يستعدّ حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم بالجزائر، إلى الإعلان عن كتاب يتضمن حصيلة فترة حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، منذ 1999، مع اقتراب نهاية ولايته الحالية. حصيلة حكم سيسعى من خلالها حاشية الرئيس إلى النفخ في صورة بوتفليقة “المقعد” للظفر بولاية رئاسية خامسة تضمن لهم مزيد “التمعّش” من خيرات البلاد، لكن لسائل أن يسأل ما الذي حقّق بوتفليقة للجزائر طوال فترة حكمه التي بلغت 20 سنة؟
الولاية الخامسة على الأبواب
في الـ 15 من شهر أبريل/نيسان 1999، فاز المرشّح المستقل عبد العزيز بوتفليقة برئاسة الجزائر، بحصوله على نسبة 70% من الأصوات خلال الانتخابات الرئاسية التي أقيمت حينها، حسب الأرقام الرسمية، والمثير للدهشة أن منافسيه الستة على منصب الرئاسة انسحبوا يوم من موعد إجراء الاقتراع.
في سنة 2004 ترشح بوتفليقة للرئاسة مرة ثانية، لكنه هذه المرة مدعوما بتحالف سياسي وفاز بنسبة 85% من الأصوات، وبعد أن عدل الدستور ترشح لولاية رئاسية ثالثة سنة 2009 في انتخابات رأت أطراف سياسية عديدة أنها محسومة سلفا لصالحه، فانتخب بأغلبية 90.25 %.
يرجع أنصار الرئيس الاستقرار الأمني النسبي الذي تعيشه الجزائر، إلى عبد العزيز بوتفليقة، فهو من أخرج البلاد من العنف والاقتتال
سنة 2014، أعيد انتخابه لولاية رئاسية رابعة بأكثر من 80% من الأصوات في انتخابات قاطعتها المعارضة وأدلى فيها هو بصوته على كرسي متحرك. وقبل أيام قليلة أعلن ترشحه لولاية رئاسية خامسة رغم مرضه ورفض المعارضة للأمر.
ويوتفليقة أحد القلائل الباقين على قيد الحياة من أبناء الجيل الذي شارك في حرب التحرير الجزائرية وقاد البلاد بعد الاستقلال عام 1962، وكان أصغر وزير خارجية سنا في العالم حين تولى المنصب إثر وفاة أول وزير خارجية للجزائر بعد الاستقلال محمد خميستي، سنة 1963، ويعدّ بوتفليقة، أكثر الرؤساء الذين عمروا في قصر المرادية، حيث بلغ 20 سنة من الحكم.
20 سنة من القمع
يرجع أنصار الرئيس الاستقرار الأمني النسبي الذي تعيشه الجزائر، إلى عبد العزيز بوتفليقة، فهو من أخرج البلاد من العنف والاقتتال وأنهى سنوات الفوضى الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيات، وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الجزائريين.
هؤلاء نسوا أو ربما تناسوا، أن هذا الاستقرار النسبي في الجانب الأمني، جاء على حساب الجزائريين المحبين للتغيير والراغبين في غد أفضل، فبحجة الحفاظ على الاستقرار الأمني تمنع المظاهرات والاحتجاجات في العاصمة ومدن جزائرية عدة.
بحجة الحفاظ على الاستقرار الأمني، يمنع على الجزائريين التفكير في التغيير، فما أن يشعر النظام برغبة الشعب في التغيير، حتّى يسارع في استعادة ملامح “العشرية السوداء” والفوضى الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيات، فتجده يحذّر مما يعتبره فوضى تؤدي حتمًا وفق تصوّره، لرجوع البلاد إلى حالة الاقتتال والعنف والفوضى، ودخولها في مغامرة سياسية وأمنية لا يعرف أحد عواقبها على البلاد وأهلها.
تتسم العلاقة بين الأمن والشعب الجزائري بالتوتر
كثيرا ما يستدعي الدائرين في فلك السلطة مصطلحات من قبيل “الفوضى”، “سنوات الجمر”، “عشرية الدم”، للدلالة على فظاعة الأحداث التي حصلت خلال تلك الفترة التي ما زلت ذكراها الأليمة ساكنة في عقول الجزائريين ممن شهدها أو حتى سمع عنها، كلّ ذلك لتفويت الفرصة على الجزائريين لاستعادة بلادهم.
