ترجمة وتحرير: نون بوست
سيؤدي الفوز الساحق الذي حققه دونالد ترامب والحزب الجمهوري إلى تغييرات كبيرة في القضايا السياسية الكبرى، بداية من ملف الهجرة وصولًا إلى حرب أوكرانيا، لكن أهمية الانتخابات تمتد إلى ما هو أبعد من هذه القضايا، وتعكس رفض الناخبين الأمريكيين الحاسم لليبرالية والطريقة التي تطور بها مفهوم “المجتمع الحر” منذ الثمانينيات.
عندما انتُخب ترامب لأول مرة في سنة 2016، كان من السهل الاعتقاد بأن ذلك يمثل حالة شاذة، فقد كان مرشحًا ضد منافس ضعيف لم يأخذه على محمل الجد، كما أن ترامب لم يفز في التصويت الشعبي. وعندما وصل بايدن إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات، بدا أن الأمور قد عادت إلى مجراها الطبيعي بعد فترة رئاسية كارثية.
لكن بعد انتخابات يوم الثلاثاء، يبدو الآن أن رئاسة بايدن هي التي كانت حالة شاذة، وأن ترامب يدشن حقبة جديدة في السياسة الأمريكية وربما في العالم ككل. صوّت الأمريكيون وهم على دراية تامة بهوية ترامب وما يمثله، فهو لم يفز فقط بأغلبية الأصوات، بل إنه من المتوقع أن يفوز بكل الولايات المتأرجحة، كما أن الجمهوريين استعادوا مجلس الشيوخ ويبدو أنهم سيحتفظون بمجلس النواب، ونظرًا لهيمنتهم الحالية على المحكمة العليا، فإنهم الآن على وشك السيطرة على كل مفاصل الحكومة.
ولكن ما هي طبيعة هذه المرحلة الجديدة من التاريخ الأمريكي؟
الليبرالية الكلاسيكية هي عقيدة مبنية على احترام المساواة في كرامة الأفراد من خلال سيادة القانون الذي يحمي حقوقهم، ومن خلال الضوابط الدستورية التي تحدد مدى تدخل الدولة في تلك الحقوق. ولكن على مدى نصف القرن الماضي، تعرضت هذه الركيزة الأساسية لتشوهين كبيرين، الأول كان صعود “الليبرالية الجديدة“، وهي عقيدة اقتصادية قدست الأسواق وقللت من قدرة الحكومات على حماية المتضررين من التحوّل الاقتصادي. أصبح العالم أكثر ثراءً في المجمل، لكن الطبقة العاملة فقدت الوظائف والفرص، وانتقلت السلطة من الدول التي احتضنت الثورة الصناعية، إلى آسيا ومناطق أخرى من العالم النامي.
أما التشوه الثاني فكان صعود سياسات الهوية أو ما يمكن أن نطلق عليه “الليبرالية المستيقظة”؛ حيث تم استبدال الأجندة التقدمية التي تركز على الطبقة العاملة، بحماية مجموعة أضيق من الفئات المهمشة: الأقليات العرقية والمهاجرون والأقليات الجنسية وما شابه ذلك، واستُخدمت سلطة الدولة بشكل متزايد لتعزيز الحضور الاجتماعي لهذه الفئات، وليس لخدمة العدالة.
وفي الوقت نفسه، تحوّلت أسواق العمل إلى اقتصاد المعلومات؛ وقد أدى تحول معظم العمال إلى إنجاز المهام أمام شاشات الكمبيوتر بدلاً من رفع الأشياء الثقيلة في المصانع، إلى مساواة أكبر بين الرجال والنساء في سوق العمل، وإلى تحول السلطة داخل العائلات وإلى ظهور ما يبدو أنه اعتراف نهائي بمكانة المرأة.
أدى ظهور هذه المفاهيم المشوهة لليبرالية إلى تحول كبير في الأساس الاجتماعي للسلطة السياسية؛ فقد شعرت الطبقة العاملة أن الأحزاب السياسية اليسارية لم تعد تدافع عن مصالحها، وبدأت بالتصويت لأحزاب اليمين، وهكذا فقد الديمقراطيون التواصل مع قاعدتهم من الطبقة العاملة وأصبحوا حزبًا يهيمن عليه المهنيون الحضريون المتعلمون، واختار العمال التصويت للجمهوريين. أما في أوروبا، فقد تحوّل أنصار الشيوعية في فرنسا وإيطاليا نحو مارين لوبان وجورجيا ميلوني.
كل هذه الفئات لم تكن راضية عن منظومة التجارة الحرة التي قضت على سبل عيشهم، وخلقت في الآن ذاته طبقة جديدة من أصحاب الثروات الطائلة، ولم تكن راضية كذلك عن الأحزاب التقدمية التي بدا أنها أصبحت تهتم بالأجانب والبيئة أكثر من اهتمامها بأوضاعهم.
