شكلت الانتخابات الأمريكية الحدث المحوري الذي تعلقت عليه الكثير من التحليلات والتقديرات حول سلوك الإدارة الأمريكية في التعامل مع الملفات الساخنة، خاصةً المواجهة في الشرق الأوسط التي تصاعدت إثر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي تركت بصمتها بوضوح في توجهات الناخبين وموازين صندوق الانتخابات الأمريكي.
تأرجح سلوك إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ما بين المشارك في الإبادة مشاركةً كاملةً أولًا، والمتردد في الضغط على “إسرائيل” ثانيًا، والمتضارب بين الرفض لوقف الحرب إلى تأييد إنهائها، وليس انتهاءً بالامتناع عن إبداء معارضة حقيقة لتوسيع الاشتباك في شمالي فلسطين المحتلة إلى حرب على لبنان، وصولًا إلى العجز عن انتزاع أي تنازلات إسرائيلية حقيقية وتركيز الضغط على المقاومة لتحصيل هدوء وفق مقاييس الاحتلال يُجنِب الديمقراطيين أثر الوصول إلى الاستحقاق الانتخابي والحرب مستمرة.
لم يتجاوز هذا التأرجح والتضارب كونه تعبيرًا مكثفًا عن الصهيونية المُعلنة لشخص الرئيس الأمريكي، والسلوك الواضح لجزء أساسي من فريقه والهادف إلى توفير الوقت اللازم لرئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، للبحث عن “نصره المطلق”، في الوقت الذي لعب فيه الأخير لعبته المفضلة في المشهد الأمريكي، واستثمر في المؤشرات الداخلية لضمان وصول خياره المفضل إلى البيت الأبيض، وألا يُمنح بايدن وبديلته هاريس أي منجزات تخفِف من حدة الناقمين على شراكتهم في حرب الإبادة.
لا يمكن للإدارة الديمقراطية منتهية الولاية في البيت الأبيض، وشخوص الرئيس بايدن ونائبته المرشحة الرئاسية المنهزمة هاريس أن يغفلوا عن سلوك نتنياهو الذي بدا داعمًا بوضوح لوصول ترامب إلى سدة الرئاسة، والمسارع لتهنئته وكيل المدح لنتائج الانتخابات، فهل سينعكس ذلك على سلوك هذه الإدارة في مرحلة “البطة العرجاء” ويجعلها تأخذ منعطفًا تاريخيًا ينهي شلال الدماء في الشرق الأوسط؟
مرحلة “البطة العرجاء”
في الولايات المتحدة، تُعرف الفترة بين الانتخابات الرئاسية (في نوفمبر/تشرين الثاني) وتنصيب الرئيس الجديد (في 20 يناير/كانون الثاني من العام التالي) بمرحلة “البطة العرجاء” (Lame Duck)، في إشارة إلى الأيام الأخيرة لبقاء الرئيس في الحكم، واستلام الرئيس المنتخب مهامه رسميًا.
في خلال هذه المرحلة، تتسم السياسة الخارجية الأمريكية بخصائص وقيود معينة، لأن الإدارة الحالية تكون في نهاية ولايتها، بينما لم تتول الإدارة الجديدة بعد زمام الأمور.
يتمتع الرئيس المنتهية ولايته بكامل الصلاحيات بصفته رئيسًا حتى يوم التنصيب، بما فيها قيادة السياسة الخارجية. مع ذلك، تفرض هذه الفترة قيودًا سياسية، إذ يُنظر للرئيس على أنه يفتقر إلى التفويض الشعبي الذي قد يتمتع به رئيس انتُخِب حديثًا.
عادةً ما يركِز الرئيس المنتهية ولايته على الملفات التي قد تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة، أو الملفات التي يرغب في ترك بصمة فيها قبل نهاية ولايته، وينظر إليها بوصفها فرصة لإنقاذ إرثه، و”إنهاء الأعمال غير المكتملة”، خاصةً تلك التي تنطوي على تحركات قد لا تحظى بـ”شعبية سياسية”.
في حال حدوث أزمات أمنية أو عسكرية عاجلة، يتمتع الرئيس المنتهية ولايته بالسلطة الكاملة لاتخاذ قرارات سريعة وحاسمة، مثل إصدار أوامر عسكرية أو اتخاذ قرارات تتعلق بالأمن القومي. على سبيل المثال، خلال فترة “البطة العرجاء” عام 1990، أرسل الرئيس الأمريكي في حينه، جورج بوش الأب، قوات إضافية إلى السعودية لحماية الخليج من العراق.
