بالإضافة إلى الانتشار الواسع للزبونية والمحسوبية لولوج الوظائف والمناصب.”
يعاني المغرب من ارتفاع نسب البطالة في صفوف أصحاب الشهائد العليا
يرجع السحيمي أسباب إقبال الشباب المغاربة الحاصلين على شهادات عليا والمتوفرين على تكوين عال خاصة في التخصصات العلمية كالطب والهندسة والتكنولوجويا، في تصريحه لنون بوست، “إلى ظاهرة البطالة التي تعرف نموا مضطردا سنة بعد سنة.”
ويضيف، “من الطبيعي جدا أن تجد شبابا حاملين لشهادات عليا يحتجون أمام البرلمان وأمام مختلف القطاعات الحكومية للمطالبة بالشغل، وعوض أن تبحث الحكومة عن السبل الكفيلة لتوظيف وتشغيل هؤلاء تلجأ لقمعهم والتنكيل بهم في الشوارع، فيضطر معظم الأطر للهجرة والبحث عن فرص أفضل في بلدان أجنبية.”
آليات الحد من هذه الظاهرة
للحد من هذه الظاهرة، يؤكّد عبد الوهاب السحيمي، “ضرورة وجود مسؤولين وطنيين، لهم غيرة كبيرة على الأوطان وقلوبهم على بلدانهم، يشرعون في إصلاح شامل لجميع القطاعات الاجتماعية وعلى رأسها التعليم والصحة والتشغيل، فلا يمكن الحد من ظاهرة هجرة الأدمغة والكفاءات دون إصلاح شامل وعميق للتعليم.”
بالإضافة إلى إصلاح التعليم، يقول الباحث المغربي إنه “لابد من إصلاح شامل لمنظومتي التشغيل وكذلك الصحة، والعمل على استقطاب الاستثمارات الأجنبية بتوفير لها الظروف والشروط الملائمة، والقطع مع جميع أشكال الزبونية والمحسوبية التي تنخر مختلف المؤسسات الوطنية.”
ويضيف، “يجب كذلك، تفعيل دور مؤسسات الحكامة لتحقيق النزاهة والشفافية في الصفقات وجميع المعاملات الاقتصادية والتجارية، ومحاربة ظاهرة الرشوة وربط المسؤولية بالمحاسبة وتفعيل دور مؤسسة مجلس المنافسة لتكريس المنافسة الاقتصادية الشريفة بين جميع الفرقاء الاقتصاديين، ووضع حد لجميع أنواع الاحتكار ولهيمنة مؤسسات اقتصادية بعبنها لها حظوة وقرب عند دوائر القرار العليا في البلاد. “