بعد شهر ونصف تقريبًا من زيارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، السرية، لقوات بلاده المتواجدة في العراق في السادس والعشرين من ديسمبر الماضي، تلك الزيارة التي أثارت الكثير من الجدل حينها، هاهو وزير دفاعه بالوكالة يفاجئ الجميع بزيارة ثانية.
وصل باتريك شاناهان، القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي، إلى بغداد، أمس الثلاثاء، في زيارة غير معلنة قالت وزارة الخارجية الأمريكية إنها تهدف إلى التأكيد على أهمية سيادة العراق وبحث مستقبل القوات الأمريكية هناك، فيما ذهب آخرون إلى أنها تحمل الكثير من رسائل التحذير للداخل والخارج.
الزيارة تأتي بعد تصريحات ترامب الشهر الجاري حول حقيقة الوجود الأمريكي في العراق والذي حدده بمراقبة طهران، فضلا عن إعلانه سحب قوات بلاده من سوريا وأفغانستان، الأمر الذي دفع إلى التساؤل حول الدوافع الحقيقية وراء تلك الزيارة المفاجئة في هذا التوقيت على وجه التحديد والذي يتزامن مع إحياء طهران للذكرى الأربعين للثورة الإسلامية بها.
مستقبل القوات الأمريكية
رغم الغموض الذي يخيم على إعلان ترامب سحب قوات بلاده من سوريا والحديث عن تفاهمات مع حركة طالبان تقضي بسحب القوات الأجنبية من أفغانستان في محاولة لإنهاء حرب الـ 17 عامًا، إلا أن مجرد التفكير في مثل هذه الخطوة أثار حالة من القلق لدى حلفاء أمريكا من جانب، والمعارضين لهذا التوجه بالكونغرس ومن داخل الحزب الجمهوري من جانب آخر.
ترامب وخلال زيارته السرية للعراق أكد أنه : “لا خطط لسحب القوات الأمريكية من العراق”، حسبما ذكرت وكالة أسوشيتد برس، وأضاف للصحفيين “في الواقع، بإمكاننا استخدام (العراق) كقاعدة إذا أردنا القيام بشيء في سوريا”، تلميحه لاحتمالية استخدام قوات بلاده المتمركزة هناك في بعض العمليات في الداخل السوري حسبما تقتضي الحاجة هو في الحقيقة رسالة طمأنة واضحة لحلفاء أمريكا في المنطقة، على رأسهم “إسرائيل” والسعودية، خاصة أنهما على وجه التحديد كانا أكثر القلقين من قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا.
العراق ليس قاعدة أمريكية ولا توجد اتفاقية لإنشاء قواعد أمريكية.. البرلماني العراقي عمار كاظم
المعارضة القوية لقرارات ترامب الأخيرة بزعم أنها تهدد مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، وتفقدها جزءًا من نفوذها لحساب قوى أخرى في إشارة لروسيا، دفعت الإدارة الأمريكية إلى التأكيد على بقاء قواتها داخل العراق، مع إمكانية زيادة أعدادها، في محاولة للحفاظ على مرتكزات واشنطن في المنطقة.
ومن ثم تأتي الزيارة غير المعلنة لوزير الدفاع الأمريكي بالوكالة للعراق والذي يعتزم خلالها بحث انسحاب القوات الأمريكية من سوريا مع قادة أمريكيين ولقاء مسؤولين عراقيين بينهم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، تأكيدًا على هذه النقطة التي دفعت الكونغرس الأمريكي إلى تبني مشروع بتعديل قرار ترامب الأخير.
ترامب مع قوات بلاده في العراق في ديسمبر الماضي
طمأنة العراقيين
أثار تصريح ترامب رغبته في مراقبة إيران عن طريق العراق استياء العراقيين بصورة دفعت البعض إلى إطلاق حملة دعاية مضادة كبرى ضد واشنطن مطالبين بانسحاب عاجل للقوات الأمريكية في العراق، وهو ما كان يتطلب رسالة طمأنة ومغازلة في نفس الوقت عن طريق وزير دفاعه.
شاناهان الذي وصل من أفغانستان في إطار أولى رحلاته الخارجية قبل ان يعود ويغادر الى بروكسل، توجه في زيارة خاطفة إلى بغداد في محاولة لطمأنة الحكومة العراقية حيال نوايا البنتاغون، حيث رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إضافة إلى ضباط عراقيين كبار.
وزير الدفاع بالوكالة قال للصحافيين لدى وصوله إلى بروكسل حيث سيشارك في اجتماع وزاري لحلف شمال الأطلسي ان اللقاء مع عبد المهدي جرى “وسط اجواء جيدة جدًا” وأضاف “لقد أوضحت أننا نحترم سيادتهم والأهمية التي يولونها لاستقلالهم وأننا موجودون هناك بدعوة من الحكومة”.
وردا على سؤال حول إمكانية إعادة نشر الجنود الأميركيين الذين سيغادرون سوريا في العراق، أجاب شاناهان “لم يتم بحث هذه المسألة”، فيما نقل عن عبد المهدي قوله “يجب أن نحافظ على علاقات جيدة مع جميع جيراننا كما يجب علينا أيضا الحفاظ على علاقات قوية مع الولايات المتحدة”.