كما يُمكِن للرئيس المنتهية ولايته أن يواصل التفاوض أو التدخل في الأزمات الطارئة، خاصةً تلك التي تحتاج إلى ردود فعل فورية، مثل الأزمات الإنسانية، الكوارث الطبيعية، أو الأزمات النووية، وهي ملفات تُنسق القرارات الحاسمة فيها مع المؤسسات الأمنية (البنتاغون ووزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية) لضمان الاستمرارية في معالجة الملفات الملحة.
في بعض الحالات يسعى الرئيس المنتهية ولايته إلى إبرام اتفاقيات أو معاهدات دولية قبل انتهاء ولايته، خاصةً إذا كان يرغب في ترك إرث سياسي أو تعزيز العلاقات مع دول معينة. على سبيل المثال، في عام 2000 نظم الرئيس الأمريكي في حينه، بيل كلينتون، مفاوضات “كامب ديفيد” بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، ومارس ضغوطًا كبيرًا على الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، للوصول إلى اتفاق مكمل لاتفاق “أوسلو” في الأيام الأخيرة من ولايته.
تكون الحالات التي يُجري فيها الرؤساء الأمريكيون تحركات سياسيةً كثيفةً في أيامهم الأخيرة غالبًا في حال كان الرئيس الجديد من الحزب المعارض، وهو ما يدفع الرئيس المنتهية ولايته إلى تعزيز سياساته الخارجية، أو اتخاذ خطوات قد تجعل من الصعب على الإدارة القادمة تغيير المسار. يُعرف هذا التكتيك بـ”سياسة الحرق”، مثل التوقيع على اتفاقيات صعبة الإلغاء أو فرض عقوبات جديدة.
على سبيل المثال، خلال مرحلة “البطة العرجاء” عام 2020، فرض الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، دونالد ترامب، عقوبات على إيران والصين، ما صعب على الرئيس المنتخب في حينه، جو بايدن، العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
الوقت الضائع لبايدن
على الرغم من أنه لم يصدر الرئيس بايدن أو إدارته أي إشارات واضحة حول الخطط التي ينوي تنفيذها خلال الأسابيع العشرة المقبلة، حتى موعد تنصيب الرئيس الجديد، فإن القضايا الأبرز للسياسة الخارجية الموضوعة على الطاولة واضحة المعالم، وتتركز بدرجة أساسية في استمرار حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني وإمكانية تطور القتال إلى حرب إقليمية، والحرب في أوكرانيا.
وفقًا لصحيفة “هآرتس” العبرية، يستعد المسؤولون في “إسرائيل” لمواجهة زيادة الضغوط الأمريكية على “إسرائيل” لإنهاء الحرب في غزة، والتقدير أن الرئيس المنتهية ولايته، جو بايدن، قد يلجأ إلى اتخاذ خطوات حقيقية من أجل الدفع نحو إنهاء الحرب، حتى لو تطلب ذلك اتخاذ قرارات امتنع عن اتخاذها طوال الفترة السابقة، بينها الامتناع عن الدفاع عن “إسرائيل” في المنتديات الدولية، أو عرقلة توريد السلاح الأمريكي الذي تعتمد عليه “إسرائيل”.
يستند هذا التقدير إلى الرسالة التي أرسلها وزيرا الخارجية والدفاع في إدارة بايدن، أنتوني بلينكن ولويد أوستين، والتي حذرا فيها من أنه إن لم تحسِن “إسرائيل” عملية نقل المساعدات الإنسانية إلى غزة في خلال 30 يومًا، فإن هذا الأمر قد يؤدي إلى وقف التأييد الأمريكي، بما في ذلك في مجال السلاح. وفعليًا، فقد انتهت هذه المدة تقريبًا، بينما لم تظهر أي زيادة في كميات المساعدات المخصصة لسكان غزة.
ووفقًا للصحيفة ذاتها، حذرت الإدارة الأمريكية “إسرائيل” من المس بعمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين في قطاع غزة، والتي تؤدي دورًا مهمًا في توزيع المساعدات هناك، ما يتضارب مع إقرار الكنيست الإسرائيلي قانونين سيجعلان عمل “أونروا” صعبًا في القطاع.
