تحوّلات السياسة الأمريكية وتبعاتها على الشرق الأوسط (2)

يمكنكم الاطلاع على الجزء الأول من هذا المقال هنا: تحوّلات السياسة الأمريكية وتبعاتها على الشرق الأوسط (1)
رُغم موقف الولايات المتحدة والسعودية المعروفين بعدائهما لإيران، لم تظهر للسطح أسباب تبني كل منهما لموقفه، وبدا للبعض أن كليهما مُعادٍ لها من نفس المنطلق، إلا أن هذا التباين أصبح واضحًا مؤخرًا مع تضاؤل أهمية نفط الخليج، وتحوّل الموقف الأمريكي، منفردًا، تجاه المشروع الإيراني.
الرؤية السعوديّة لإيران
يمثل المشروع الإيراني تهديدًا وجوديًا للسعودية لأسباب شتى، أبرزها أن الصراع يكاد يكون صفريًا جيوسياسيًا إذا وضعنا رؤيتي الطرفين تجاه الخليج الفارسي/العربي في الاعتبار. فكلٌ منهما يسعى نحو بسط نفوذ في الخليج يصطدم بذلك التي يسعى له الآخر. فإيران ترى الخليج “ساحة خلفية” لا لمقاسمة لأحد فيها، ونقطة انطلاق لوجودها البحري في البحر العربي والمحيط الهندي، في حين ترى السعودية هيمنة حليفها الأمريكي في الخليج ضرورة لنقل النفط دون ابتزاز من إيران.
المسألة الثانية هي المسألة الدينية، فتمثيل الإسلام عالميًا أهم دعائم شرعية المملكة في الداخل، وهي شرعية ظهر منافسون لها منذ سبعينيات القرن الماضي، سواءٌ من الحركة الإسلامية في مصر والعالم العربي، أو النظام الإيراني الذي تأسس عام 1979. أضف إلى ذلك البُعد الطائفي الذي يتسّم به المشروع الإيراني، والذي يدعم صراحة مجموعات شيعية مختلفة تناوئ معظمها، إن لم يكن كلها، السعودية وأصدقاءها في المنطقة، من حزب الله ونظام الأسد في الشام، إلى الميليشيات الشيعية والمالكي في العراق، إلى الحركات الشيعية في البحرين وشرق السعودية.
المسألة الثالثة هي رغبة السعودية في استمرار عُزلة إيران، لا سيما وذلك يتيح لها أن تظل النافذة الوحيدة للنفط في المنطقة. فبهيمنة المالكي في العراق، وانفتاح إيران على العالم، يبدو في الأفق أن هناك تحالفا قادر على منافسة نفط الخليج، والسعودية ستكون أول متضرر في منظمة أوبِك إذا رفعت إيران والعراق من إنتاجهما للنفط، إذ سيتوجب عليها خفض إنتاجها باعتبارها أكبر المنتجين، للحفاظ على مستوى الإنتاج العالمي.
الرؤية الأمريكية لإيران
الولايات المتحدة كانت تشارك السعودية رؤيتها الجيوسياسية نظرًا لاهتمامها بالنفط تحديدًا، ولرؤيتها الأوسع للخليج كنقطة ارتكاز عسكرية تغطي منها نفوذها في العراق وأفغانستان، ووجودها البحري في غرب المحيط الهندي. أما المسألة الدينية فلا تعني للأمريكيين الكثير. فحديث السعودية باسم الإسلام لا يهمهم بقدر محاربة قوى الإسلام “المتطرف”، والتي بدا مع مطلع الألفية أن بعضها مرتبط بالإسلام السعودي. كما لا يعني لهم أيضًا البُعد المذهبي في الصراع، فهم يدعمون نظام المالكي صراحة في العراق، وكذلك الشيعة في أفغانستان لإحداث توازن مع طالبان.
كان هذا التباين هو السبب الرئيسي في رغبة السعودية في مواجهة إيران عن طريق الولايات المتحدة، في حين كانت الولايات المتحدة ترى دومًا أن الاحتواء خيارٌ أنسب، وأن المواجهة خيارٌ أخير، خصوصًا والوضع الأمريكي في أفغانستان والعراق لا يسمح بمزيد من التعقيد في المنطقة، والرأي العام الأمريكي كذلك.
رُغم هذا التباين، كان العامل الجيوسياسي كافيًا لتظل الرؤيتان متناغمتين سياسيًا، حتى طرأ مؤخرًا التحوّل الرئيس في رؤية الولايات المتحدة: الارتكاز الآسيوي، وهو نتيجة لأسباب عدة أبرزها ثورة الغاز الصخري، والتي يتنبأ عرّابوها بأنها ستجعل من الولايات المتحدة مصدرًا للنفط، وتزامُن ذلك مع الانسحاب من العراق وأفغانستان، مقابل توطيد الوجود العسكري في المحيط الهادي لمواجهة تصاعد النفوذ الصيني. هذا التحوّل غيّر من طبيعة الاحتواء الذي كانت تمارسه الولايات المتحدة مع إيران، إذ حل محله احتواءٌ من نوعٍ آخر، أقل شراسة من ذي قبل.