يصرّ هؤلاء في خطاباتهم أمام المواطنين، على تأكيد ضرورة اتقاء العودة إلى الفوضى التي عاشتها البلاد في السابق، وذلك بالاصطفاف حولهم، وتبني خياراتهم فهي الوحيدة الكفيلة بإنقاذ البلاد من أزماتهم العديدة، رغم أنهم مسؤولون بدرجة أولى عن هذه الأزمات التي يعيش الجزائريين على وقعها منذ سنوات.
وما زالت السلطات الجزائرية تستدعي الملف الأمني، لقطع الطريق على أية محاولة للتغيير، حيث تصف كل من تسوّل له نفسه المجاهرة بالدعوة إلى التغيير بـ “المتربصين بأمن البلاد”، الواجب التصدّي لهم ووضع حد لنشاطهم حتى لا تنتقل “العدوى” إلى غيرهم.
ومنذ غياب بوتفليقة، تخضع السلطة السياسية لإشراف دائرة الاستعلام والأمن وعلى وجه الخصوص، الجنرال محمد الأمين مدين، المعروف باسم “الجنرال توفيق”. وتحت قيادته، تم تعيين أحمد أويحيى مدير ديوان رئاسة الجمهورية سنة 2014، ثم رئيسا للوزراء، في فترة شهدت توتر علاقته بعبد العزيز بوتفليقة.
اقتصاد عليل
طوال السنوات العشرين الماضية، لم يستطع الرئيس بوتفليقة الخروج من اقتصاد النفط، حيث بقي اقتصاد البلاد مقتصرا على النفط فقط، وهو ما يفسّر انهياره بمجرّد تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية في صيف سنة 2014.
وتعيش الجزائر منذ أكثر منذ قرابة 5 أعوام في ظل أزمة اقتصادية خانقة بسبب تراجع عائدات صادرات النفط والغاز التي تعتمد عليها البلاد بشكل شبه كلي، وتشير البيانات الحكومية إلى أن عوائد صادرات الطاقة انحدرت من نحو 60 مليار دولار في عام 2014 إلى نحو 38.34 مليار دولار سنة 2014، ولم تعد كافية لتسديد فاتورة الواردات السنوية.
وقد استفادت الجزائر من فورة أسعار النفط حتى عام 2014 إذ تمتلك احتياطات كبيرة من النفط والغاز، فقد بلغ احتياطي الجزائر من العملة الصعبة عام 2014 أكثر من 174 مليار دولار لكنها تراجعت إلى 82.12 مليار دولار، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بسبب تراجع عائدات النفط مع انهيار أسعارها. وتمثل عائدات النفط والغاز أكثر من 90 % من عائدات الجزائر من العملة الصعبة.
ما يسجّل خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة، الفساد الذي انتشر بصفة كبيرة ومسّ مختلف القطاعات في البلاد
وشهد احتياطي النقد الأجنبي نزفاً متواصلاً، خلال الولاية الأخيرة لعهد الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، في ظل توقعات رسمية بأن يواصل التراجع في الولاية الرئاسية المقبلة، وفقدت البلاد أكثر من نصف احتياطها، خلال السنوات الخمس الماضية.
ونتيجة هذه الأزمة، اضطرت الجزائر لطباعة الأموال ضمن مجموعة من التدابير المتعلقة باللجوء إلى ما يُعرف بـ”التمويلات غير التقليدية”، لسد عجز الموازنة العامة وتحريك عجلة الاقتصاد، وبلغ حجم الأموال التي طبعها البنك المركزي الجزائري 50 مليار دولار، منها 40 مليارا تم إقراضها للخزينة العمومية لسد عجزها الذي بلغ 31 مليار دولار، مطلع الشهر الحالي، فيما تبقت 10 مليارات معلّقة للعام الجاري.
ما يسجّل أيضا، نفاد رصيد “صندوق ضبط إيرادات الدولة” عند نهاية السنة، وهو صندوق أسسه الرئيس الجزائري مطلع عهدته الرئاسية الأولى سنة 2002 وخُصص لسد أي عجز تسجله الخزينة العمومية من خلال الأموال المودعة فيه، إلا أن الصندوق وجد نفسه فارغا، نهاية السنة الماضية، بعدما سحبت الحكومة الجزائرية جل ما فيه لسد عجز الخزينة العمومية.