في الواقع، المطالب الحالية لإدارة بايدن والتي يجري الضغط من أجلها – وإن صرحت في العديد من المواضع بوجوب انتهاء الحرب على قطاع غزة – مرتبطة بدرجة أساسية بالرفض المباشر لبعض تجليات استمرار الحرب، وفي مقدمتها حجم المساعدات المسموح وصوله إلى سكان قطاع غزة، إضافةً إلى معارضة “خطة الجنرالات” والتخوف من مضي حكومة نتنياهو في خطط إفراغ شمالي قطاع غزة من سكانه، ومن كون هذه الخطوة تمهيدًا غير معلن لإعادة الاستيطان في قطاع غزة.
تنتهي التخوفات الأمريكية فعليًا في حال إيقاف الحرب إيقافًا كاملًا، ولا يعكس الانشغال الأمريكي بإدخال تعديلات لتفاصيل استمرار الحرب ووتيرتها نيةً حقيقيةً لتفعيل أدوات أكثر جدية في الضغط على حكومة نتنياهو لتقديم تنازلات جوهرية تسمح بالوصول إلى صفقة تشمل وقفًا شاملًا لإطلاق النار.
لا يعكس المقترح الأمريكي الأخير، الذي جرى تطويره في الأيام القليلة السابقة للانتخابات، نيةً جادة لدى إدارة بايدن للوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار وضمان الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، إذ ارتكز المقترح على فكرة الإيقاف المؤقت للقتال لمدة تقارب 30 يومًا، يتخللها تبادل جزئي للأسرى، وهو ما يعني أن الهدف من المقترح كان تمرير الانتخابات بهدوء، والتقليل من آثار استمرار الحرب على “حظوظ هاريس الانتخابية”.
وفي حال افتراض جدية نية بايدن وإدارته في ممارسة ضغط حقيقي على حكومة نتنياهو على خلفية استمرار الحرب في قطاع غزة، فإن الخيارات المتاحة أمام هذه الإدارة حتى استلام الرئيس الجديد منصبه في 20 يناير/كانون الثاني القادم تتركز في عرقلة شحنات السلاح إلى “إسرائيل”، والامتناع عن استخدام حق النقض “الفيتو” ضد القرارات التي قد تدين “إسرائيل” في مجلس الأمن، وتوسيع دائرة العقوبات ضد عناصر من اليمين المتطرف في “إسرائيل”.
يناقش مراسل صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، إيتمار آخنر، في تقرير له هذه الخيارات، ولا يستبعد أن يفكر جو بايدن في الانتقام من بنيامين نتنياهو من خلال فرض حظر على السلاح. لكنه يستبعد أن يريد بايدن “الرئيس الصهيوني الأخير” أن يكون هذا إرثه. بالإضافة إلى ذلك، يدرك بايدن أنه حتى لو فرض حظرًا، ففي إمكان ترامب أن يلغيه يوم دخوله إلى البيت الأبيض. وبناءً عليه، لا تبدو فرص الحظر كبيرة. والأكثر منطقيةً، وفقًا للتقرير، أنه إذا أراد بايدن الانتقام من نتنياهو فسيكون ذلك في مجلس الأمن، ومن خلال الامتناع عن استخدام “الفيتو” ضد قرارات لا تلائم “إسرائيل”، تمامًا مثلما فعل الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، في ديسمبر/كانون الأول 2016.
نتنياهو والمشهد الأمريكي
يُصنِف نتنياهو، الذي عاش في الولايات المتحدة لسنوات، أبرزها حينما مثل دولة الاحتلال في الأمم المتحدة، نفسه على أنه من أكثر رؤساء وزراء “إسرائيل” تأثيرًا ومعرفةً في الساحة السياسية الأمريكية، وأنه يمتلك قدرة كبيرة جدًا على اللعب على توازناتها، وتحرك جماعات المصالح فيها بما يخدم برنامجه السياسي، والحد من قدرة الإدارات الأمريكية على ممارسة ضغط فعلي عليه، أو حتى معاكسة جوهرية لخطه السياسي.
لا يتردد نتنياهو في خوض غمار التصعيد مع الإدارات الأمريكية في المواضع واللحظات الفارقة، لكن وفقًا لحساب دقيق لحسابات الربح والخسارة، وتقدير متقن للهوامش المتاحة لهذه المناورات، إذ لم يخش من وصول التصعيد مع إدارة أوباما إلى ذروته على خلفية الاتفاق النووي، الذي عارضه وهاجمه بقوة من منصة الكونغرس الأمريكي، وبقي متمسكًا برفضه لضغوط إدارة أوباما عليه بخصوص التوسع الاستيطاني، وهو ما أفضى في النهاية إلى توجيه الأخير لكمته الأخيرة إلى نتنياهو بتمرير قرار إدانة الاستيطان في مجلس الأمن بعد امتناع المندوب الأمريكي عن استخدام “الفيتو” لإيقافه.