حسابات جديدة مع إيران
تضاؤل أهمية النفط الخليجي، وأهمية الخليج ككُل في الاستراتيجية الأمريكية، كان أحد دوافع الرغبة في الوصول إلى تسوية مع إيران قدر الإمكان، خصوصًا وإيران قد أصبحت أكثر ضعفًا نتيجة للعقوبات الشديدة التي طالتها في 2012، مما جعل موقفها أكثر مرونة في المفاوضات، والتي أفرزت اتفاق جنيف العام الماضي. واتفاق جنيف لا يشي فقط بمرونة الموقف الإيراني، والتي بدت واضحة في بنود الاتفاق الخاصة بالمشروع النووي، بل يعني أيضًا الاعتراف بالمشروع النووي الإيراني ابتداءًا، وهو اعتراف لم تكن تريده على الإطلاق دول مثل إسرائيل والسعودية، ولم تكن لتقبله بسهولة الولايات المتحدة في السابق. احتواء إيران “النووية” بهذا الشكل يشي بتضاؤل أهمية الهيمنة الأمريكية المطلقة على الخليج، بل ويشي أيضًا بانقضاء زمن العداوة المطلقة لأسباب عدة.
أولًا، الانسحاب من أفغانستان سيتطلب وجود ظهير يوازن طالبان، وهو ظهير لن تسنده سوى طهران، ثانيًا، الوضع في العراق وسوريا، والذي ضعُف موقف المالكي ونظامه فيه إثر انفتاح الجبهة السورية على العراق، هو موقف أيضًا ستكون طهران سنده الوحيد، خصوصًا مع تباين المواقف بين تركيا والولايات المتحدة فيما يخص سوريا. فطهران تشارك الأمريكيين القلق من الميليشيات السنية السورية، والتي تهدد استقرار لبنان النسبي والمهم لإسرائيل من المنظور الأمريكي، وتهدد حزب الله حليف طهران، في حين تدعم تركيا الثورة السورية بقوة. ثالثًا، التغيُّرات الطارئة على تركيا، والتي تبدو أكثر استقلالًا عن الولايات المتحدة من قبل، تشير إلى علاقات أكثر تعقيدًا. فتُركيا، وإن ظلت حليفًا رئيسيًا كعضو بحلف الناتو، لن تكون مواقفها في بعض الملفات عونًا للأمريكيين، مما يجعل من إيران بديلًا واقعيًا، لا سيما في الأزمة السورية، والتي تتباين فيها الرؤى أيضًا مع السعودية التي تريد سقوطًا كاملًا للأسد.
تلك المساحات الجديدة التي تتقاطع فيها بشكل أكبر مصالح الأمريكيين مع إيران، وتتضاءل فيها أهمية مجلس التعاون، ولو جزئيًا، لا تدفع فقط بالتغيُّرات الحاصلة في الموقف الأمريكي من إيران وفتور العلاقة مع السعودية، بل وتسلط الضوء على خلافات داخل مجلس التعاون لم تظهر للسطح في ظل التناغم السابق بين الولايات المتحدة والسعودية. فقطر وعُمان ظهرت جليًا خلافاتها مع السعودية، على عكس دول أخرى أقرب إلى لُب المشروع الخليجي كالبحرين والإمارات.
تصدُّع في مجلس التعاون
قطر صاحبة علاقة متميزة مع الولايات المتحدة، إلا أن تحالفهما ليس مجرد جزء من تحالف الخليج، وهو ما يعني أن الفتور الحاصل مؤخرًا لا يطال علاقتها بالأمريكيين، خصوصًا وهم في حاجة إليها على أي حال نظرًا لاستضافتها لمركز العمليات الجوية، وهو ما يجعل العلاقة الأمريكية-القطرية منفصلة نسبيًا عن العلاقة مع بقية الخليج. أضف إلى ذلك العلاقة الجيدة مع إيران، والدور المستقل الذي طمحت له دومًا بمعزل عن بقية الخليج الذي تبع سياسة مجلس التعاون وفقط. باتساع المسافة بين السعودية والولايات المتحدة، خصوصًا فيما يخص الملف الإيراني، تظهر الخلافات معبّرًا عن كل ذلك، وعن أزمة الاختيار بين السياسات الفطرية المنفردة وصف المجلس، خصوصًا والأمريكيين أكثر انشغالًا، والسعودية تضغط للمّ الصفوف بمواجهة إيران وضغوط الربيع العربي عليها.
عُمان، التي تستضيف عدة قواعد أمريكية هامة، والتي تعد نفسهًا جزءًا من الخليج لا إيمانًا به لذاته ولكن لتناغم مصالحهما، بدأت تُظهر خلافها علنًا هي الأخرى. فمع طرح فكرة الاتحاد الكامل بدلًا من مجلس التعاون، صرّح وزير الخارجية العُماني عن رفضه علنًا بشكل غير مسبوق. لا يخفى على أحد موقف العمانيين عامة من السعودية وإيران، فهُم إباضيون ويرون مسافة كبيرة تفصلهم عن السعودية، وعلاقة وطيدة تاريخية تجمعهم بإيران، تصل للتعاون العسكري.
معرفة ما ستؤول إليه خلافات المجلس، ومستقبل النفط الخليجي، وما ستفعله إسرائيل حيال عودة إيران من عزلتها، والدور الذي ستلعبه إيران مستقبلًا، ستكشف عنه الأيام، وسيكشف عنه مدى رغبة الأمريكيين في البقاء بالمنطقة، ومدى انشغالهم بآسيا.