انعكست هذه التحوّلات الاجتماعية الكبيرة على أنماط التصويت يوم الثلاثاء، فقد اعتمد فوز الجمهوريين على تصويت الطبقة العاملة من البيض، لكن ترامب نجح في استقطاب عدد أكبر بكثير من الناخبين من الطبقة العاملة من السود وذوي الأصول الإسبانية مقارنة بانتخابات 2020، وينطبق ذلك بشكل خاص على الناخبين الذكور داخل هذه المجموعات.
كان للطبقة العاملة أهمية أكبر من العرق أو الإثنية، فلا يوجد سبب يجعل الناخب اللاتيني من الطبقة العاملة مثلًا ينجذب إلى الليبرالية المستيقظة التي تفضل المهاجرين الجدد الذين لا يحملون وثائق هوية وتركز على تعزيز حقوق المرأة.
من الواضح أيضًا أن الغالبية العظمى من ناخبي الطبقة العاملة لم يهتموا بالتهديد الذي يشكله ترامب بالذات على النظام الليبرالي على الصعيدين المحلي والعالمي.
لا يريد دونالد ترامب أن يدحر الليبرالية الجديدة والليبرالية المستيقظة فحسب، بل إنه يشكل تهديدًا كبيرًا لليبرالية الكلاسيكية نفسها، ويتجلى هذا التهديد في عدد من القضايا السياسية؛ فرئاسة ترامب الجديدة لن تشبه ولايته الأولى في أي شيء، والسؤال الحقيقي في هذه المرحلة لا يتعلق بخبث نواياه، بل بقدرته على تنفيذ ما يهدد به فعليًا.
العديد من الناخبين لا يأخذون خطابه على محمل الجد، بينما يجادل كبار الجمهوريين بأن الضوابط والتوازنات في النظام الأمريكي ستمنعه من تنفيذ أسوأ خططه، وهذا خطأ: يجب أن نأخذ نواياه المعلنة على محمل الجد.
نصّب ترامب نفسه مدافعًا عن الحمائية التجارية، ويقول إن “التعريفة الجمركية” هي أجمل كلمة في اللغة الإنجليزية، واقترح فرض تعريفة جمركية بنسبة 10 أو 20 بالمائة على جميع السلع المنتجة في الخارج، سواء تعلق الأمر بالأصدقاء أو الأعداء، ولا يحتاج إلى تفويض من الكونغرس للقيام بذلك.
وحسب ما أشار عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين، فإن هذا المستوى من الحمائية سيكون له آثار سلبية للغاية على التضخم والإنتاجية والتوظيف، وسيؤدي إلى اضطراب كبير في سلاسل التوريد، مما سيدفع المنتجين المحليين إلى طلب إعفاءات من الضرائب الباهظة، ويفسح المجال لمستويات عالية من الفساد والمحسوبية مع تهافت الشركات على كسب ود الرئيس.
كما أن التعريفات الجمركية على هذا المستوى ستؤدي إلى ردود فعل انتقامية من الدول الأخرى، مما يهيئ وضعًا تنهار فيه التجارة والدخل، وربما يتراجع ترامب في تلك الحالة؛ وقد يرد أيضًا مثلما فعلت الرئيسة الأرجنتينية السابقة كريستينا فرنانديز دي كيرشنر بحظر الوكالة الإحصائية التي تنقل هذه الأرقام السيئة.
فيما يتعلق بالهجرة، لم يعد ترامب يريد مجرد إغلاق الحدود، بل يريد ترحيل أكبر عدد ممكن من المهاجرين الموجودين في البلاد بشكل غير قانوني، ويبلغ عددهم 11 مليونا. من الناحية الإدارية، هذه مهمة ضخمة لدرجة أنها تتطلب سنوات من الاستثمار في البنية التحتية اللازمة لتنفيذها، مثل مراكز الاحتجاز، ووكلاء مراقبة الهجرة، والمحاكم، وما إلى ذلك.
سوف يكون لهذه السياسة آثار مدمرة على عدد من الصناعات التي تعتمد على العمالة المهاجرة، لا سيما البناء والزراعة. كما أنها ستشكل تحديًا هائلًا من الناحية الأخلاقية، إذ سيتم انتزاع الأطفال من آبائهم وأمهاتهم، وسيفتح ذلك الباب أمام نزاع قضائي مرير، لأن العديد من الذين لا يحملون وثائق هوية يعيشون في ولايات يسيطر عليها قضاة ديمقراطيون سيفعلون ما بوسعهم لمنع ترامب من تحقيق هدفه.
فيما يتعلق بسيادة القانون، ركز ترامب خلال حملته الانتخابية على السعي للانتقام من الظلم الذي يعتقد أنه تعرض له من منتقديه. وقد تعهد باستخدام النظام القضائي لملاحقة الجميع بدءًا من ليز تشيني وجو بايدن، إلى رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق مارك ميلي وباراك أوباما. كما يريد إسكات منتقديه في وسائل الإعلام عن طريق سحب التراخيص أو فرض العقوبات.