خسائر كبرى نتيجة الاعتماد على اقتصاد الريع
إلى جانب ذلك، عرفت الجزائر طوال سنوات حكم عبد العزيز بوتفليقة، تهاوي لقيمة الدينار (العملة المحلية) إلى مستويات غير مسبوقة، حيث أصبح سعر الدولار الواحد حوالي 114 دينارا، بعدما كان لا يتعدى عتبة 80 ديناراً قبل سنتين، في حين بلغ سعر صرف العملة الأوروبية 123 ديناراً، بعدما كان لا يتعدى 105 دنانير، أما في السوق السوداء فقد تعدّى سعر صرف الدولار 187 دينارا، واليورو 220 دينارا.
فضلا عن ذلك ارتفاع قيمة العجز التجاري، في ظل ارتفاع واردات البلاد فوق عتبة 40 مليار دولار مقابل تراجع الصادرات. وحسب تقديرات رسمية، يستقرّ عجز مؤشر الميزان التجاري عند عتبة 6 مليارات دولار خلال عام 2018.
كما عرفت الموازنة العامة اخلالات كبرى، بعد أن كانت تحقق فوائض عالية، ويقدر حجم العجز للخزينة العمومية في البلاد عند نهاية السنة المالية 2018، بـ 31 مليار دولار، وذلك بعدما استهلت الخزينة السنة الماضية بتسجيل عجز مالي قياسي غير مسبوق، بنهاية فبراير/شباط الماضي، بلغ نحو 1.4 تريليون دينار (14 مليار دولار)، مقابل 413 مليار دينار (4.5 مليارات دولار) بنهاية نفس الشهر من سنة 2014 (قبل انخفاض إيرادات النفط)، أي بزيادة بلغت نسبتها 250 %.
فساد مسّ جميع القطاعات
ما يسجّل خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة، الفساد الذي انتشر بصفة كبيرة ومسّ مختلف القطاعات في البلاد، وأشار ترتيب مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تعده منظمة الشفافية الدولية إلى أن الجزائر قد تراجعت بحده إلى المركز 105 في تصنيف عام 2018، وذلك بعد أن كانت تحتل المرتبة 88 قبل ثلاث سنوات. وقد كان لهذا الفساد المتفشي بشكل متزايد آثار مدمرة على اقتصاد البلاد.
وقد أدى انتشار ثقافة الريع إلى استشراء ظاهرة الفساد عبر أجهزة الدولة، حيث ساهمت جهود مكافحة الفساد في الكشف عن بعض قضايا الفساد الضخمة أبرزها ما سمي بـ “فضيحة القرن” والتي تورط فيها الملياردير رفيق خليفة بتهمة الثراء غير المشروع، وهو الشاب اليافع الذي لا يتجاوز الـ 49 عاما وتمكن في ظرف سنوات قليلة من تأسيس مجموعة الخليفة.
إلى جانب قضية الخليفة، ظهرت قضية الطريق السيار شرق-غرب، وهي إحدى أكبر مشاريع البنى التحتية في البلاد والتي خصص لها في البداية نحو 6 مليارات دولار إلا أن المشروع استهلك أكثر من 17مليار دولار، ومن ثم، أصدرت محكمة جزائرية عام 2015 أحكاماً بالسجن على 14 شخصاً بتهمة الفساد في المشروع، وغسيل الأموال واختلاس الأموال العامة.
ضمن استراتيجيات الالهاء، اتبع النظام سياسة خلق المشاكل الجانبية كقرار تحرير بيع الخمور الذي أثار ضجّة مُجتمعية كبيرة
في عام 2015، برزت أيضا فضيحة فساد شركة سوناطراك، وهي إحدى أكبر شركات المحروقات في العالم، وقد تم توجيه اتهامات بالفساد ضد ستة متهمين منتمين للشركة قاموا بعمليات غسيل أموال بغية مواجهة الانخفاض الحاد في أسعار النفط.