في المشهد الحالي، وفي لحظة مثالية، قبل ساعات قليلة من فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، أقال بنيامين نتنياهو وزير الحرب في حكومته، يوآف غالانت، وهو قرار أخره نتنياهو كثيرًا ارتباطًا بتقديره لحجم الضغط الأمريكي الذي قد يتشكل على إثر إزاحته لقناة التواصل الموثوقة للإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة مع حكومة نتنياهو اليمينية.
تحرك نتنياهو وحرك كل أدواته في الساحة الأمريكية لضمان الدعم المطلق لحرب الإبادة التي تخوضها “إسرائيل” ضد الشعب الفلسطيني، وتفاخر كثيرًا بقدرته على مواجهة الضغوط الأمريكية، بل وتفاخر أكثر بتجاهله للعديد من المقترحات الأمريكية والمضي قدمًا في خططه العدوانية في قطاع غزة، وحتى توسيع العدوان على لبنان، مذكِرًا في كل محطة بأن ضغوطًا كبيرة مُورِست كي لا يقتحم الجيش الإسرائيلي مستشفى الشفاء، أو يدخل إلى خان يونس، أو يحتل رفح ويسيطر على محور فيلادلفيا، إلا أن إصراره كان العامل الحاسم للمضي قدمًا في هذه الخطط.
في كلمته بالكونغرس الأمريكي في أواخر يوليو/تموز الماضي، تباهى نتنياهو بامتيازٍ بحظوته لدى المشرِعين الأمريكيين، وتكاد تكون هذه الحظوة من عوامل التوافق القليلة بين نواب الحزبين الديمقراطي والجمهوري، الذين يجمعون في غالبهم على دعم “إسرائيل”، إلى درجة التصفيق أكثر من 50 مرة لجزار الإبادة في قطاع غزة.
التقى بنيامين نتنياهو بدونالد ترامب خلال تلك الزيارة، كما التقى بجو بايدن، ورتب المشهد كما يريده تمامًا، فحظي بمشهد الدعم العلني في الكونغرس، وأنجز الخطوط الرئيسية لملامح العلاقة القادمة مع ترامب، وحافظ على وتيرة ونسق سياسة الدعم من إدارة بايدن، وأضعف تحركاتها الجدية لإنهاء الحرب.
شكلت زيارة نتنياهو للولايات المتحدة الدفعة التي احتاجها لتصعيد حربه إلى مرحلة جديدة تتعدى قطاع غزة، وعكست شكل وطبيعة التفويض الذي حظي به في لقاءاته، وأهله لتنفيذ عمليات الاغتيال المتتالية في بيروت وطهران، والتصعيد الأقصى للاشتباك في الشرق الأوسط.
في خياراته حول مستقبل الحرب في المنطقة، وأفق الحرب في الشرق الأوسط، سيحسب نتنياهو خياراته وفق ميزان الربح والخسارة الخاص به من جهة، ومنظوره الاستراتيجي لشكل الصراع والأفق الذي توفره الاندفاعة الحالية في تغيير بعيد المدى في الشرق الأوسط.
المسارات المحدودة
يتضح للجميع أنه من شبه المستحيل التوصل إلى صفقة في قطاع غزة دون الوقف الشامل لإطلاق النار، وبالتالي إيقاف الحرب. لن تُعقد صفقة، لا كبيرة، ولا صغيرة، ولا صفقة على مراحل، أو أي صفقة أُخرى. لن يجري التوصل إلى صفقة لأن بنيامين نتنياهو لن يوافق على وقف الحرب، لأنه بذلك، سيخاطر بسقوط حكومته على يد إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
إذن ما الذي يمكن أن يدفع نتنياهو إلى تغيير مجرى الحرب بقطاع غزة؟ أو التوصل إلى صفقة؟ وما الذي تمتلكه إدارة بايدن لتعرضه على حكومة الاحتلال ويمكن أن يُشكِل معادلة جديدة تغيِر الحسابات؟
ضرب المنشآت النووية والنفطية الإيرانية: يمكن أن يُشكِل إقدام بايدن على اتخاذ خطوة دراماتيكية بأن تدمِر الولايات المتحدة و”إسرائيل” المنشآت النووية الإيرانية والاستعداد للانخراط المباشر في مواجهة آثارها، مقابل أن يبدي نتنياهو مرونة جدية لإنهاء الحرب في قطاع غزة ولبنان، على قاعدة أن “ضرب رأس الأخطبوط” بعد تهشيم أطرافه سيكون أكثر جدوى من استمرار ضرب الأطراف التي من الصعب أن تتعافى من أثر الضربات في هذه الحالة، وطريقًا أقصر تسهِل عملية “التغيير الشامل” في الشرق الأوسط الذي بات نتنياهو ينشده.
