تباينت الآراء بحدة حول مقترح تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” بإنشاء مناطق آمنة في السودان، فبينما ترى التنسيقية، التي تعتبر أحد أبرز الكيانات المدنية، أن المقترح يمثل حلًا لحماية المدنيين من الانتهاكات المستمرة جراء الصراع المستمر منذ 15 أبريل/نيسان 2023، يعتقد مؤيدو الجيش أن هذه الدعوة تعكس انحيازًا لمليشيا الدعم السريع.
لكن السؤال الأهم حاليًا: هل يمكن تفكيك هذا المقترح وتحليله بعيدًا عن الاستقطاب القائم للوصول إلى تقييم موضوعي يستند إلى مصلحة المدنيين بشكل أساسي؟
خلال 19 شهرًا من الصراع الدامي، قُتل أكثر من 40 ألف سوداني وفقًا لتقديرات منظمة أطباء بلا حدود، فيما أُجبر نحو 10.7 مليون شخص على النزوح قسرًا هربًا من القتال حسب أرقام الأمم المتحدة. وفي الوقت ذاته، يهدد شبح الجوع أكثر من 25 مليون شخص من إجمالي سكان البلاد البالغ عددهم 45 مليون نسمة.
المقترح بعد جولة أوروبية
يأتي مقترح “تقدم” في وقت تتصاعد فيه انتهاكات مليشيا الدعم السريع بشكل مخيف، خاصة في ولاية الجزيرة وسط السودان. فقد تم تهجير سكان أكثر من 120 قرية قسرًا خلال أسبوعين فقط، وقُتل المئات على أيدي عناصر المليشيا. وفي مدينة الهلالية، توفي أكثر من 170 شخصًا نتيجة الحصار الذي فرضته المليشيا على السكان المحاصرين في المساجد، وسط تقارير عن وفيات متعددة بسبب حالات تسمم غامضة لم تتضح أسبابها بعد.
ويرى مراقبون أنَّ هذه الإحصائيات تمثل مجرد رأس جبل الجليد، وأن العدد الحقيقي للضحايا قد يكون أكبر بكثير نتيجة انقطاع خدمات الاتصالات عن ولاية الجزيرة منذ بدايات العام الجاري، إضافة إلى منع المليشيا السكان المتبقين من مغادرة مناطق سيطرتها، بهدف استخدامهم كدروع بشرية أو للضغط من أجل تدخل قوات دولية في السودان.
أزاحت التنسيقية النقاب عن المقترح بعد جولة أوروبية قام بها رئيسها، عبد الله حمدوك، حيث حضر اجتماعات عدة، من بينها اجتماع مجلس “مؤسسة مو إبراهيم” المعنية بالحكم الرشيد في إفريقيا وترويج نماذج قيادية ناجحة، واجتماع مجلس “مؤسسة إفريقيا وأوروبا”، وهو منتدى مستقل تأسس عام 2020 لتعزيز التعاون بين القارتين. وحضر الاجتماعين عدد من الرؤساء الأفارقة والأوروبيين السابقين، إضافة إلى قيادات من الاتحاد الأوروبي ومنظمات إقليمية ودولية.
وذكر بيان صادر عن “تقدم” أن حمدوك أطلع القادة الأوروبيين والأفارقة على خطورة الأوضاع المتدهورة في السودان، محذرًا من إمكانية انزلاق البلاد نحو إبادة جماعية، على غرار ما حدث في رواندا خلال تسعينيات القرن الماضي. وعزا مخاوفه إلى عوامل عديدة من بينها: تعدد الجيوش وأمراء الحرب، وتحشيد وتجنيد المدنيين، وتنامي خطاب الكراهية والاصطفاف العرقي والجهوي.
وطالب حمدوك المجتمع الدولي باتخاذ تدابير عاجلة لحماية المدنيين، تشمل فرض حظر للطيران الحربي والطائرات المسيّرة فوق جميع أنحاء السودان، كما جدد دعوته لإنشاء مناطق آمنة، ونشر قوات حماية دولية، إلى جانب بدء عملية إنسانية موسعة عبر دول الجوار وخطوط المواجهة. مشددًا على ضرورة اتخاذ تدابير عقابية ضد من يعيقون أعمال الإغاثة الإنسانية.
اختلاف الآراء
ظلت التنسيقية تؤكد على حيادها التام إزاء الصراع، ووقوفها على مسافة واحدة من جميع الأطراف، مع دعوتها إلى إنهاء النزاع فورًا من خلال عملية تفاوض مرعية دوليًا تنتهي بنقل السلطة إلى حكومة مدنية وتشكيل جيش قومي مهني.
وفيما يتعلق بإمكانية تطبيق المقترح، صرَّح القيادي بالتنسيقية، أحمد رضوان، بوجود حاجة مُلحة لإنشاء مناطق آمنة لحماية المدنيين من الهجمات الواسعة التي تنفذها الأطراف المتصارعة، سواء عبر العمليات العسكرية المباشرة أو القصف الجوي.
