ينظر العالم اليوم إلى الشعور بالوحدة على أنه خطرٌ يهدّد صحة الإنسان يضاهي في الوقت نفسه الخطر الناجم عن كلٍّ من السمنة والتدخين. وفي السنوات الأخيرة القليلة، ظهرت العديد من الإحصاءات التي تكشف عن الأرقام الصادمة للأشخاص الذين يعانون من الوحدة ويشعرون بالسوء حيالها. نصف الأمريكيين وخُمس البريطانيّين على سبيل المثال يشعرون بالوحدة.
تظهر جدّية التعامل مع مشاكل الوحدة من التعامل معها كوباء منتشر يهدّد أعدادًا كبيرة وهائلة من الأفراد والمجتمعات. كما قامت حكومة المملكة المتحدة بتعريف وزيرٍ للوحدة لإطلاق إستراتيجية حكومية جادّة لعلاج المشكلة التي يعاني منها الكثيرون. أمّا أكثر الخطوات غرابةً كانت بعد إعلان مجموعة من الباحثين الأمريكيّين عن حبوبٍ علاجية يمكن أن تهدئ نشاط الدماغ الذي يجعلنا نشعر بألم الوحدة. وفي الوقت نفسه، يجادل الباحثون القائمون على المشروع بأنّ العلاج لا يحلّ المشكلة من أساسها، لكنّه يساعد على أقلّ تقدير في الحدّ من آثارها وأعراضها وتطوّراتها.
ما هي الوحدة؟
تعرّف الوِحدة بأنها حالة عاطفية يشعر فيها الفرد بالفراغ والعزلة، وهي أكثر من مجرد الشعور بالرغبة بالتواصل مع شخص آخر، وإنما تنطوي على شعور قوي بالانفصال والاغتراب عن غيره، بحيث يصبح من الصعب أو حتى من المستحيل، في بعض الأحيان، أن يكوّن أي شكل من أشكال الاتصال البشري ذات المغزى.
هناك نوعان من الوحدة: الذاتية والتي عادةً ما تكون على شكل عاطفة أو شعورٍ بالوحدة حتى لو لم تكن وحيدًا، والوحدة الموضوعية والتي غالبًا ما تكون في صورة عزلة اجتماعية واضحة وصريحة.
لكن يجب أن نتفق في البداية أنّ الشعور بالوحدة لا يتعلق أساسًا بعدم القدرة على الارتباط بالآخرين والتواصل معهم، فلا يزال هذا المفهوم لزجًا يحتمل الكثير من التعريفات ويختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر؛ فبعض الأفراد يشعرون بها بمجرّد بقائهم ليلة واحدة لوحدهم، في حين أن هناك من يستطيع أن يبقى شهرًا كاملًا بالحد الأدنى من التواصل والاتصال مع غيره دون أن يرى نفسه وحيدًا.
وبكلمات أخرى، يفضّل البعض البقاء وحيدًا منفصلًا عمّن حوله، فيما يشعر آخرون بالوحدة أو يرون أنفسهم وحيدين على الرغم من كثافة تواصلهم الاجتماعي. وبشكلٍ عام، يجب أنْ نفرّق بين نوعين مختلفين من الوحدة؛ الوحدة الذاتيّة أو الشخصية “subjective”، والتي عادةً ما تكون على شكل عاطفة أو شعورٍ بالوحدة حتى لو لم تكن وحيدًا، أيْ أنك قد تشعر بها حتى في حال وجودك بين أفراد عائلتك أو بين جمعٍ من أصدقائك ومعارفك. ومن جهةٍ ثانية، هناك الوحدة الموضوعية “objective” والتي تُشير إلى حالةٍ فيزيائية للوحدة وغالبًا ما تكون في صورة عزلة اجتماعية واضحة وصريحة.
ليست حالةً طبّية أو مرضًا نفسيًّا
خلافًا للاكتئاب والقلق، فإنّه لا يوجد شكل سريريّ معترف به للوحدة؛ ما يترتّب عليه أنه لا يوجد لها أيضًا أيّ تشخيص أو علاج متاح. إذ أنه من السهولة تحديد العديد من العلامات والأعراض الواضحة لكلٍّ من الاكتئاب والقلق أو أيٍّ من الاضطرابات والمشاكل النفسية الأخرى، ولكن لا توجد أيّ طريقة محدّدة لتعريف أو تحديد الأفراد الذين يعانون من الوحدة؛ هل من شكلها أو شدّتها أو مدّتها أو تكرارها أم غير ذلك من العلامات.