وفي أوائل 2013، فتحت النيابة العامة في الجزائر العاصمة قضية “سوناطراك 2” عندما أمرت بإجراء تحقيق حول فساد محتمل شاب عقودا بين مجموعة “إيني” الإيطالية وسوناطراك يسود اعتقاد بأن وزير الطاقة السابق شكيب خليل متورط فيه.
وفي أخر ملفات الفساد التي تم الكشف عنها، قرّر قاضي التحقيق بالمحكمة العسكرية لمحافظة البليدة بالجزائر إحالة 5 جنرالات متقاعدين إلى الحبس الاحتياطي لاستكمال التحقيقات في تُهم تتعلَّق بالثراء غير المشروع واستغلال الوظيفة العمومية. وقد أمر بوتفليقة بالإفراج المؤقت والمشروط عن الجنرالات الموقوفين في انتظار محاكمتهم.
ارتفاع حجم الفساد في الجزائر
خلال سنة 2017، حذرت ثلاثة أجهزة مخابرات أوروبية دائرة الاستعلام والأمن الجزائرية، من أن “الحسابات المصرفية التي تضم مبالغ كبيرة تم فتحها لفائدة أشخاص يبدو أنهم من أصحاب المراكز الحساسة في الجزائر”.
ومنذ سنوات، يتساءل الجزائريون عن مصير ألف مليار دولار، وهي حجم مصروفات الحكومات الجزائرية في عُهدات الرئيس بوتفليقة، ومع ذلك لم تتمكن البلاد بفعل الفساد وغياب المحاسبة، من تحقيق أي إنجاز اقتصادي واجتماعي جدّي.
الفساد مسّ الثقافة، أيضا، فخلال 20 سنة بقي الجزائريون ينتظرون فيلم مؤسس الدولة الجزائرية الأمير عبد القادر، لكن لم يتم تصوير أي لقطة منه رغم صرف ملايين الدولارات، فيما تنتهي العهدة الرابعة بفضيحة فيلم العربي بن مهيدي، الذي صرفت عليه ملايين الدولارات وهو الآن مهدد بالتجميد بسبب الضغط على المخرج لتغيير بعض المشاهد التي اعتبرها حقيقة ويستحيل سحبها.
الهاء الشعب بسفاسف الأمور
إلى جانب سياسة التخويف، عمد النظام الجزائري طيلة العقدين الماضيين إلى إتباع سياسة الإلهاء، إذ كثيرا ما يعمد القائمون على الحكم على إلهاء الشعب بسفاسف الأمور حتى يجد متنفسا للقيام بعمليات الاختلاس والنهب دون أن يعترضه أحد.
وحافظ النظام، على تحويل انتباه الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية وإلهائه بمسائل تافهة لا أهمية لها، عملا بمقولة نعوم تشومسكي، “ابقوه مشغولا مشغولا دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى.” واعتمد النظام الجزائري لذلك، عديد الاستراتيجيات منها ضرب جودة التعليم المقدم للشعب، بشكل يعمق الفجوة بين تلك الطبقات والطبقات الراقية التي تمثل صفوة المجتمع، ويصبح من المستحيل على تلك الطبقات الدّنيا معرفة أسرار تلك الفجوة.
كما اعتمد أيضا على شخصيات قيادية عرفت بسذاجتها، فقد اختار الحزب الحاكم شخصيات بمثابة “المهرجين غريبي الأطوار” في لقاءاتهم وتصريحاهم مثل “عمار سعيداني” و “جمال ولد عباس”، و”معاذ بوشارب”.وضمن استراتيجيات الالهاء، اتبع النظام سياسة خلق المشاكل الجانبية كقرار تحرير بيع الخمور الذي أثار ضجّة مُجتمعية كبيرة، وقرار حذف البسمة من كتب التدريس، واعتماد اللهجة العامية في المدارس، وأيضا منع توريد بعض المنتجات التجميلية.
هذه بعض انجازات الرئاسة الجزائرية، التي ربما لن يتضمنها كتاب الحزب الحاكم المنتظر، ففيه سنجد فقط تأليها للرئيس المبجل عبد العزيز بوتفليقة، الرئيسالذي يطمح لحكم بلد المليون شهيد وهو مقعدا طريح الفراش لا يقوى على الحركة.