إلا أن هذه الخطوة ستُعدُ تحولًا كبيرًا في نمطية سياسة جو بايدن الخارجية، التي ارتكزت في جوهرها على إعادة التموضع خارج الشرق الأوسط، والمحاولة المستمرة بعد “طوفان الأقصى” لمنع تدحرج الاشتباك الحالي إلى حرب إقليمية من الصعب حصر حدودها وحجم تأثيرها على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وبالتالي فإن آفاقها القادمة محدودة جدًا على الرغم من حجم الحشودات الأمريكية المستمرة في المنطقة، والتي يبدو جوهرها ردعيًا لإيران أكثر من كونها قوة هجومية.
صفقة شاملة في الشرق الأوسط تتضمن تطبيعًا مع السعودية: يمكن أن يعيد نتنياهو حساباته بخصوص أي مقترحات لصفقة تتضمن إنهاء الحرب الحالية، ويمكنه أن يحملها لإقناع شركائه في الائتلاف الحكومي للمضي بها إذا تضمنت هذه الصفقة قفزة استراتيجية مهمة، لطالما بحث عنها نتنياهو، وتنسجم معها السياسة الخارجية لإدارة بايدن، وهي الصفقة الشاملة التي تتضمن عملية تطبيع مع السعودية، وتشمل ترتيبات شاملة لعلاقات حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
تُعدُ هذه الصفقة، التي فاوضت الولايات المتحدة المملكة السعودية على تفاصيلها باستفاضة قبل انطلاق “طوفان الأقصى”، من أبرز طموحات نتنياهو، الذي بحث عن استكمال “اتفاقات أبراهام” بالخطوة الكبرى بالتطبيع مع السعودية، وبالتالي الانفتاح الكامل على العالمين العربي والإسلامي دون أي قيود أو موانع، خصوصًا تلك المرتبطة بحقوق الشعب الفلسطيني.
يمكن أن يجعل مثل هذا العرض نتنياهو يُعيد حساباته، إلا أن احتمالات وجود مثل هذا العرض تكاد تكون منعدمة لحسابات اللاعبين جميعهم، خصوصًا السعودية التي لم تربطها بإدارة بايدن علاقات إيجابية، ناهيك بأنه ليس ثمة ما يحفزها للتضحية بمثل هذه الورقة قبل وصول الوافد الجديد إلى البيت الأبيض، الذي سيمضي في اتجاه استكمال ما بدأه في دورته الرئاسية السابقة بتعزيز مسار التطبيع في الشرق الأوسط.
واقعيًا، لا تمتلك إدارة جو بايدن أدواتٍ فعليةً لتحقيق ضغط حقيقي على بنيامين نتنياهو وحكومته، وكل الخيارات المتبقية أدوات يمكن للحكومة الإسرائيلية تحمُل ضغطها حتى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مع الأخذ في الحسبان أن أولوية بايدن القادمة ستكون تأمين أوسع دعم ممكن لأوكرانيا، وسباق الزمن لتكثيف إيصال شحنات الأسلحة إلى فولوديمير زيلينسكي.
من المؤكد أن حكومة الاحتلال الحالية حظيت بدعم كبير بعد انضمام جدعون ساعر إلى الحكومة مع 4 أعضاء من حزب “أمل جديد”، لكن من جهة ثانية إن هدد إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش بإسقاط الحكومة، فإن بنيامين نتنياهو لن يخاطر بالسير في الصفقة.
والخلاصة أنه إذا كان نتنياهو واثقًا 100% بأن الحكومة ستصمد مع صفقة مخطوفين، فقد يقرر السير في هذا الاتجاه، لكن ماذا سيحدث حينها؟ يمكن أن يضم الصفقة كجزء من صفقة تطبيع العلاقات مع السعودية التي يريد ترامب الدفع بها قدمًا. بالنسبة إلى نتنياهو، من الأفضل الذهاب إلى خطوة تاريخية تتضمن صفقة المخطوفين، ويمكن أن تكون مقبولة من وزراء اليمين إن حصلت “إسرائيل” في مقابلها على جائزة كبيرة: التطبيع مع السعودية.