ولهذا، يناقش مقالٌ في موقع “ذا كونفرسيشن” بأنّ علينا الحذر كلّيًا من تبسيط الطبيعة المعقّدة للوحدة على اعتبارها مرضًا يمكن التعامل معه وتخفيف أعراضه من خلال نوعٍ أو أكثر من الأدوية والحبوب. عوضًا عن أنّ التركيز على معالجة الأعراض الفسيولوجية والبيولوجية للوحدة سيؤدّي إلى تجاهل الآثار السلبية الأخرى المتعلّقة بها مثل الآثار الاجتماعية.
علينا الحذر كلّيًا من تبسيط الطبيعة المعقّدة للوحدة على اعتبارها مرضًا يمكن التعامل معه وتخفيف أعراضه من خلال نوعٍ أو أكثر من الأدوية والحبوب
إضافةً إلى أنّ هذا التوجّه يعتبر الوحدة تجربة سلبية بحتة، حتى أنّ الكثير من الأشخاص أصبحوا من النادر ما يسألون فيما إذا كان هناك جانب إيجابيّ لها أم لا. وهذا ما تدعمه واحدة من التجارب التي شملت ما يقارب 55 ألف شخص وتوصّلت إلى أنّ الوحدة يمكن أن تدفع الناس إلى تحسين علاقاتهم والبحث عن علاقات جديدة.
تفرز أجسام الأشخاص الذين يشعرون بالوحدة مستوياتٍ أعلى من الكورتيزول، هرمون الإجهاد، لا سيّما في الصباح الباكر
لكنّ هذا لا ينفي أبدًا ولا يعارض أنّ الوحدة بالفعل قد تكون مشكلة صحّية عامّة وتصبح خطيرة لتؤثّر سلبًا على كلٍّ من الصحة الجسدية والعقلية والنفسية للأفراد. فعلى سبيل المثال، توصّلت إحدى الدراسات إلى أنّ الأشخاص الوحيدين عادةً ما تفرز أجسامهم مستوياتٍ أعلى من الكورتيزول، هرمون الإجهاد، لا سيّما في الصباح الباكر، ولهذا غالبًا ما تراهم يقضون وقتًا أطول في السرير قبل النهوض، أو قد يعانون من الأرق والاستيقاظ المتكرّر خلال ساعات الليل، أو من انخفاض جودة نومهم بشكلٍ عام.
وفيما يتعلّق بهرمون الكورتيزول أيضًا، فإنّ زيادة إفرازه قد تؤدي إلى الالتهاب وصعوبة الشفاء من الأمراض، إذ يدخل جهاز المناعة في “صدمة” عندما يغمر الكورتيزول الجسم، مما يجعله أكثر عرضة للأذى والالتهاب. ولهذا السبب كثيرًا ما ينصح خبراء الصحة النفسية والعقلية بأنّ التحدث عن المشاكل والصراعات مع صديقٍ أو زميلٍ، يخفّف من فائض الكورتيزول المفرَز، ما يؤدي إلى مزيدٍ من الراحة النفسية والجسدية.
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهمًّا في تفشّي الشعور بالوحدة بين الأفراد
وعلى صعيدٍ آخر، علينا النظر إلى شكل الحياة الحديثة التي جعلت من الوحدة وباء العصر أو مرض الحداثة كما يُطلق عليها الذي جاء كنتيجة لتفشّي النزعة الفردية التي جعلت من الأشخاص مخلوقات منعزلة لا تهتمّ إلا بنفسها بعيدًا عن أشكال الانتماء التي اعتادت عليها الأجيال في السابق مثل العائلة والمسجد أو الكنيسة أو أية مؤسسة دينية أخرى أو الأصدقاء أو أيّ تجمّعٍ بشريّ من هذا القبيل.
إلى جانب ذلك، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهمًّا في الموضوع، وقد أكّدت الكثير من الدراسات ذلك. ويرجع ذلك للعديد من الأسباب قد يكون إحداها هي أنّ الاستخدام الزائد لتلك المنصات والمواقع يؤدّي إلى انعزالك وانفصالك الفعليّ عن الواقع الحقيقيّ من حولك لأجل عالمٍ افتراضيّ مبنيّ على المثالية والمقارنة والخوف من فوات الشيء.
ما يعني أنّ الدواء والعلاج الكيميائيّ للوحدة لن يكون بأيّ شكلٍ من الأشكال حلًّا معقولًا وجذريًّا. فالوحدة بالنهاية مشكلة اجتماعية لا يمكن حلّها بمعزل عن المجتمع والآخرين من حولك. وتحويل الوحدة أو العزلة بوصفهما تجربة إنسانيّة أصيلة إلى مرض يحتاج علاجًا طبّيًا لهو مشكلة أخرى قد تكون أكثر خطرًا من مشكلة الوحدة نفسها.