ومن غير المؤكد ما إذا كان ترامب يمتلك القدرة على تنفيذ هذه التهديدات، فقد كان النظام القضائي أحد أكثر الحواجز صمودًا أمام تجاوزاته خلال فترة ولايته الأولى، لكن الجمهوريين يعملون بشكل مستمر لتعيين قضاة متعاطفين معه، مثل القاضية إيلين كانون في فلوريدا، التي أسقطت قضية الوثائق السرية المرفوعة ضده.
ستكون هناك أيضا بعض التغييرات الكبرى في السياسة الخارجية وفي طبيعة النظام الدولي. ستكون أوكرانيا الخاسر الأكبر إلى حد بعيد؛ فقد كانت مقاومتها العسكرية للروس متراجعة حتى قبل الانتخابات، ويمكن لترامب أن يجبرها على التسوية بشروط روسيا من خلال حجب الأسلحة، كما فعل مجلس النواب الجمهوري لمدة ستة أشهر في الشتاء الماضي.
وقد هدد ترامب سرًا بالانسحاب من حلف الناتو، ولكن حتى لو لم يفعل، فبإمكانه إضعاف الحلف بشكل كبير من خلال عدم الالتزام بتنفيذ بند الدفاع المتبادل بموجب المادة الخامسة. لا توجد دول أوروبية يمكنها أن تحل مكان أمريكا كقائد للحلف، لذلك فإن قدرته المستقبلية على الوقوف في وجه روسيا والصين موضع شك كبير. سيُلهم فوز ترامب الشعبويين في أوروبا مثل حزب البديل من أجل ألمانيا والتجمع الوطني في فرنسا.
حلفاء الولايات المتحدة وأصدقاؤها في شرق آسيا ليسوا في وضع أفضل. صحيح أن ترامب يهاجم الصين في تصريحاته، لكنه يعبّر في الآن ذاته عن إعجابه بخصال شي جين بينغ القيادية، وقد يكون مستعدًا لعقد صفقة معه بشأن تايوان. يبدو أن ترامب يعارض بشكل جوهري استخدام القوة العسكرية ومن السهل استغلاله في هذا الاتجاه، لكن الاستثناء الوحيد قد يكون الشرق الأوسط، إذ من المتوقع أن يدعم بالكامل حروب بنيامين نتنياهو ضد حماس وحزب الله وإيران.
وهناك أسباب قوية للاعتقاد بأن ترامب سيكون أكثر فاعلية في تحقيق هذه الأجندة مما كان عليه خلال ولايته الأولى، فقد أدرك هو والجمهوريون أن تنفيذ السياسات يتعلق بالأفراد. عندما تم انتخابه لأول مرة في 2016، لم يأت إلى منصبه محاطًا بمساعديه المقربين، بل كان عليه الاعتماد على الجمهوريين في مؤسسة الحكم.
وفي العديد من الحالات، قاموا بعرقلة أوامره أو الالتفاف عليها أو التباطؤ في تنفيذها. وفي نهاية فترة ولايته، أصدر أمرًا تنفيذيًا بإنشاء “جدول إف” جديد يهدف إلى تجريد جميع الموظفين الفيدراليين من الحصانة الوظيفية ويسمح له بفصل أي موظف حكومي.
يعدّ إحياء “جدول إف” جزءًا محوريا من خطط ترامب في الولاية الثانية، وقد عمل المحافظون على
إعداد قوائم بالمسؤولين المحتملين الذين يعتبر ولاؤهم الشخصي لترامب المؤهل الرئيسي للتعيين، وهذا هو العامل الذي قد يمكنه من تنفيذ خططه هذه المرة.
قبل الانتخابات، اتهم المنتقدون ومن بينهم كامالا هاريس، ترامب بأنه فاشي. هذا الاتهام ليس دقيقا، لأن ترامب لا يعتزم تطبيق حكم دكتاتوري في الولايات المتحدة، بل إن هدفه هو أن يُحدث خللا تدريجيا في صلب المؤسسات الليبرالية، مثلما حدث في هنغاريا بعد عودة فيكتور أوربان إلى السلطة في 2010.
بدأ هذا التدهور يحدث بالفعل، وقد سبّب ترامب ضررًا كبيرًا. لقد عمّق الاستقطاب الموجود في المجتمع، وشيطن الحكومة وقلل من مستوى الثقة بأنها تحمي مصالح الأمريكيين، وأساء للخطاب السياسي وفسح المجال للتعبير العلني عن التعصب وكراهية النساء، وأقنع أغلبية الجمهوريين بأن سلفه كان رئيسًا غير شرعي سرق انتخابات 2020.
سيتم تفسير فوز الجمهوريين الكاسح في انتخابات الرئاسة ومجلس الشيوخ، وربما مجلس النواب، على أنه تفويض سياسي قوي يؤكد هذه الأفكار ويسمح لترامب بالتصرف كما يشاء. لا يسعنا إلا أن نأمل أن تبقى بعض الحواجز المؤسسية المتبقية صامدة عندما يتولى منصبه، لكن الأمور قد تسوء كثيرًا في الوقت الراهن قبل أن تتحسن لاحقا.
المصدر: فاينانشال تايمز