وفي السياق ذاته، كشف مسؤول كبير في البنتاغون طلب عدم ذكر اسمه أن “النشاط العسكري الرئيسي” للولايات المتحدة في العراق كان “المهمة ضد داعش”، قائلا إن العراق “يجب أن يعرف أننا ملتزمون حياله وأن استمرار وجودنا إلى جانب قوات الأمن أمر حيوي بالنسبة لها لكي تواصل الحفاظ على الأمن”.
من جانبه أكد اللواء ماجد جاسم المحلل الاستراتيجي العراقي، أن الزيارة تحمل عددًا من رسائل الطمأنة الإيجابية للشعب العراقي، على رأسها التأكيد على سيادة الدولة العراقية ومستقبل القوات الأمريكية هنالك، كاشفًا أن هناك مخاوف أمنية كبيرة لدى العراقيين جرًاء الحديث عن أي تقليص أو انسحاب للجنود الأمريكيين المتواجدين فوق أراضيهم.
التفاؤل الذي استشعره الإيرانيون عقب الإعلان عن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا أجهضه ترامب بزيارته الأولى في ديسمبر الماضي، ثم جاء وزير دفاعه بالوكالة ليقضي على ما تبقى منه
جاسم خلال مداخلة له مع إذاعة “مونت كارلو” أشار إلى أن هناك رغبة عراقية لبقاء القوات الأمريكية لفترة من الوقت من أجل إتمام بناء المنظومة الأمنية لاسيما العسكرية، بحيث تكون قادرة على التصدي لأي تهديدات مستقبلية للتنظيمات الإرهابية على رأسها تنظيم الدولة “داعش”.
أما النائب عن ائتلاف “دولة القانون” عمار كاظم فاستنكر تصريحات ترامب بشأن مراقبة طهران عن طريق العراق، كاشف في تصريحات لـ”سبوتنيك” إن “العراق ليس قاعدة أمريكية ولا توجد اتفاقية لإنشاء قواعد أمريكية، وما حصل في عام 2011 من تنفيذ الاتفاقية الاستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة ، نص على جلاء كل القوات الأمريكية مضيفا أنه إذا كان ثمة حاجة إلى قوات أمريكية إلى العراق عندما يكون هنالك خطر داهم ، فيجب أن يتم بموافقة البرلمان، وأن استقدام القوات الأمريكية في 2014 إبان هجمة “داعش” لم يكن بموافقة البرلمان.
وأضاف: نحن الأن في طور عقد اتفاقية بأنه لا حاجة للقوات الأمريكية بل سنرفض أي وجود أمريكي أو أجنبي لمراقبة إيران أو تركيا أو غيرها فالعراق ليس منصبة للمراقبة والدستور يخالف ذلك”
يذكر أن هناك هناك اكثر من 100 نائب في البرلمان العراقي وقعوا على وثيقة لإصدار مشروع قرار لإخراج القوات الأجنبية في العراق على رأسها الامريكية البالغ عددها 5260 بحسب البنتاغون، علمًا بأن البرلمان في يونيو 2018 أصدر قرار بإخراج القوات الأمريكية من العراق لكن الحكومة رفضته حينها لاعتبارات أمنية وسياسية.
واشنطن تؤكد على بقاء قواتها في العراق
تحذير لطهران وموسكو
تأتي زيارة شاناهان بعد يوم واحد فقط من احتفالات الإيرانيين بالذكرى الأربعين لثورتهم الإسلامية، حيث خرج مئات آلاف في مسيرات وأحرق بعضهم أعلاما أمريكية، بينما تباهى قادة البلاد بصواريخ باليستية في تحد للجهود الأمريكية لكبح قوتهم العسكرية في المنطقة.
الزيارة غير المعلنة تحمل رسالة تحذير واضحة لطهران كونها تأتي في الوقت ذاته في إطار صراع النفوذ الأمريكي الإيراني فوق الأراضي العراقية، وهو ما يفسر التعارض الواضح بين التيار المؤيد لسحب القوات الأمريكية بدعوى الحفاظ على سيادة الدولة وعدم الحاجة لوجود تلك القوات والآخر الداعم لبقائها بزعم عدم اكتمال بنية المنظومة الأمنية للعراق.
التفاؤل الذي استشعره الإيرانيون عقب الإعلان عن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا أجهضه ترامب بزيارته الأولى في ديسمبر الماضي، ثم جاء وزير دفاعه بالوكالة ليقضي على ما تبقى منه، ويمكن النظر للزيارتين على أنهما يأتيان إطار تصاعد التوتر بين الجانبين منذ بداية ولاية ترامب الذي يسعى إلى تقويض الدور الإيراني إقليميًا، عبر سلسلة من العقوبات الاقتصادية وتضييق الخناق عليها سياسيًا بعد انسحابه من الاتفاق النووي الموقع في 2015.
لم تنحصر رسائل التحذير في طهران وحدها، إذ أن التأكيد على بقاء القوات الأمريكية في العراق، والحديث عن تقويتها وتعزيزها خلال المرحلة المقبلة، حتى بعد دحر “داعش” من آخر معاقلها “الموصل”، في حقيقتها إشارة ضمنية في مواجهة تمدد النفوذ الروسي في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، الذي نجح في سحب البساط من تحت أقدام الأمريكان في عدد من المناطق الملتهبة على رأسها سوريا بصفة مباشرة واليمن بصورة غير مباشرة.