وقال في حديثه لـ”نون بوست” إن هذه الحاجة تأتي أيضًا لمواجهة الآثار الأخرى، وعلى رأسها النزوح الجماعي للسكان، والأزمة الإنسانية الحادة، وتدمير البنية التحتية الحيوية مثل المستشفيات والمدارس، مما يجعل إنشاء مناطق آمنة ضرورة للتخفيف من معاناة المدنيين وضمان سلامتهم.
ونادى رضوان بضرورة أن تكون هذه المناطق محظورة على الطيران وتحت رعاية دولية لضمان حماية المدنيين وتوفير الاستقرار لهم، بعيدًا عن تهديدات الهجمات العسكرية والملاحقات الأمنية، وأضاف أن هذه المناطق ستساهم في توفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية مثل الغذاء والرعاية الصحية، ما يساعد في تخفيف معاناة المدنيين الذين لا يجدون مأوى آمنًا.
كما أشار رضوان إلى أن هذه المناطق تُسهم في تخفيف الضغط عن الدول المجاورة وتعزيز الاستقرار الإقليمي في ظل الأوضاع الراهنة.
من جانبه انتقد المحلل السياسي محمد زكريا مقترح “تقدم” الداعي إلى إقامة مناطق آمنة وحظر للطيران لحماية المدنيين في السودان، مؤكدًا أن هذا المشروع لا يعكس الواقع الفعلي للأوضاع في البلاد.
وقال زكريا لـ”نون بوست” إن أكبر دليل على عدم جدوى المقترح هو أن معظم الولايات التي يسيطر عليها الجيش آمنة بالفعل، بل وتعد ملاذًا للفارين من انتهاكات ميليشيات الدعم السريع.
وأضاف أن التهديدات الحقيقية التي يتعرض لها المدنيون في السودان لا تأتي من القصف الجوي، بل من الميليشيات التي تقتل المدنيين في مناطقهم دون أي مبرر، مؤكدًا أن الحديث عن تأثير الطيران في قتل المدنيين هو حديث مضلل، وأن المجازر الحقيقية ترتكب على يد هذه الميليشيات.
وفيما يتعلق بالدعوة إلى تدخل قوات دولية لحماية المدنيين، شدد زكريا على أن التدخلات الدولية في مناطق النزاع غالبًا ما تفشل في تحقيق الاستقرار، بل تؤدي إلى تعقيد الوضع، وأوضح أن القوات الأجنبية قد تصبح عبئًا على الجيوش الوطنية، دون أن تساهم في حل المشكلة بشكل فعّال.
وعن روشتة الحل، قال زكريا إنه يكمن في توجيه الضغوط على الميليشيات والجهات الداعمة لها، بدلًا من الدعوة إلى تدخل خارجي، فالسودان بحاجة إلى حلول داخلية بعيدة عن التدويل الذي قد يفاقم الأزمة السياسية.
ودعا إلى ضرورة تكثيف الجهود الوطنية وتوفير المساعدات الإنسانية وتنظيمها بطريقة مهنية، مشددًا على أن الجهود المحلية هي الطريق الأمثل للخروج من الأزمة الراهنة.
أما القيادي في تحالف الكتلة الديمقراطية، مهند سليمان، اعتبر أن مقترح “تقدم” يمثل “خيانة كبرى للوطن”، وقال سليمان لـ”نون بوست” إن المقترح يعد دعوة صريحة لدخول قوات أجنبية، ما يسهم في تدمير السودان على غرار ما حدث في دول مثل العراق.
وأضاف أن المقترح يساوي بين الجاني والضحية، حيث يضع الجيش الوطني والميليشيا المتمردة في نفس المستوى، كما يساوي بين من يحمي المدنيين ومن يفتك بهم.
ودعا سليمان، الجهات المهتمة بالمصلحة الوطنية إلى مساندة الجيش في “معركة الكرامة” لتحرير السودان من المرتزقة “في إشارة إلى الدعم السريع”، ومحاكمة قادة “تقدم” بتهمة الخيانة العظمى، متهمًا إياهم بتوفير الغطاء السياسي لحملات الإبادة التي تقوم بها الميليشيا ضد المدنيين العزل.
يواجه مقترح تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” بإنشاء مناطق آمنة في السودان لوقف الانتهاكات وحماية المدنيين تحديات كبيرة في تطبيقه على الأرض، في ظل الواقع العسكري المعقد، ويرى البعض أنَّ المقترح قد يزيد من تدهور الوضع بدلًا من تحسينه.
كما أن الدعوة إلى حظر الطيران وقوات حماية دولية تجد انتقادات واسعة، باعتبارها مدخلًا للتدخل الخارجي الذي من شأنه مفاقمة الأزمة واستنزاف الموارد دون تحقيق استقرار حقيقي.
في المقابل، يُصر البعض على أن الحلول يجب أن تكون داخلية، مع التركيز على الضغط على الميليشيات بدلًا من البحث عن حلول مؤقتة قد تساهم في تدمير سيادة البلاد.